العواصم الغربية تريد التعلم من الزلزال الفرنسي
14 شوال 1426

تزدحم الدول الأوروبية بملايين المهاجرين الذين وفدوا إليها من الدول الفقيرة والنامية بحثا عن لقمة العيش وفرص أحسن للحياة.<BR>و في الدولة الأوروبية الواحدة يوجد مهاجرون من مختلف الانتماءات العرقيّة والدينية, فقسم من المهاجرين تعود أصولهم إلى العالم العربي والإسلامي, وآخر تعود أصوله إلى الدول الإفريقية وأمريكا الجنوبية وغيرها من الدول الفقيرة, والذي يجمع بين هؤلاء المهاجرين هو انتماؤهم إلى دول عاجزة اقتصاديا وتنمويّا, صحيح أنّ بعض المهاجرين الذين وفدوا إلى أوروبا فرّوا من بلادهم لأسباب سياسية وحصلوا على حقّ اللجوء السياسي وبالتالي حقّ الإقامة الدائمة إلاّ أنّ عدد هؤلاء محدود, ويبقى مصطلح اللاجئ الاقتصادي هو الذي يميّز معظم المهاجرين في الغرب.<BR><BR>و على الرغم من أنّ ظاهرة الهجرة إلى الغرب قديمة وترتبط أحيانا باحتلال بعض الدول الغربية للعالم الثالث حيث هاجر كثير من المستعمَرين – بفتح الميم – إلى الدول المستعمِرة – بكسر الميم – بحثا عن العمل, إلاّ أنّهم ظلوا مهمشّين ويعيشون على هامش المجتمع في مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وحتى السكنيّة والعمرانية.<BR>و المشكلة لم تكن تكمن في هؤلاء المهاجرين الذين بذلوا ما في وسعهم للانخراط في المجتمع الغربي والأوروبي, بل إنّ المشكلة وفي أحايين كثيرة كانت تكمن في المجتمع الأوروبي نفسه والذي نجح في إزالة جدار برلين الشهير بين الألمانيتين الشرقية والغربية, لكنّه لم يتمكّن من إزالة الجدار العازل بينه وبين المهاجرين الوافدين الذين أصبحوا وأولادهم مواطنين غربيين يفترض دستوريّا أن يتمتعّوا بنفس حقوق المواطنين الأصليين. <BR><BR>ويلحظ بعض الساسة الأوروبيين المنصفين ذلك, ومنهم منى سالين وزيرة الإندماج السابقة في السويد التي تقول: أننا "صرفنا ملايين الكرونات – الكرونة هي العملة السويدية الرسمية – لإقناع المهاجرين بضرورة الاندماج في المجتمع السويدي, وكان يفترض تقول الوزيرة السويدية أن نفعل العكس أي أن نصرف هذه المبالغ الطائلة على السويديين لإقناعهم بضرورة قبول المهاجرين واستيعابهم".. <BR>و إذا كانت ظروف المهاجرين تختلف من دولة أوروبية إلى أخرى إلاّ أنّ المشاكل التي يعاني منها مهاجرو فرنسا هي عينها المشاكل التي يعاني منها مهاجرو السويد والدانمارك وبريطانيا وبلجيكا وغيرها من الدول الأوروبية. <BR>فالمهاجرون في الدول الغربية لم يعزلوا من أسواق العمل والخرائط الإعلامية والساحات السياسية الرسمية والمعارضة والمؤسسات الرسمية والمشاهد الثقافية والأدوار الصغرى والكبرى في تفاصيل الحياة الغربية فحسب بل عزلوا عمرانيا أيضا, حيث أصبحت لهم أحياؤهم الخاصة ومحافظاتهم الخاصة وعماراتهم الخاصة والتي فرّ منها كل المواطنين الأصليين الذين لا يستسيغون العيش في محيط اجتماعي تقطنه أغلبية مسلمة أو عربية أو إفريقية أو تركية وما شابه..<BR>وهذه الظاهرة موجودة في أقصى جنوب أوروبا كما في أقصى شمالها, فالمهاجرون في فرنسا يقطنون في أحياء فقيرة ومعزولة تماما كما كان يسكن أجدادهم في البيوت القصديرية والأكواخ الخشبية غير الموصولة بالكهرباء وهم الذين شيدوا أجمل العمارات والأحياء الفرنسية.