رئاسة الوزراء ورئاسة السلطة الفلسطينية.. مفارقة بين مشهدين
14 صفر 1427

من أبرز ما يتميز به بنيان تسوية أوسلو ما تنطق به أحداثه من مفارقات. كانت آخر تلك المفارقات ما شهدناه ولا نزال نشهده من تلاعب النفوذ الخارجي باختصاصات منصبي رئاسة السلطة ورئاسة الوزراء. فلقد كان هذان المنصبان ولا يزالان شاهدين على مفارقة مثيرة للانتباه بين مشهدين. تابعنا المشهد الأول منذ بضع سنوات حين تم تضييق الخناق على منصب رئاسة السلطة بضغط خارجي وحين تم في نفس الوقت استحداث منصب رئاسة الوزراء بضغط خارجي. واليوم نتابع مشهداً معاكساً تماماً، حيث نرصد سعياً خارجياً لدعم منصب رئاسة السلطة بضغط خارجي وفي نفس الوقت تضييق الخناق على منصب رئاسة الوزراء بضغط خارجي. فما تفسير هذه المفارقة؟ <BR><BR>للإجابة على هذا السؤال لابد من ممارسة فريضة إنسانية يريد لنا البعض أن نهجرها. وهذه الفريضة هي استحضار حادثات حصلت في مدبرات الأيام وتأويلها ثم استقصاء أبعاد حادثات تحصل في حاضر الأيام بعد إزالة الحجب عنها، ثم ربط هذه بتلك للخروج بعبر يعتبر بها ذوو النهى ودلالات يستدل بها أولو الأبصار. <BR><BR><font color="#0000ff">المشهد الأول وتفسيره </font><BR>منذ عقد ونيف، صممت اتفاقات أوسلو هرم المؤسسة التنفيذية في السلطة بحيث يكون في قمته منصب رئيس السلطة ثم يليه مسؤولون أصرت القيادة السابقة أن تنعتهم بـ "الوزراء" رغم أن الاتفاقات لم تنعتهم بذلك، ولقد جاء ذلك الهرم التنفيذي خلوا من منصب رئيس الوزراء، وقبيل اكتمال عقد من السنين على تنفيذ الاتفاقات شعر النفوذ الخارجي أنه رغم كون رئيس السلطة السابق قد أبدى "مرونة" في الاستجابة لمطالبه خلال السنوات السبع الأولى من عمر مسيرة أوسلو (1993-2000)، إلا إنه لم يبد ذات "المرونة" خلال السنوات الثلاث التالية (2000-2003). بل إن رئيس السلطة راح يوظف توظيفا غير مباشر كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري لفتح في القيام بأعمال مقاومة مستفيداً من سيطرته على القوات الأمنية، وقد حصل ذلك التحول في موقف رئيس السلطة السابق غداة انتهاء مفاوضات كامب دافيد الثانية عام2000 حين استيقن أن موقف النفوذ الخارجي تجاه السلطة لم يتغير وهو مطالبتها بالاستمرار في تقديم التنازلات خاصة فيما يتصل بقضايا الحل النهائي، دون أن يقدم النفوذ الخارجي أي تنازل في المقابل. من ثم رغب رئيس السلطة السابق في إجراء ممانعة محدودة لا تتجاوز سقف بنيان أوسلو عسى أن تنجح فيما فشلت فيه "المرونة" وتحديدا في تحسين شروط قضايا الحل النهائي وتحسين صورة رئاسة السلطة. <BR><BR>نتيجة تلك الممانعة الجزئية شعر النفوذ الخارجي أن بقاء شاغل منصب رئاسة السلطة على قمة الهرم التنفيذي في السلطة متمتعا باختصاصاته السياسية والأمنية الواسعة قد بات حجر عثرة في طريق استكمال مسلسل انتزاع التنازلات. هذا في