أين تقع أمريكا؟!
28 ذو القعدة 1426

هل في مقدور أمة هي في مثل عظمة وقوة الولايات المتحدة أن تعيش وتحافظ على سير دواليب اقتصادياتها من غير الحاجة إلى الحروب والدخول في نزاعات دولية هي في أغلب الأحايين، مفبركة ومعدة مسبقا لكي تلعب فيها ترسانتها العملاقة دور البطل الذي يضحك في الأخير؟ ما قدرة أمريكا على التخطيط واستشراف متطلبات تلك الورش المفتوحة والمنتشرة على طول الكوكب وحتى خارجه؟ إنه لمن العسير حقا تفهم هذه الوضعية وهذه النزعة "الحروبية" وتوقع نهاية لها باستبعاد نهاية النظام الذي تقوم عليه هذه القوة الاستعمارية نفسها. إنه لمن غير الممكن علميا لنا أن نتوقع نهاية هذه الحالة دون أن نقرن الأمر باستحالة استمرار هذه الليبرالية التوسعية التي صار يدخل في نطاق البديهة حاليا رأي يجمع عليه كبار علماء الاجتماع والديموغرافيا، والذي مفاده أن هذا النمط من الحكم صائر نحو الانحلال والزوال.<BR><BR>على الصعيد الداخلي، تحارب الولايات المتحدة "الإرهاب" الذي أخذ أكبر قدر من اهتمامها منذ وقوع الهجمات على البرج التوأم، رمز عزها ودليل تحقق "الحلم الأمريكي" والذي يفترض أنه كان يرمز إلى تقارب الفرص بين كل أفراد المجتمع على اختلاف أصولهم وألوان بشرتهم وأيضا، على اختلاف الروائح المنبعثة من أموالهم. لقد أوجد ذلك المصاب الجلل لدى الأمريكان صدمة جعلتهم يستفيقون على الوهم الكبير الذي عاشوا فيه لعقود طويلة مثلما عبر على ذلك (رئيس وزراء بريطانيا) توني بلير، بقوله: "في 11 أيلول، تطاير الوهم، زالت تلك الفكرة التي كان الغربيون معها يعتقدون أنه في إمكانهم العيش بسلام مهما كانت حالة باقي العالم".<BR><BR>لقد ضربت الولايات المتحدة في مقتل واستفاقت متأخرة بعض الشيء لتدرك كيف أنه في مقدور الآخرين أيضا أن يوظفوا الأيديولوجيا بعد أن كانت في سابق عهدها تعتقد أنها الوحيدة القادرة على فعل ذلك بما أنها كانت أول من لجأ إلى هذا الأسلوب حتى تحقق لها إسقاط جدار برلين ووضع نهاية للحرب الباردة التي كانت لها ذريعة انتخابية تتجاذبها القوى السياسية فيها كل مرة ويقيس الأمريكيون عبرها، درجة أحقية كل مرشح لقيادة سفينتهم.<BR><BR>إن أمريكا التي لا تحكمها في الواقع غير لوبيات المصالح وأجندات أرباب المال والأعمال حتى وإن تسترت تلك الحقيقة طويلاً وراء ثقافة "حرية الاعتقاد"، صارت بعد ذلك مجبرة على أن تواجه النزعة الاستهلاكية الجارفة التي باتت الثقافة الوحيدة فيها بعد أن توضح أمامها بجلاء أن مواردها الطبيعية صارت مهددة وبالتالي صار من ضوابط أمنها القومي أن تسعى إلى الحصول على مزيد من "الغذاء" حتى ولو اقتضى الأمر إفقار قارات أخرى بكاملها. صار لزاما على أمريكا أيضا أن تلاحق بارونات المخدرات والسلاح مع ملاحظة أنها تدرك أنها الموئل الأخير لأموال هؤلاء في منظومتها البنكية. وأخيرا صارت الولايات المتحدة أيضا ملزمة على أن تواجه الأخطار الطبيعية التي تضرب سواحلها وترفع درجة التأهب إلى أعلى قيمها في كل مرة يعلن خبراء الأرصاد الجوية فيها أن كارثة جديدة هي قيد التكون في مكان ما فوق المحيطات.<BR><BR>تواجه أمريكا أيضاً البطالة التي تضرب على وجه خاص، ملايين السود الذين لا يختلف مستوى عيشهم عن بقية فقراء العالم إلا بقدر يسير جداً فضلاً على أنهم ما يزالون يعيشون تراكمات ماض استعبادي ثقيل جدا مضافا إليه واقع مر من ترسبات تمييز عرقي ما يزال يسكن جنبات بعض من أكبر مسؤولي هذه الدولة الديمقراطية فوق اللزوم، ولا يحق لنا أن ننسى واقع سكان تلك البلاد الأصليين من الهنود أو للأمانة، بقايا الهنود الذين توصل الفكر الأمريكي المتحضر إلى أن أفضل طريقة للحفاظ عليهم هي حشرهم داخل حظائر على شكل "محميات طبيعية" تماماً كالطرق التي يستعملها الإيكولوجيون في سبيل الحفاظ على الحيوانات النادرة من الانقراض.