بوتفليقة، فرنسا وغنيمة الحرب !!
27 ربيع الأول 1427

حين ذكر الرئيس الجزائري أن العدوان الفرنسي على الجزائر طوال 130 سنة من الاحتلال قد ساهم بشكل كبير على طمس الهوية الجزائرية، ثارت ثائرة الفرنسيين، ربما لأنهم لم يفهموا لماذا يتطرق الرئيس الجزائري إلى موضوع " الهوية المطموسة" و هو ـ أي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ـ يعد من أكثر الرؤساء الجزائريين إلقاء لخطاباته إلى الشعب الجزائري باللغة الفرنسية، و الذين يعرفونه يؤكدون تماماً أن أحاديثه المفضلة تدور بلغة فولتير، أي اللغة الفرنسية ! لكن برغم ذلك تحولت القضية إلى حرب إعلامية قادتها العديد من الصحف الفرنسية التي اتهمت الرئيس الجزائري بالشيزوفرانيا، و بأنه يقول أشياء لا يستوعبها، إلى أن جاء موعد الرحلة المرضية المفاجئة التي نقلت الرئيس الجزائري إلى العاصمة الفرنسية ليتلقى العلاج هناك تحديدا و لتصبح المعادلة صعبة و غامضة و غير مفهومة ! كان السؤال الأهم: من يلعب بأعصاب من؟ ! <BR><font color="#ff0000"> غنيمة الحرب ! </font><BR>لعله من الضروري الكلام عن العلاقات الجزائرية الفرنسية التي ارتبطت في مخيلة الكولونياليين بالحقبة التاريخية فحسب، أي أن الرابط بين الجزائريين و الفرنسيين يجب أن يكون رابطا تاريخيا محضا, و هو الشيء الذي كان لعبة مزدوجة صاغها في الحقيقة أولئك الذين كانوا يدافعون تحت السطور عن الدولة الكلونيالية، عن الثقافة و عن اللغة الفرنسية دفاعا غريبا و متحمسا. و الحال أنه بعد الاستقلال الذي دفعت الجزائر ثمنه بملايين من الشهداء، انفجرت في الجزائر عبارة "غنيمة الحرب" التي لم تكن في الحقيقة سوى اللغة الفرنسية "المتحولة"إلى لغة استثنائية، لغة شبه يومية، برغم محاولة كل الشرفاء في الجزائر إلى تطبيق قانون التعريب الذي ينص عليه تشريع الدولة الجزائرية التي تؤكد مادتها الثانية أن العربية هي اللغة الرسمية في البلاد . لم تكن العربية رسمية سوى على الورق، سوى في مادة لم يكن يرجع إليها أولئك الذين قضوا عليها و انتهكوا حرماتها باسم "غنيمة الحرب" التي استحوذت على لسان الذين كانوا يتسللون إلى السلطة، و يتكلمون عن الشعب، و عن هموم الشعب و متاعب الشعب من شبابيك الكلونيالية الفرنسية.وطوال سنوات الاستقلال تحوّلت العربية إلى كرة يتقاذفها الجميع،وتحوّل الكلام عنها إلى تهمة مسبقة و الدفاع عن مبادئها إلى خيانة معلنة ضد الفرانكفونيين الذين أكلوا الأخضر و اليابس في البلاد.. كانت العربية هي المركب الذي يسبح ضد التيار، و الفضاء الذي لم يكن يعترف به أولئك الذين كانوا يبيعون الدم الجزائري على صدر الصحف الفرنسية ! <BR><font color="#ff0000"> جزائر الانفلاتات ! </font><BR>حين انفجرت مأساة الحرب الأهلية في البلاد، انفجر معها كل شيء، حتى تلك القناعات البسيطة التي كانت تربط البسطاء فيما بينهم. تلك القناعات العادية و الجميلة التي على أساسها ثار الرجال إبان الثورة التحريرية، و لأجلها تحوّل حلم التحرير إلى قناعة أكبر.. لكن العنف كان مزدوجا.. حتى التغريبيين دخلوا لعبة العنف و الموازنات التي كانت تخيفهم و ترعبهم كل يوم أكثر. ربما لأن التعددية السياسية في نهاية الثمانينات أفرزت ميلاد العديد من الأحزاب و الحركات الرافضة للتغريب و المطالبة بعودة الأمور إلى نصابها، بعودة العربية إلى الشعب و إعادة الهوية الجزائرية المرتبطة بالدين أيضا. لكن، لم يكن من السهل التطرق إلى هذه المطالب في ظل تغريبيين كانوا يحكمون البلاد أساسا، كان بعضهم في مراكز مرموقة في الجيش و البعض الآخر يدير أهم الأجهزة الفرانكفونية الرافضة كل الرفض مجرد الكلام عن العربية و عن الدين و عن عودة طبيعية للأصالة.. كان المشروع العروبي و الإسلامي بمثابة الكابوس بالنسبة لتلك النخبة التي أرادت أن تحتكر المؤسسات الإعلامية المسموعة و المرئية أيضا، حذفت العديد من الفقرات