جولة التخبط الأمريكى
27 شوال 1426

الإدارة الأمريكية المترنحة تحت الضربات المتلاحقة الداخلية والخارجية، بعثت بالآنسة رايس في جولة في البحار العربية والآسيوية، في محاولة لحصار النتائج السلبية للإخفاقات المتتالية للسياسة الخارجية الأمريكية.<BR>ولكن يبدو أن السيد بوش نسى أن يزود آنسته ببوصلة، فبينما تتعرض السياسة الخارجية لإدارة بوش لهجوم شرس من الداخل ويطالبه مجلس الشيوخ بوضع استراتيجية لا يمتلكها للخروج من العراق، التي تتقلص الأطراف المشاركة للعدوان الأمريكى فيه يومياً، والتي ستتعرى تماما بانسحاب وشيك للقوات البريطانية واليابانية، وتحاول بريطانيا في نفس الوقت استخدام تصاعد المقاومة الأفغانية لتوسيع رقعة نفوذها عبر زيادة قواتها في أفغانستان وقيادتها القادمة لقوات التحالف الاستعماري المشكلة بقرار من الأمم المتحدة، يحاول بوش استغلال خوف الأنظمة في جزيرة العرب من تمدد النفوذ الشيعي، واستعداد أنظمة أخرى لقبول الشروط الأمريكية للبقاء، ويضغط عليها بملفات حقوق الإنسان، ويعود في العراق لاستخدام أوراقه التي سبق أن أحرقها بنفسه فيقدم الجلبي والباجا جي في فيلم هوليودي قديم ومعروف الأحداث والنهاية، بينما قوات احتلاله تصلى نار المقاومة المتزايدة استعارا، وتفتضح حتى في الساحات الدولية الممارسات الهمجية لها في العراق إلى الحد الذي دفع بالأمم المتحدة ـ الحريصة جداً ـ على عدم إحراج الولايات المتحدة، إلى إدانة ممارسات قوات الاحتلال الأمريكية والقوات العراقية العميلة ضد الشعب العراقى.<BR><BR>وبينما تقف إيران على عتبات مشروع حلف إقليمي يهدد مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي اعتمدته الإدارة الأمريكية كركيزة لسيطرتها على المياه الدافئة ومصادر النفط الأساسية، لتأكيد وتثبيت قيادتها للمنظومة الدولية في عالم ما بعد الحرب الباردة، تحاول رايس الضغط على ما تقدر أنه أضعف حلقات مشروع الحلف الإيراني الصيني الروسي في سوريا، لتصب النتائج في الحقيبة الفرنسية لا الأمريكية.<BR>ولم يعد أمام رايس في هذا الإبحار العشوائي سوى الخروج بنتيجة ما في فلسطين، حيث يستعجل الصهاينة الوصول إلى نتائج معقولة قبل التدهور المتوقع في موازين القوى الإقليمية عقب الانسحاب ـ أو الهزيمة ـ التي تلوح بشائرها في الأفق لخطة الفوضى البناءة الأمريكية في المنطقة العربية، وهو ما دعا رايس لتمديد بقائها لممارسة المزيد من الضغط على السلطة الفلسطينية للقبول بصيغة منقوصة للسيطرة على معبر رفح الحدودي، وطريق الربط بين غزة والضفة الغربية، والميناء والمطار، بعد أن هدد مبعوث الرباعية بالتنحي عن المهمة بسبب التراجع الصهيوني عن ما تم الاتفاق عليه في المحادثات الماراثونية التي استغرقت ستة أشهر، وكان انسحابه سيضع أوروبا والأمم المتحدة وروسيا ـ أطراف الرباعية الآخرين في مواجهة مع التعنت الصهيوني الأمريكي، وقد استخدمت رايس كل ما تملك من أوراق الضغط على أبي مازن، بما فيها تدخلات الدول العربية ذات التأثير على القرار الفلسطيني حتى لا تعود بخفي حنين.