<BR><BR>وفي السويد فإنّ أحياء روزنغورد في جنوب السويد وغوتسندا في وسطها ورنكبي المتاخمة للعاصمة السويدية ستوكهولم تكاد تكون حكرا على المهاجرين الذين أصبحوا يقطنون في كانتونات معزولة اجتماعيا عن المجتمع السويدي, وفي مشهد أحد الأفلام السويدية يقول ممثل سويدي لصديقه:"هنا السويد وهناك روزنغورد" في إشارة إلى المنطقة السكنية التي يقطنها مهاجرون من تركيا والعراق وفلسطين ولبنان والصومال وإرتيريا وغيرها, ولسان حال الممثل السويد شيء وحي رزنغورد ذي الأغلبية المهاجرة شيء آخر. <BR><BR>و نفس المشهد يتكررّ في دول الإتحّاد الأوروبي حيث بات المهاجرون معزولين بثقافتهم ولغتهم وعاداتهم وتقاليدهم في كانتونات خاصة, ويشير أصحاب شركات البناء الخاصة والمشرفين على سياسة الإسكان إلى أنّ المهاجرين كلمّا سكنوا في عمارة أو حيّ يقطنه مواطنون غربيون أصليون, يبدأ هؤلاء بمغادرة العمارة أو الحيّ لعدم تحملّهم العيش مع الآخر العربي والمسلم والإفريقي والإنسان الثالثي – نسبة إلى العالم الثالث - بشكل عام. <BR>وقد تحولّت هذه الكانتونات المعزولة إلى جزر منفصلة عن الواقع الأوروبي وخارجة عن إطار الاهتمام الرسمي, وحتى الرسميون الغربيون لا يترددون على هذه الكانتونات إلاّ في مواسم الانتخابات في محاولة لشراء أصوات المهاجرين من العرب والمسلمين والثالثيين بوعود سرعان ما تتبخّر بعد الانتخابات! <BR>و البطالة تفتك بالمهاجرين إلى درجة أنّ عدد البطّالين المهاجرين بلغت في معظم الدول الأوروبية أزيد من الثمانين بالمائة, والعدد الضحل الذي تسنى له أن يعمل, فهو يعمل في قطاع التنظيفات وتغسيل الصحون ورعاية العجزة وإلباسهم الحفاظات وهو العمل الذي يقرف منه الأوروبي نفسه, ونصف هؤلاء يعملون بالأسود أي غير مسجلين في دوائر الضمان ولا يملكون حقوق العامل الرسمي في التعويضات والعطلة السنوية والعطلة المرضية وغير ذلك. وهذه الحالة هي التي جعلت بعض الباحثين الغربيين يقولون:بأنّ المهاجرين في الغرب مواطنون من الدرجة الثانية وهم يعيشون على الهامش, ويعيشون بفضل الضرائب التي يدفعها الغربيون لحكوماتهم,وهم يشيرون بذلك إلى المساعدات الاجتماعية التي يتلقّاها البطالون المهاجرون. <BR><BR>كما أنّ الاستطلاعات الغربيّة كشفت أنّ أسواق العمل في الغرب هي عنصرية بالأساس ولا تقبل أصحاب الأسماء العربية والإسلامية والأجنبية بشكل عام أو ذوي الشعر الأسود وهي التسمية التي تطلق على المهاجرين في بعض الدول الغربية. <BR>و أغلبية المهاجرين محرومون من العمل في القطاع الخاص حيث يفضّل أرباب العمل الخواص أبناء وطنهم الذين يتقنون لغتهم وعاداتهم وثقافتهم, ومحرومون من العمل في القطاع العام الذي يعطي الأولوية دوما للمواطنين الأصليين.<BR>و قد لجأت صحيفة سويدية شهيرة هي جريدة داغينس نهيتر أو أخبار اليوم باللغة العربية إلى حيلة ذكيّة لكشف عنصرية أسواق العمل في السويد, وكلفت أربعة شباب, اثنان منهما سويديان أصليان, واثنان سويديان من أصول مهاجرة ويحملان أسماء أجنبية, ويملكان مؤهلات علمية أفضل من التي يحملها السويديان الأصليان, وكلف الشباب الأربعة بالاتصال بأسواق العمل وأصحاب الإعلانات عن الوظائف الشاغرة من خلال مكاتب العمل والصحف, فكانت النتيجة أن حصل السويديان الأصليان على عمل فيما رفضت طلبات السويديين من أصول مهاجرة, رغم أنّ مؤهلاتهما العلمية أفضل بكثير من مؤهلات نظرائهما السويديين.<BR>وإذا كان الجيل الأول من المهاجرين راض بقسمته كما يقال, نظرا لأنّ مستواه التعليمي محدود للغاية, فإنّ الجيل الثاني من المهاجرين من الجيل الثاني والثالث حصلوا على مستوى تعليمي رفيع ويحمل أبناء الجيلين أرقى الشهادات العلمية ومع ذلك لم يجدوا مكانهم في خارطة أسواق العمل, ورغم اجتهاد الجيل الثالث كثيرا في سبيل تأكيد ذاته وجدارته إلاّ أنّه ظلّ ملفوظا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا.<BR> والحثالة التي تحدثّ عنها وزير الداخلية الفرنسي هي التي أوصلت فرنسا إلى أعلى المستويات على صعيد الرياضة وحتى الثقافة, أليس زين الدين زيدان أحد أبناء الأحياء الفقيرة في فرنسا ولولاه لما حظيت فرنسا بلقب بطل العالم في كرة القدم, وهناك الآلاف من أمثال زيدان وفي مجالات أخرى غير الرياضة.<BR>وفي أوروبا فإنّ الرسميين فيها ولدى الحديث عن التشكيلات الوزارية عقب الانتخابات يرفض الكثير منهم تولّي حقيبة وزارة الهجرة والاندماج لتعقيدات ملفاتها والإخفاق الذي منيت به سياسة الاندماج في أوروبا على مدى سنوات عديدة. <BR>وبعد الأحداث الفرنسيّة التي تعّد الأولى من نوعها في تاريخ فرنسا وأوروبا بدأت الحكومات الغربيّة تعيد قراءة ملفات الهجرة والمهاجرين على أمل تحقيق اندماج حقيقي للمهاجرين في المعادلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية, والحؤول دون انفجار الوضع في أي لحظة, خصوصا وأنّ ما يعاني منه مهاجرو فرنسا من بطالة وتهميش وعنصرية هو عينه ما يعاني منه مهاجرو الدانمارك والنرويج والسويد وبريطانيا وبلجيكا وإسبانيا وفنلندا وغيرها..<BR>لقد بات العديد من المهاجرين في الغرب يعانون من عقدة المساعدة الاجتماعية أو الشحاذة الحضاريّة كما يسميها المهاجرون أنفسهم, فالشحّاذ في العالم العربي يمدّ يده ويصرخ: للّه يا محسنين, والمهاجرون من عرب ومسلمين وأفارقة في الغرب يعبئون طلبا كتب على أعلاه المساعدة الاجتماعية ويسلمونه لدوائر المساعدات الاجتماعية في الغرب والتي لا تعطي هذه المساعدة فورا بل تحققّ مع طالبها في تفاصيل حياته وتملي عليه شروطا قاسيّة, حيث يصبح المهاجر طالب المساعدة عبدا لهذه المؤسسة الاجتماعية التي ترسم له برنامج حياته على مدار السنة وقد تجبره على ممارسة عمل يتنافى مع اختصاصه من قبيل تنظيف المراحيض وتغيير حفاظات العجزة في دور العجزة مقابل هذه المساعدة الطفيفة التي تسميها المؤسسات الاجتماعية: مساعدة الأكل, أي لشراء الحاجيات الغذائية للمهاجر.<BR>وعدم قدرة المهاجر على إنتاج لقمته جعلت الغربيين في كل الدول الأوروبية يتعاملون معه كمعاق اجتماعي واقتصادي وهو الأمر الذي يفجّر الغضب النفسي لدى معظم المهاجرين الذين ضاعت سنيّ حياتهم في أروقة مؤسسات المساعدات الاجتماعية..<BR>وفي الوقت الذي تقدّر فيه هذه المساعدة بحوالي 200 دولار أمريكي للفرد الواحد وإلى 300 دولار أمريكي في الشهر, فإنّ الفرد الأوروبي العامل يجني شهريّا أزيد من 2000 دولار أمريكي, وهو الأمر الذي وسعّ الفارق الطبقي بين المهاجرين الأوروبيين والمواطنين الأصليين. <BR>وفي الوقت الذي لا يقدر فيه المهاجر أن يشتري حاسوبا لابنه أو الثياب الجديدة من المحلات الحديثة بل يذهب إلى محلات الثياب الباليّة ومحلات الثياب المستعملة لشراء النعال والثيّاب, فإنّ المواطن الأوربي يقتني ثيابه من أرقى المحلات. <BR>وهو الأمر الذي كشفت عنه دراسة سويدية عندما أوضحت أنّ أبناء المهاجرين محرومون من أشياء كثيرة وهم في حالة فقر دائم في دولة الرفاهيّة..<BR>ودرءا لتكرار الزلزال الفرنسي تسعى الدول الغربية إلى تفادي الأسباب التي أفضت إلى هذا الزلزال ولذلك فقد فتح سياسيّوها نقاشا موسعا مع المهاجرين لطرح قضاياهم, وهي فرصة أمام المهاجرين لتصحيح وضعهم وخروجهم من دائرة الشحاذة الحضارية إلى دائرة الفعل الحضاري....<BR><BR><br>