الدينية المهمة و عوضتها بفقرات جاهزة وفق المزاج الخاص لهؤلاء، و الكثير من الغناء و الخنا في ثقافة الرقص الماجن الذي كان يضحك بها هؤلاء على الناس قائلين لهم: اسمعوا أنتم بألف خير، لأنكم ترقصون و تغنون، أنتم متحضرون ! قالوا هذا حتى حين انفجر الوضع الأمني. حين تحولت البلاد إلى ساحة مفتوحة للموت اليومي و الاغتيالات و القتل العمد، لم ينقطع الغناء عن المحطات الإذاعية و التلفزيونية، و الحفلات التي كان التلفزيون يبثها مباشرة على الهواء ليقولوا للناس و للعالم: ما تسمعونه عن العنف في الجزائر غير حقيقي، لأن الجزائر ترقص كما تلاحظون ! كان الرقص عامل من عوامل تشجيع المستثمرين الأجانب كي يأتوا إلى جزائر بتآكلها و الغموض العنف من كل جهة.. ! ! العنف الذي كان ثقافة بعينها، حتى و إن ربطته السلطة و النخبة الحاكمة بالإسلام، و بالعربية، هو العنف نفسه الذي اكتشف البسطاء أنه ضارب في صميم الدولة بعد عملية الاغتيال التي أطاحت ب"محمد بوضياف" القادم من منفاه المغرب ليكون رئيسا على ما تبقى من البلاد ! يومها عرف الجميع أن قاتل محمد بوضياف ليس من البسطاء و ليس من الإسلاميين، بل من السلطة نفسها.. حتى بعد أن تحول العنف إلى لغة يومية، كانت النخبة الهاربة إلى الخارج تتكلم عن "الجزائر المسكينة" التي يرتكب "الإسلاميون" فيها المجازر. قالوا ذلك من هناك، من فرنسا التي كانت تحمي الفرانكفونيين و تمنح لهم "حق اللجوء" على أراضيها ليكتبوا و ليصرّحوا من هناك أن تجربة الاستقلال كانت خاسرة و أن ما يجري للجزائريين من عنف نتيجة منطقية للإفلاس العربية و إفلاس الاستقلال المجاني، كأن ملايين الشهداء الذين منحتهم الجزائر لأجل حريتها كانوا مجرد حكاية نسلي بها الأطفال قبل خلودهم للنوم ! <BR><font color="#ff0000"> العودة إلى نقطة الصفر ! </font><BR>لم تكن زمنية بوتفليقة أرحم من حيث التراجع الرهيب في العديد من المكتسبات. ربما لأن بوتفليقة نفسه دخل إلى السلطة بورقة معارضته للجنرالات الذين كانوا يرفضونه من البداية، و يرفضون تواجده على رأس البلاد، و إن كان ذكاء الرجل وقتها قد أوصله إلى إقامة ما يسمى بتحالف حزبي استراتيجي مهول مع العديد من الأحزاب السياسية الموجودة جعله يصنع ما سمي وقتها بجبهة الخلاص الوطنية التي على أساسها استطاع "أن ينتصر" على الجنرالات الرافضين له. سعى من البداية إلى طمأنة خصومه و شركائه أنه سيكون وفياً للثقة، و أن وصوله إلى السلطة نتاج سياسي و مكسب شعبي أيضاً. لكنه فاجأ الجميع أنه تحول إلى أول رئيس جزائري يخاطب شعبه بالفرنسية، و أن مواقفه من العربية ليست واضحة، و خياراته أيضا ليست واضحة، حتى حين أطلق مشروع الوئام الوطني، كانت تبدو الخيارات غير واضحة باعتراف العديد من الشخصيات التابعة للجبهة الإسلامية المحظورة، و لأن الفتنة كانت متعبة و لأن عدد القتلى تجاوز 170 ألف قتيل و آلاف من المفقودين الذين لم يتم التوصل إلى الآن إلى مكانهم، و لأن العشر سنوات كافية لأجل عودة سلام ناشده الشعب كثيراً متحدياً مرة أخرى كل الأصوات الرافضة للوئام و للعفو المدني.. نفسها الأصوات التي كانت تتكلم عن إسلام الإرهاب التي أرادت أن تعود من جديد لتتكلم عن التنازلات المجانية التي صنعتها المصالحة.. فجأة رجعت النخبة نفسها لتنعق من جديد، و لتعتبر أن التنازلات الأخرى غير مقبولة، و الحال أن التنازلات الأخرى هي العربية، و هي الإصلاحات النابعة من ثقافة الجزائري و أخلاقه و تاريخه و نضاله الطويل و همومه اليومية، و وطموحه الطبيعي. ما يبدو بديهيا أن الرئيس الجزائري لم ينتقد فرنسا إلا في المدة الأخيرة، هو الذي يحلو له إلقاء الخطاب بلغتها.. صحيح أن بوتفليقة نجح في أشياء أخرى مثل فرض مشروع مصالحته على صناديق الاقتراع، لكنه لم يتحرك كثيرا نحو تغيير جذري من الداخل، نحو إعادة هيكلة المؤسسات كي تكون جزءا من مطالب الناس و ما يرتجونه من