<BR><BR>الإدارة الأمريكية تبدو كمن يحمل قربة مليئة بالثقوب، وكلما حاول سد أحدها بإصبع تسرب الماء من الثقب الآخر، وقد بدأت جولة رايس فى البحار العربية الساكنة (ولو على المستوى الرسمي) لاكتساب بعض المصداقية قبل المرور بآسيا التي تمثل صداعاً دائماً للمخططات الاستراتيجية الأمريكية المرتبكة، خاصة بعد الظهور المتنامي لروسيا والصين كقوى إقليمية طامحة في إقرار نظام دولي متعدد الأقطاب، ذات مصالح دولية متعارضة مع الانفراد الأمريكي بالهيمنة، وتمتلك قدرات بشرية وعسكرية وتكنولوجية كافية لحماية تطلعاتها، ولعل العجز الأمريكي إزاء الأزمة النووية الكورية، والإيرانية خير معبر عن هذا الواقع، وتأتى هذه التحركات بعد أن منيت السياسة الأمريكية في قمة الأمريكتين بهزيمة مؤثرة جديدة في حديقتها الخلفية ـ أمريكا الجنوبية ـ ويبدو أن المساحة التي سيدور عليها الصراع بين القوى الكبرى في العالم آخذة في التقلص بشكل مستمر، فدول شرق أوروبا والتي انضمت بالفعل للاتحاد الأوروبي كانت حتى الأمس القريب منطقة صراع بين روسيا وأوروبا وأمريكا.. وأمريكا الجنوبية تتجه نحو تكوين تكتل اقتصادي ضد النفوذ الأمريكي، وروسيا التي أفاقت أو تكاد من دوار سقوط إمبراطوريتها السوفيتية بدأت البحث عن مجالها الحيوي وامتداداتها الاستراتيجية بكثير من الجدية، والصين التي تحقق أعلى معدلات النمو الاقتصادي منذ عقدين من الزمان، وتمتلك قوة بشرية وعسكرية، وتواصلاً تاريخياً مع العديد من مناطق النفوذ الأوروبي أو الأمريكي في محيطها الإقليمي، تعمل هي الأخرى على تأمين مصالحها وعمقها الاستراتيجي في مواجهة الآخرين.<BR><BR>لم يبق في رقعة المعمورة إذن سوى المنطقة العربية، والعالم الإسلامي، وإفريقية.. وكانت الاستراتيجية الأمريكية قد وضعت لهذه المناطق مستندة إلى قاعدة التفوق الأمريكي المطلق، الأمر الذي انعكس على الخطط الأمريكية ـ خاصة في المنطقة العربية ـ بوضع خطط الهجوم السريع لحسم الأوضاع دون العناية الكافية بخطط المراوغة والانسحاب، سواء لتجاهل تلك الخطط للمقاومة المحتملة للقوى الداخلية لتلك المناطق، أو للعراقيل التي يمكن أن تسببها الدول الكبرى الأخرى للدفاع عن مصالحها الاستعمارية التاريخية، ويبرز النموذج العراقي حالة مثالية للتخبط الأمريكي لبروز العناصر غير المحسوبة في خطط الهجوم الأمريكية، سواء على المستوى السياسي أو العسكري.<BR><BR>لهذا تأتى الجولة الأخيرة لرايس مرتبكة الخطوات، فاقدة للاتجاه، تضغط على الحلفاء التي لم يعد يؤازرها في المنطقة غيرهم، وتسعى لبدائل محليين لهم ثبت فشلهم في العراق، وهم أضعف في بلدان المنطقة الأخرى من نظرائهم العراقيين، في إطار ما سمي بنظرية الفوضى الخلاقة، بل أن الوقائع تثبت أن البديل الذي يبرزه الإخفاق الأمريكي المتكرر، هو بديل رافض لكل أنماط السيطرة والخضوع.. فالإبحار الأمريكي العشوائي هو المقدمة الطبيعية لسقوط الرخ الأمريكي في بحار التيه.<BR><br>