<BR><BR>إن الاقتصاد الأمريكي يقع في قلب الاقتصاد المعولم، بما يعني أن أمريكا تلعب دور المضخة في ميدان المال ولكن الواقع أنه ومنذ سنوات قليلة، باتت الميزانية الاتحادية هناك تعرف تضخما فظيعا هو من رتبة مئات الملايير من الدولارات نتيجة العجز التجاري وأهم سبب في هذا العجز هو أن النظام الاقتصادي هناك لا يرتكز على بنية تصنيعية حقيقية داخل الولايات المتحدة.<BR><BR>لقد توضح جلياً هذا خلال الدمار الذي أحدثه إعصار كاترينا الأخير بما أن الأمريكيين أنفسهم لاحظوا أنه كان في إمكانهم التصدي للكارثة بشكل أفضل لو وقعت قبل سنوات قليلة. لقد كانت هذه الدولة غداة نهاية الحرب العالمية الثانية تنتج ما نسبته نصف الحاجيات العالمية من كل المواد تقريباً إلا أنها حالياً صارت عاجزة عن فعل أي شيء لا هناك ولا في العراق الذي دمرته من غير القدرة على إعادة بنائه مثلما كانت تعتقد قبل الحرب.<BR><BR>إن الفرق جلي هنا أيضاً بين أمريكا أثناء الحرب الثانية حينما كانت تستطيع أن تدحر الجيش الإمبراطوري الياباني في المحيط الهادي بواسطة أسطول لا نهاية له من البوارج وحاملات الطائرات وتقدر في ذات الوقت على أن تنظم إنزالا هو الأكبر في التاريخ على شواطئ نورماندي في غرب فرنسا لكي تحفظ توازن أوروبا من السقوط في طريق الجيش الأحمر وتهزم في الوقت نفسه ما بقي من جنود الرايخ الثالث أثناء سيرها نحو برلين، وبين أمريكا الحالية التي تفشل حتى في تسيير أزمة طبيعية تقع في إحدى أقاليمها القريبة جدا من كل رموز سيادتها ومجدها.<BR><BR>إن تفسير ذلك باختصار هو أن النظام الاقتصادي في تلك الأيام كان نظاماً رأسمالياً صناعياً منتجاً بمعنى أنه كان وقتها نظاماً يسيره المهندسون والتقنيون على عكس الراهن الذي لا يميزه إلا تلك الشركات العملاقة متعددة الجنسيات والتي لا تهتم إلا بكنز مزيد من الأموال كيفما اتفق.<BR><BR>الأمر كله يهون أمام الفشل المركب على الصعيد الخارجي، فالولايات المتحدة الأمريكية باتت الآن أسيرة مأزق نفسي يحتم عليها أن تصنع لها في كل مرة، عدواً جديراً بأن يقتنع المواطنون هناك بأنه "قد" يشكل لهم مصدر خطر بما يعني أنه بحاجة إلى أن يتولى الساسة أمر "تصدير" بعض المثاليات الديمقراطية نحوه وليس مهما بعد ذلك أن يتطلب الأمر مقتل نحو 200 ألف عراقي مثلاً على يد جيش مكون أساساً من السود واللاتينيين والمرتزقة الذين تتم طمأنتهم بالحصول على الجنسية بعد أن يساهموا في هذا المسعى النبيل.<BR><BR> إن الأمريكيين لا يرغبون في الانتباه إلى أن فاتورة الحرب لا يدفعها في الواقع إلا هؤلاء البؤساء والذين تأنف وسائل إعلامهم حتى من نعيهم لأسباب تتعلق أساساً "بالأمن القومي" ومراعاة المصالح العليا للدولة من غير الحاجة إلى القول إن أبناء كبار القوم هناك لا يشاركون في هذه المعمعة بكل بساطة. أولم تسمعوا مؤخرا بأن ديك تشيني نفسه كان قد فر من واجبه الوطني خلال حرب فيتنام؟<BR><BR>الأمريكيون أساساً شعب لا يعيرون اهتماماً كبيراً للمشكلات السياسية كثيراً فتجدهم يهتمون بأخبار نجوم هوليوود وفضائح الفنانين والمغنيين والرؤساء ما يعني أنهم، على تعلمهم، قوم يسهل الكذب عليهم واستثارة الحمية لديهم فلا ينتبهون مثلاً أن شركات السلاح لديهم ما تزال تنتج ترسانات كفيلة بأن تدمر الأرض عدة مرات على الرغم من أنه ليس هنالك أي عدو صريح أمامها.<BR><BR>إنه لمن الحقيقة التي لا جدال فيها قولنا إن أنظمتنا في عمومها لا تمتلك أية أمارات قد تبشر أن مستوى الحرية فيها قد يتحسن أو يتطور إلا أن الغريب في القضية أن تسعى بلاد كمثل أمريكا على عيوبها، بحثنا على أن نتبع نموذجها المجتمعي وتتجاهل في المقابل أن مشكلاتها هي في أحسن حالاتها، اعقد بكثير من التي نعرفها نحن.<BR><BR>إن الأمر واضح جلي ولا يحتاج الواحد منا إلى عظيم فطنة حتى يدرك أن كل تلك الشعارات ما هي في الحقيقة إلا لفافات رقيقة تغطي لب المشاريع التي أبدعتها العقول "المستنيرة" لنا تاركة مهمة شرح ميزات البرامج ودلائل حسن النيات لعدد ليس بقليل من الأقلام التي تكاثرت في المدة الأخيرة والتي لا أظن أن واحداً لم يلحظها.<BR><br>