من ينقذ الرئيس السوداني من المؤامرة الأمريكية ؟
18 ربيع الثاني 1427

يبدو أن (الرئيس السوداني) عمر البشير يقف وحيداً في مهب الرياح الأمريكية التي تعصف منذ سنوات في مناطق إفريقية عديدة، بدءاً من القرن الإفريقي، مروراً برأس الرجاء الصالح انتهاءً بالمغرب العربي، حيث تنتشر القواعد الأمريكية هناك بكثافة، بحجة ملاحقة مجموعات مسلحة، لم تجد سوى تلك المناطق لتقيم معسكرات تدريب فيها!<BR>سنوات طويلة وقفت فيها الخرطوم وحيدة أمام المد الصليبي الأمريكي هناك، مدعومة بتوجهات اللوبي البريطاني، الذي لا يزال يحتفظ ببقايا ولاءات سابقة منذ عهود الاستعمار في تلك المنطقة، ومدعومة بالأمم المتحدة (إحدى أذرع الولايات المتحدة الأممية).<BR>بعد سنوات طويلة، رضخ البشير أمام الضغوط الأمريكية والغربية، وقرر عقد مفاوضات مع نصارى الجنوب المتمردين بدعم أمريكي، ووجد نفسه _أمام غياب جامعة الدول العربية عديمة النفع_ مجبر على تقديم أكثر مما كانت تطالب به الجماعات المتمردة في بداية الصراع بينهما.<BR>اليوم الدرس يعود مجدداً، مع ذات المدرّس.. أمريكا تفرض على الخرطوم توقيع اتفاقية مع متمردي دارفور، قد تكون في كثير من أوجهها نسخة شبه أصلية من اتفاقية تقسيم السودان وفصل الجنوب الذي تتحكم فيه قوة صليبية, الغني بالنفط عن الدولة الأم.<BR>فبعد أن كانت قوات التمرّد تطالب بتوزيع "عادل" للثروات، باتت تطالب بإقامة منطقة حظر للطيران العسكري، وتسهيل حرية الحركة لعمال الإغاثة، وإجراء محاكمات جرائم حرب لعناصر ميلشيا جنجويد العربية، قبل الشروع في أي مفاوضات سياسية مع الخرطوم.<BR>وفيما يتعلق ببند "منطقة حظر للطيران العسكري"، فإننا نعترف نحن العرب والمسلمون أن هذه الجملة باتت تشكّل لنا "فوبيا" من إحداث تقسيم جديد، على غرار ما حدث في العراق سابقاً.<BR>قبل أيام على توقيع الخرطوم لهذه الاتفاقية، مارست الولايات المتحدة عدة أشكال من الضغط الإعلامي والشعبي والرسمي، انطلقت _على سبيل المثال_ مظاهرة حاشدة في أمريكا، بدعوى المطالبة بالتدّخل العسكري لإنهاء أزمة اللاجئين والمشردين في دافور، وقبلها بأيام أعلنت واشنطن أن الأمن ألقى القبض على خمسة من أعضاء الكونجرس كانوا يتجمهرون أمام السفارة السودانية، مطالبين بحل "عادل!" لمشكلة دارفور، وبعد ذلك أجرى الرئيس الأمريكي بنفسه اتصالاً هاتفياً مع الرئيس السوداني، استخدم أسلوب الترهيب والترغيب معه، فيما كانت الأمم المتحدة تصوّت على مشروع قرار يمهد لفرض عقوبات على الخرطوم، وكان الكونغرس يجري حظراً ضد مسؤولين سودانيين بحجة مشاركتهم في "الإبادة" الجماعية بدافور، أما الإعلام الأوروبي والأمريكي، فكان يقدم جرعات إعلامية عن جرائم دارفور، والإبادات الجماعية التي تحدث هناك، بعد أن باتت كلمة "إبادة جماعية" تثير مشاعر "إنسانية" لدى الغرب الرحيم!<BR>حتى الجارة الإفريقي؛ دولة تشاد؛ باتت عامل ضغط هي الأخرى على الخرطوم، بعد أن هددت وتوعدت، وكررت اتهاماتها للخرطوم بدعم المتمردين الذين حاولوا الاستيلاء على الحكومة وتخليصها من الرئيس إدريس ديبي الموالي للغرب.<BR>ويبدو أن تلك التهديدات وقعت في نفس الرئيس السوداني موقعاً مؤثراً، ما جعله يوقّع على اتفاقية السلام التي قدّمتها واشنطن للأطراف المتنازعة؛ على الفور، وقام بذلك من جانب واحد للتعبير عن رضاه التام بهذه الاتفاقية وقبوله المطلق لها. فيما كانت الجامعة العربية تنظر بعين المراقب البعيد لهذه الأحداث، وعندما قررت التدخّل، أعلنت عن مؤتمر دعم لإعادة إعمار دافور، أي بعد أن تكون واشنطن قد حددت كل شيء، ولم يبق سوى التبرّع بالمال الذي ستدفعه دول عربية معينة.<BR>أحد أكبر حركات التمرّد وقعت بعد ذلك على الاتفاقية، وهي حركة مني أركو مناوي، التي تعتبر أهم فصيل مسلح، والتي حاولت الحصول على أكبر قدر ممكن من الامتيازات لأبناء دارفور.<BR>الاتفاق يضمن للمتمردين حصولهم على حقيبة وزارية في العاصمة، ويضمن لهم ضم جنودهم ضمن الجيش السوداني النظامي، وحصولهم على مناصب وترقيات هناك، كما يضمن لهم توزيعاً جديداً للثروة، وقد يمهّد الطريق مستقبلاً للتصويت على انفصال الإقليم عن الوطن الأم، كما حدث للجنوب الذي ترجح جميع الأطراف انفصاله ما إن تنتهي المدة المقررة في اتفاقية السلام، والتي رأت أمريكا أن تحصل من خلالها على دولة نصرانية جديدة في المنطقة بعد سنوات 5 بدل استمرار الاقتتال هناك وخسارة المزيد من الوقت!<BR>كما يؤسس الاتفاق لإرسال قوات دولية إلى المنطقة، تؤكد الخرطوم والتجارب السابقة أنها قوات موجّهة أمريكياً بالدرجة الأولى، وستعمل على ترسيخ مصالح واشنطن في المنطقة.<BR>وقد باشرت المفوضية القومية للمراجعة الدستورية في الخرطوم مداولاتها لإنزال اتفاقية (أبوجا) على أرض الواقع، بعد أن اتفق المجلس التشريعي لولاية الخرطوم على تغييرات دستورية، سمحت لدارفور بحصولها على حقيبة وزارية في حكومة العاصمة، هي إحدى وزارتي رئاسة مجلس الوزراء أو شؤون البرلمان.<BR>اليوم، يبدو البشير ماضيًا بجد في الاتفاقية، على مبدأ _مجبر أخاك لا بطل_ لإدخال أعداء الأمس في حكومة اليوم، ولتقديم تنازلات سيادية لصالح فئات تمرّد سابقة.<BR>أما الغد، فإنه بانتظار تنفيذ المخطط الأمريكي في تقسيم السودان بهدوء وسلام، تضمن لأمريكا حصة الأسد في المناطق الجديدة التي تتمتع بحكم ذاتي، والتي ستنفصل إحداها على الأقل، وتشكّل دولة كاملة السيادة قريباً.<BR><br>