سري للغاية: الرئيس بخير
14 ذو القعدة 1426

على الرغم من البيانات التي أصدرها قصر المرادية بالجزائر العاصمة حيث مقر الرئاسة تؤكد بلغة صريحة لا تقبل تأويلات كثيرة أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة المقيم منذ أيام بالمستشفى العسكري "فال دو غراس" في فرنسا "في حالة صحية جيدة" بعد أن عرف في المدة الأخيرة: "مشكلات في الجهاز الهضمي" إلا أن قلة هذه البيانات بالإضافة إلى عدم تفكير السلطات عندنا في دعمها بصور تقطع الشك باليقين، ساهمت إلى حد بعيد في أن تتطور الحكاية لدى الشارع الجزائري من خلال نزوع هذا الأخير إلى محاولة إيجاد تفسيرات وتأويلات محتملة لم تخلُ أغلبها حتى من الغرابة.<BR><BR>الجزائريون الذين هم في عمومهم مقتنعون أن جزءاً كبيراً من الحقيقة قد تم إخفاؤه عليهم، بادروا وفق ما اشتهر عنهم من شهية كبيرة في تداول الإشاعات إلى التنافس في ميدان التحليل بما أن بلادنا هي الأخرى مثل عموم بلاد العالم المتخلف تنبني فيها مواقف الرأي العام بالاعتماد على تلك الأحاديث التي ترد بصيغة "بلغنا أنه يُقال" أكثر من اعتمادها على البيانات التي تصدرها الجهات الرسمية حتى وإن كانت النتائج التي تؤدي إليها مثل تلك الاستقراءات البسيطة، غير ممكنة لا عقلاً ولا حتى في الخيال العلمي.<BR><BR>في التاريخ القريب للجزائر، نستطيع أن نلحظ أن (الرئيس الأسبق للجمهورية) هواري بومدين الذي توفي نهاية العام 1978م كان قد اختفى عن مسرح السياسة وعن النشرة الإخبارية لمدة قاربت الثلاثة أشهر حتى صار أمر اختفائه لا يحتمل التورية وصار مرضه في درجة الميئوس من حالته بمعنى أن الجزائريين لم يسمعوا شيئاً عن حالة الرئيس الخطرة إلا قبل موعد الرحيل بأيام قليلة. لأجل هذا لا يرغب الجزائريون في الاطمئنان على صحة الرئيس بوتفليقة حتى يخبرهم هو بنفسه أنه بخير إذ إنهم ببساطة لا يصدقون بيانات الرئاسة ولا يعيرونها أية أهمية، ولعل أوضح أمارات هذا التكذيب العلني تلك الأسئلة التي وجهتها الصحافة الجزائرية التي تكفلت بتغطية قمة برشلونة الأخيرة لدول "اليوروميد"، إلى الرئيس شيراك باعتباره -في أسوأ الحالات- أقل جرأة على الكذب لو لا أن هذا الأخير تهرب من الأمر وأجاب بأسلوب دبلوماسي أن القضية جزائرية بحتة لا دخل له بها ولا رغبة لديه في أن يتولى أمر الحديث باسم الدولة الجزائرية.<BR><BR>لقد تداول الجزائريون بأيام قليلة سبقت دخول الرئيس المستشفى والإعلان رسميا عن حالته الصحية، أخباراً، نسميها عندنا "إذاعات الأرصفة"، تحدثت بما يفيد أن الرئيس يعاني من قصور كلوي، ثم تطورت الحالة إلى معاناة "فخامته" من سرطان في الكلية إلا أن هذه الحكايات تعززت حينما تدهورت صحة الرئيس واستلزم الأمر قيامه بفحوصات لدى قسم المسالك البولية في مستشفى "عين النعجة" العسكري بالعاصمة، والذي هو أرقى مؤسسة استشفائية في البلاد على الرغم من أنه لم يتم الإعلان عن أي أمر، وبقيت الكشوف سراً لم يتمكن أحد من تسريبه من بين أيدي مصالح أمن الرئاسة التي لم تتأخر وقامت بنقل الرئيس على جناح السرعة إلى المستشفى الفرنسي سالف الذكر.