دولتهم. بوتفليقة لم يغير شيئا في تفشي الرشوة و الفساد و المحسوبية، و لم يعد التوازن الاجتماعي لأكثر من 30 مليون جزائري، بالرغم من صعود سعر برميل النفط، و بالرغم من الأرقام المهولة التي كانت تنشرها الصحف اليومية عن إيرادات النفط البالغة السنة الماضية أكثر من 45 مليار دولار، في الوقت الذي يعيش فيه أكثر من نصف الشعب تحت الخط الأحمر من الفقر بسبب التوزيع غير العادل مما جعل النسبة الأكبر من الجزائريين مهددة بالفقر و التهميش بكل ما تعنيه هذه الكلمة من إساءات يومية. <BR>لعل الذين استفادوا من الإيرادات هم أنفسهم الذين تحولوا إلى أغنياء جدا في زمن قياسي، و أسياد على شعب منهك على حافة الإفلاس ! لهذا كان يبدو مقصودا عدم فتح ملفات مهمة، و عدم اللجوء إلى شرعية المطالب اليومية اجتماعيا و لغويا، سوى فيما يتعلق باللغة الأمازيغية التي اختار أصحابها كتابتها بحروف فرنسية كي تكون لغتهم الرسمية يتكلمون بها. <BR>طوال سنوات من الحكم، كان الرئيس الجزائري ينتقد فرنسا "شكليا" و ليس بشكل عميق، إلى أن صار الانتقاد الأخير، والذي ذكر فيه الرئيس الجزائري أن فرنسا تسببت في طمس الهوية الجزائرية و هي الحقيقة التي لم يكن ليشكك فيها أحد، لكن فرنسا اغتاظت كثيرا من التصريح و اعتبرته استفزازا مقصودا بالخصوص و الجزائر تحولت في الآونة الأخيرة إلى قبلة للأمريكيين، بعد زيارة العديد من الشخصيات الأمريكية آخرها (وزيرة الخارجية) كونداليزا رايس. فرنسا التي طالما اعتبرت الجزائر "مستوطنتها" القديمة اعتبرت الزيارات الأمريكية المكثفة إحراجا مجانيا لها، و الحال أنه كلما كان الوفد الأمريكي يغادر الجزائر يصل الوفد الفرنسي ليطلع على " الأخبار"!! و لهذا بدت التصريحات الرسمية للرئيس الجزائري مستفزة بالنظر إلى ما تريده فرنسا من الجزائر اليوم أكثر من أي وقت مضى ! <BR><font color="#ff0000"> العلاج المهين ! </font><BR>سفر الرئيس الجزائري إلى فرنسا "لإجراء" فحوصات طبية، كان بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس. ليس لأن بوتفليقة احتاج إلى المستشفى الفرنسي ( و ليس الجزائري) لإجراء فحوصاته (العادية)، بل لأن الفحوصات جاءت أيام فقط بعد التصريح الأخير الذي أغاظ الفرنسيين، و الحال أن الصحف الفرنسية بمن فيها الأحزاب اليمينية المتطرفة اعتبرت تواجد الرئيس داخل التراب الفرنسي غير مرغوب فيه !والغريب في الأمر أن الصحف الفرانكفونية الجزائرية لم تعلق كثيرا على الحملة الفرنسية اليمينية المتطرفة ضد الجزائر، بيد أن أحد المسؤولين اكتفي بالقول أنه موقف من "أولئك الذين ما زالوا يطمعون في الأرض الجزائرية" !وكأنه اكتشف الآن أن ما اقترفته فرنسا ضد الجزائريين يظل الأسوأ، ربما لأن لعبة السياسة و ازدواجية المعايير التي تلاعبت بالشعب طوال سنوات تبدو متكشفة الآن تحديدا في هذا الوقت الذي تتناول الصحف الفرنسية الشأن الجزائري بكثير من التجريح، لأن كلمة الحق لا تمشي على الفرنسيين و لأن على الجزائري أن يظل يقبّل الأيدي الفرنسية و يشكر الكولونياليين الذين احتلوا بلاده قبل قرن من الزمن إلى اليوم، يشكرهم على جرائمهم السابقة و على جرائمهم الحالية التي أدت إلى جعل البرلمان الفرنسي يعتبر الاحتلال" شرف فرنسا" الذي حمل العلم و الثقافة و الديمقراطية للعديد من الدول! فرنسا التي احتلت الجزائر هي نفسها فرنسا التي تمجد الاحتلال في برلمانها، و هي التي تعتبر الدفاع عن المقومات الحضارية في الجزائر إرهابا، و هي التي تحارب العربية و تحارب المطالبين بها بتهمة الأصولية و التطرف، و هي التي تفتح أذرعتها لكل الخونة الذين يهرعون إليها ليقاضوا الشعب على حقوقه المشروعية، و هي التي تتهمنا اليوم بالانسداد والتخلف.. هي فرنسا التي تبدو النخبة الفرانكفونية الحاكمة في الجزائر مستعدة لبيع شعبها لأجل عدم فقدان "غنيمة الحرب" التي أحالت البلاد على الإفلاس !!<BR><BR><br>