الوقت الذي كان يرغب فيه أن يستكمل ذلك المسلسل خاصة بالنسبة لقضايا الوضع النهائي حيث كان حريصاً ألا تتعرض جهوده لانقطاع زمني يمكن أن يفقد خلاله زمام المبادرة ليجد نفسه في مربع رد الفعل. ولما لم يكن قرار إخراج رئيس السلطة السابق من المشهد السياسي قد نضج، فقد رأى النفوذ الخارجي إمكانية إيجاد بديل ولو مؤقت لرئيس السلطة وذلك من خلال إجبار رئاسة السلطة على قبول استحداث منصب رفيع وهو منصب رئيس الوزراء بحيث يشغله من قد يكون أكثر مرونة، وقد رأى ذلك النفوذ أن تنزع أبرز الاختصاصات السياسية والأمنية المؤثرة من محيط اختصاصات رئاسة السلطة وأن تصبح رئاسة الوزراء مخولة باختصاصات سياسية وأمنية رفيعة تشمل تسمية وزراء والتفاوض وتوقيع اتفاقات والإشراف على قوات الأمن. <BR><BR>ونظرا لشدة الضغوط استجاب رئيس السلطة وتم استحداث منصب رئيس الوزراء. وأضحت رئاسة الوزراء والوزارات التابعة لها تتمتع ببعض الاختصاصات السياسية والأمنية الرفيعة التي كانت تتمتع بها رئاسة السلطة. لكن ذلك لم يمنع شاغل منصب رئاسة السلطة السابق من الممانعة من خلال سبيلين: الأول محاولة استبقاء بعض الاختصاصات الأمنية والثاني إعاقة دور رئاسة الوزراء. وقد نتج عن هذه المحاولة احتفاظ رئاسة السلطة بالسيطرة على بعض الأجهزة الأمنية رغم انتزاع أجهزة أمنية أخرى من يدها. كما أدت إعاقة رئاسة السلطة لدور رئاسة الوزراء إلى استقالة شاغل منصب رئيس الوزراء وحلول آخر محله. لكن كلفة هذه الممانعة الجزئية من قبل رئاسة السلطة كانت نضوج القرار القائل بأنه لم يعد كافيا إخراج الاختصاصات المؤثرة من دائرة رئاسة السلطة بل لابد من إخراج شاغل منصب رئاسة السلطة نفسه من المشهد السياسي. <BR><font color="#0000ff">المشهد الآخر وتفسيره </font><BR><BR>ومرت أيام شهدت إجراء انتخابات لتسمية رئيس السلطة نظرا لخلو منصب رئاسة السلطة. ولم تك تلك الانتخابات بمعزل عن ضغوط النفوذ الخارجي الاستلابي، ونتج عنها انتقال شاغل منصب رئاسة الوزراء الأول إلى منصب رئاسة السلطة. ومرت أيام أخريات شهدت اكتمال حلقة من حلقات ضغط النفوذ الخارجي على قيادة فئة أخرى كانت ترفع شعارات المقاومة والتحرير، فقد أعلنت قيادة حماس دخولها بنيان تسوية أوسلو من خلال خوضها انتخابات المجلس التشريعي الأوسلوي، ولم تك تلك الانتخابات أيضاً بمعزل عن ضغوط النفوذ الخارجي الاستلابي، ونتج عنها تقدم حماس مما أدى لتكليف أحد قياداتها بشغل منصب رئاسة الوزراء بالمؤسسة التنفيذية. <BR><BR>ورغم أن مجرد دخول قيادات حماس المجلس التشريعي الأوسلوي شكل قبولاً منها باتخاذ سقف بنيان تسوية أوسلو حدا لطموحات شعب فلسطين وتنحية لخيار التحرير وتتويجا لمرحلة من مراحل الضغط، إلا أن النفوذ الخارجي الاستلابي أراد الإسراع في استكمال التطويع الذي مارسه على قيادات حماس. فقد كان يرغب في تجنب أي إبطاء لعملية