أمريكا والولاء للمصالح
21 ربيع الثاني 1426

المصالح الدائمة لا الصداقة الدائمة من ثوابت السياسة الأمريكية، فسادة البيت الأبيض على مر التاريخ لا يوجد في قاموسهم السياسي شيء اسمه الوفاء للأصدقاء مهما قدموا لهم من تضحيات قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الخيانة العظمى بحق أمّتهم، ففي أواخر القرن المنصرم وقبل انتهاء الحرب الباردة كان لأمريكا أصدقاء من زعماء ما يسمى بدول العالم الثالث، فلعلي و لضيق المجال أكتفي بذكر ثلاثة منهم فقط، إذ يأتي على رأس القائمة شاه إيران الذي تعد إيران في عهده الفك الشرقي للكماشة الأمريكية التي تريد إطباقها على دول المشرق العربي، فالطاووس كما كان يطلق عليه أعوانه تفاخراً، كان الحارس الأمين للمصالح الأمريكية بالمنطقة، فبالإضافة إلى دوره الفاعل في حماية أمن دولة يهود وضمان تدفق نفط الخليج العربي إلى الأسواق الأمريكية بأسعار زهيدة، كانت إيران أيام حكمه تمثل السد المنيع أمام تمدد الدب الروسي إلى المياه الدافئة (مصطلح يطلق على بحر العرب والمحيط الهندي).<BR><BR>ويأتي بعد شاه إيران (الرئيس الروماني) نيقولاي تشاوشيسكو الذي كانت بلاده عضواً مؤسساً في حلف وارسو، فقد قدّم هذا العميل لأمريكا من الخدمات ما تعجز أسلحتها النووية وترسانة صواريخها العابرة للقارات عن تحقيقه، فقد عمل مع آخرين على تفكيك حلف وارسو العدو الأول لحلف الأطلسي، كما قام بالدور البارز في إقناع زعيم أكبر دولة عربية بنبذ العداوة مع دولة يهود الأمر الذي أصاب الجبهة العربية بالانهيار، فلو لم يقدّم تشاوشيسكو لأمريكا إلا هذين العملين لكفياه.<BR><BR>أما الصديق الثالث فهو زعيم الدولة العربية المشار إليها آنفاً، فأمريكا تعلم أن مصر هي قلعة العرب الحصينة التي إذا سقطت تداعت من حولها كل الحصون الملحقة بها، ولهذا عملت على استدراج أنور السادات لإخراج مصر عن محيطها العربي مقابل وعود ماكرة لا تسمن ولا تغني من جوع، وابتلع هذا الزعيم الطعم المسموم، سواء بحسن نية أو بسوئها، مبتدئاً بإخراج الخبراء الروس من مصر، الأمر الذي أفقدها عامل الاستفادة من العداوة القائمة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي ومنتهياً بنبذ العداوة مع دولة يهود بواسطة اتفاقية كامب يفيد المشؤومة مما تسبب بانهيار كامل الجبهة العربية، وجعل اليهود ينفردون بالفلسطينيين يملون عليهم شروطهم باتفاقية أوسلو وأخواتها. <BR><BR>فهذه الخدمات وغيرها مما لم يرد ذكره لم تشفع لأصحابها عند الأمريكان، بل ذهبت أدراج الرياح. فشاه إيران عند ما لفظه الشارع الإيراني وأنزله الشعب من عرشه العاجي وقذف به إلى بلاد التيه، تخلّت عنه الدولة التي كان يقدّم مصالحها على مصالح شعبه، ولم تسمح له حتى بمجرد تلقي العلاج على أرضها.<BR><BR>أما تشاوشيسكو الذي سحله الرومانيون وزوجته في شوارع بوخارست لم يكتف الأمريكان بتخليهم عنه وقت محنته فقط ، بل كانت وسائل أعلامهم تصفه بالدكتاتور الذي نال القصاص الذي يستحقه على يد شعبه، كما تخلى الأمريكان عن أنور السادات في آخر عهده عندما شعروا أن الشعب المصري بجميع شرائحه قد ضاق به ذرعاً وأراد التخلص من استبداده، ومحاسبته على تفريطه بحقوق الأمة عندما وقّع اتفاقيته الاستسلامية مع اليهود، فلم يفوت الأمريكان الفرصة وهيئوا الجو المناسب للوصول إليه عن طريق عملائهم في مصر، فالمهاجمين لم يكونوا ضمن القوات المكلّفة بالعرض بمناسبة ذكرى حرب رمضان، ولم يكن مسموحا لهذه القوات بحمل الذخيرة الحيّة، ومع ذلك استطاع الملازم خالد الإسلامبولي ورفاقه تجاوز هاتين العقبتين، يضاف إلى ذلك وضع الحراسة المكلفة بحماية السادات، والتي لم تقم بعملها المطلوب لحمايته كما فعلت مع مساعديه الذين كانوا إلى جانبه وقت الهجوم على المنصة، فقد ألقوا جميعاً على الأرض ما عدا السادات الذي ترك واقفاً حتى أرداه رصاص المهاجمين.<BR><BR>ولا يعني هذا أن المهاجمين كانوا على علاقة بالمخابرات الأمريكية، وأنه كان هناك تنسيق مسبق فيما بينهم، كلا نستبعد ذلك ولكن أمريكا دائماً تحاول أن تستفيد من الفرص التي قد تحقق أهدافها حتى وان كانت من أعدائها، فمن البديهي أن تستغل رغبة الإسلاميين في الاقتصاص من السادات وتهيئ لهم سبل الوصول إليه بواسطة عملائها المتنفذين في القوات المسلحة. <BR><BR>فالسؤال الذي يفرض نفسه هو: هل استفاد الزعماء المتعاونون مع أمريكا مما حصل لأسلافهم؟<BR>المنطقة العربية في هذه الأيام تشهد تحولاً لم تعتده من قبل، فالجماهير في بعض البلدان العربية تخرج إلى الشوارع رافعة شعار التغيير، والمعارضة التي كانت تعبّر عن آرائها بالسر أصبح زعماؤها يعقدون المؤتمرات الصحفية ويطرحون مشاريعهم السياسية على الناس دون وجل أو خوف من بطش الأنظمة، وأمريكا التي كانت تحرّض أصدقائها من الحكام على قمع شعوبهم، أصبحت تتهمهم بالدكتاتورية وتأمرهم بإصلاح أنظمتهم الفاسدة وإعطاء الشعوب حقوقها التي تكفلها لها الديمقراطية على حد قول الأمريكان.<BR> <BR>أمريكا هي أمريكا فلم تكن اليوم أفضل منها بالأمس، ولكنها علمت أن الشعوب وعت رشدها وضاقت ذرعاً باضطهاد الحكام الفاسدين، وأرادت أن تخرج من استعبادهم إلى عبادة رب السماوات والأرض، فما كان من حامية الصليب إلا أن تجاري التيار حتى وإن أدى ذلك إلى التضحية بأصدقائها. <BR><br>