<BR><BR>الأمر شبيه جداً بحالة الرئيس بومدين الذي حينما تدهورت صحته جرى نقله إلى موسكو وظل فيها لأسابيع طويلة من غير إعلام الجزائريين بذلك إذ لم يكن من حقنا وقتها سوى الاقتناع بالرواية الرسمية التي تفيد أن: "الأخ قائد مجلس الثورة بصدد القيام برحلة عمل وصداقة في الإتحاد السوفييتي" وهذا طيلة المدة بين شهري تشرين الأول/أكتوبر وكانون الأول/ديسمبر 1978م، ولم يسمع أحد عن المرض إلا حينما صادف أن أعلنته وكالة الأنباء الفرنسية التي كانت إحدى موظفاتها مسافرة على نفس الطائرة التي كان بها عبد العزيز بوتفليقة حينما كان وقتها وزيراً للخارجية، والذي فسر لها غياب بومدين بقوله: "إن الرئيس بومدين إنسان هو الآخر ومن حقه أن يكون مريضاً أحياناً".<BR><BR>لقد كانت هذه أول مرة يسمع فيها الجزائريون بأن رئيسهم بومدين مريض، ولكنهم لم يطلعوا على أن هذا المرض خطير إلا حينما أدرك سكان العاصمة أن بومدين قد عاد إلى أرض الوطن وأنه نزيل غرفة العناية المركزة في المستشفى. كانت لحظات عاطفية مؤثرة، لم يكن في مقدور الجزائريين، وأنا منهم، في تلك الأيام سوى التجمهر على مدار الساعة حول بناية المستشفى الذي كان فيه بومدين والدعاء له بالشفاء على الرغم من أن القضاء كان قد نزل حينها لأن بومدين دخل في تلك الأثناء حالة الغيبوبة منذ الثامن عشر من نفس هذا الشهر ولم يستفق منها حتى أعلن بعدها بتسعة أيام أنه: "أسلم الروح إلى بارئها".<BR><BR>ما زال الجزائريون إلى الساعة غير متفقين على سبب تلك الوفاة إذ إن أسبابها في نظرهم، كثيرة جداً ومرد هذا بكل تأكيد غياب أي قدر من التواصل بين مؤسسات الدولة ومواطنيها بما أن تلك الحالة لم تتغير وما يزال ذات الشعب -و هو ليس حالة فريدة بكل تأكيد- يتداول التفسيرات التي تبدعها المخيلة "الخصبة" لأفراده.<BR><BR>الحالة مع بومدين لم تكن الأخيرة، فـ(الرئيس السابق) اليمين زروال كان هو الآخر قد عرف حالات صحية صعبة فهو مثلاً كان قد دخل المستشفيات الأوروبية لمرتين متتاليتين الأولى في العام 1996م في إسبانيا حينما كان يعاني من آلام في إحدى رجليه، والثانية كانت في سويسرا في العام الذي تلا ذلك حينما كان ملزماً بإجراء عملية جراحية على عينه.<BR><BR>إن باقي بلاد العالم "المتطور" أيضاً يحكمها أفراد معرضون لوعكات صحية، وهذا ما حدث مع الرئيس شيراك نفسه مؤخراً، ولكن المؤسسات الرسمية هناك كانت تبادر منذ أول وهلة إلى إطلاع الرأي العام بكل التفاصيل التي تهمه من غير أن تترك أي هامش تناور فيه الإشاعة وأحاديث "سمعنا".<BR><BR>ينبغي، للأمانة، الاعتراف أن الحالة هذه المرة ليست كمثل حالة بومدين من كل جوانبها فلقد جرى الإعلان عن دخول الرئيس المستشفى إلا أن التعتيم الذي ما يزال يلف كل حيثيات القضية يعيدنا عقوداً إلى الوراء، ويمنح بالتالي المجال لكل التأويلات التي لا شك أن سببها الأول هو اضطرار الرئيس إلى المكوث في فرنسا مع أنه يفترض أن المنظومة الصحية الجزائرية قادرة على التكفل بهذا الأمر ما دام المرض لا يدعو إلى القلق وفق أقوال رئيس الحكومة.<BR><BR>تجدر الإشارة إلى أن الكل هنا لاحظ أن هذا الأخير، المدعو أحمد أويحيى، صار هو الرئيس بالنيابة حتى وإن كان هذا الأمر غير طبيعي أيضاً بما أن الدستور الجزائري يقر أن نائب الرئيس، على الرغم من عدم وجود المنصب رسمياً، هو رئيس مجلس الأمة، وإن كانت المادة التي تتحدث عن هذا لا تشير إلى مثل الوضع الحالي، وإنما تتحدث فقط عن حالة "شغور منصب الرئيس"، والتي تقع بالوفاة أو بالمرض الذي لا يمكن علمياً، الخلاص منه.<BR><br>