انتزاع التنازلات النهائية، والذي قد ينتج عن مواقف قد تتبناها حماس لتحسين صورتها. فرغم أن ذلك النفوذ يعلم أن أي مواقف قد تبديها قيادة حماس بغية تحسين صورتها لن تتجاوز سقف بنيان أوسلو، وهو ما تؤكده حركة منحنى الأداء السياسي والعسكري لحماس، إلا أن النفوذ الخارجي الاستلابي مستعجل في انتزاع التنازلات النهائية الخاصة بقضايا الحل النهائي لتصفية القضية برمتها. وقد جعله استعجاله هذا لا يطيق مجرد خفض سرعة قاطرته التي يريد لعجلاتها أن تدهس ثوابت القضية وصولا إلى ما يعتبره "نهاية الطريق". <BR><BR>وقد كان منصب رئاسة الوزراء الذي حظيت به قيادة حماس أحد المجالات التي يجب استكمال مسلسل الضغط خلالها. فكان أن أطلق النفوذ الخارجي حملة ضغوطه الأخيرة في اتجاه معاكس تماما للاتجاه الذي وجه ضغوطه نحوه منذ بضع سنوات. فقد استهدف هذه المرة توسيع اختصاصات رئاسة السلطة وفي نفس الوقت تضييق اختصاصات رئاسة الوزراء. فأطلق ذلك النفوذ الاستلابي حملة استهدفت تعزيز الاختصاصات الأمنية لرئاسة السلطة من خلال التأكيد على أنها لا تزال تشرف على أهم أجهزة القوات الأمنية، وهي التي كان يلح سابقا لنزعها من محيط رئاسة السلطة لنقلها إلى محيط الوزارة، كما استهدفت حملته توسيع الاختصاصات السياسية لرئاسة السلطة، وهي التي سعى منذ بضع سنوات لتضييق مداها لصالح الوزارة الجديدة. <BR><BR><font color="#0000ff">عِـبَـر المفارقة ودلالاتها </font><BR><BR>هذه كانت المفارقة وتلك كانت عللها، فماذا عن عبرها ودلالاتها؟ لعل العبرة الأولى التي تنطق بها تلك المفارقة أن حقيقة الرؤية الإستراتيجية التي يتبناها النفوذ الخارجي الاستلابي تجاه السلطة الفلسطينية أنها ليست سلطة تمثل شعبا يحق له استرداد ما استلب من حقوقه، بل أنها طرف يمكن الضغط عليه لانتزاع تنازلات توفر مبرراً قانونياً للزعم بأن طِلبة التحرير (بكسر الطاء) ما عاد لها أساس.<BR>أما العبرة الثانية فهي أن بنيان أوسلو قد صمم بما يتيح للنفوذ الخارجي أن يظل ممسكا بخيوط يستطيع بها أن يتلاعب بالمؤسسات التي يحتضنها ذلك البنيان وبالصفة السياسية بل والقانونية لشاغلي المناصب المؤثرة بتلك المؤسسات وصلاحياتهم التنفيذية واختصاصاتهم الإدارية، فلقد تم تحديد علو سقف حجرات بنيان أوسلو وجرى تقدير سعة تلك الحجرات بما يخدم الرؤية الإستراتيجية المذكورة. <BR>ولعله لا يغيب عن أولي النهى والأبصار أن أي فئة مقاومة ترغب في مواجهة قوة استلابية تتمتع بدعم خارجي وتأمل أن تصل بها إلى الإرهاق النفسي والانكشاف الإستراتيجي لتصل إلى فرض خيار التحرير يتعين عليها أن تستدرج خصمها إلى بنيان تكون هذه الفئة المقاومة هي التي حددت مدى علو سقفه، وتكون هي التي قدرت مدى سعة حجراته، وتكون هي التي فرضت أسلوب النزال الذي سيجري في أركانه والذي ينبغي أن يلائمها هي لا أن يلائم خصمها، والله أعلم.<BR><br>