غزة بين "الوهم المتبدد" و"الأمل المتجدد"
4 جمادى الثانية 1427

لم تكن العملية العسكرية التي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية عادية، وكذلك لم تكن تداعياتها، لكن الأهم أنها لم تبدد "الأوهام الإسرائيلية" فقط، ولكنها كذلك بددت بعض "الأوهام العربية"، وفتحت الباب على مصراعيه للأمل الجديد الذي ولد من رحم هذه العملية.<BR><BR>قبل الحديث عن تفاصيل العملية، ينبغي تأمل المشهد السياسي والعسكري الذي سبقها، سواء على أرض فلسطين، أو في محيطها الجغرافي، فقد أعد المسرح جيدا لمشهد النهاية لحكومة حماس، وجرى الحديث بمنتهى الصراحة عن قرب انهيارها وتشكيل "حكومة وحدة وطنية" جديدة، بعد أن طال حصار التجويع، وبدأت البطون الخاوية تدفع الناس العاديين لطلب السلامة ولو على حساب المبادئ، ووجدت حماس (الحكومة) نفسها تقف وحيدة بلا سند حقيقي، تطالب بدفع الرواتب، ولا يسمح لها بتلقي الأموال اللازمة لذلك، وتساق للتوقيع على ما عرف بوثيقة الأسرى وما تتضمنه من اعتراف طالما رفضته بـ"إسرائيل" أو يتم الاستفتاء الذي تعرف نتيجته مسبقا، بل يلوح بتوريطها دوليا من بعض دول الجوار، سواء بالترويج لتورطها في دعم إرهاب داخلي، أو باتهامها بالإعداد لمؤامرة كبيرة بعد تهريب أسلحة وتكليف عناصر.<BR><BR>على الجانب "الإسرائيلي"، كانت الدولة الصهيونية بقواتها البربرية تصول وتجول، تقتل من تشاء وتأسر من تشاء، تقابل من تشاء وتعزل من تشاء، بل والأنكى أن تدعم بعض الفصائل الفلسطينية بالسلاح، وبلغ من درامية المشهد أن تقوم "إسرائيل" بقصف عائلة فلسطينية كاملة على شواطئ غزة، ليس لها ذنب إلا أنها أحبت الترويح عن نفسها وغسل أحزانها اليومية بماء البحر.. كانت "إسرائيل" تصر على استدراج حماس وبقية فصائل المقاومة إلى رد غير منضبط، تتخذه ذريعة لما أعدت له، وكان الجميع بانتظار عملية عادية حتى ولو كانت استشهادية، يقع فيها عدد ممن تصفهم "إسرائيل" وجوقتها بـ "المدنيين"، وكان عباس ومن على مائدة العاهل الأردني التي ضمت كذلك رئيس الوزراء الصهيوني أولمرت يعلن على الملأ أن عمليات المقاومة "إجرامية"، وأن البلاء كله سببه وصول حماس إلى السلطة.<BR> <BR>ما الذي كان مطلوبا من حماس باختصار؟<BR><BR>داخليا، كان المطلوب منها استعادة ثقة ناخبيها الذين صوتوا لنوابها على خلفيتهم المقاومة وليس على خلفيتهم المهادنة، وكان عليها كذلك أن تطعم الأفواه الجائعة أو على الأقل بعضها، وقد فعلت كل ما تستطيع ولكن المؤامرة كانت أكبر، الأهم أنه كان عليها الرد على ما جرى الترويج له من أنها تستأثر بالأمر، بل وصل الأمر إلى حد اتهامها بشق الصف الفلسطيني.<BR><BR>خارجيا، أدركت حماس أنه لا فائدة من محاولة تسويق نفسها كحركة سياسية، لا على الصعيد الدولي، ولا على الصعيد العربي، فلا الغرب أحرجته دعاوى الديمقراطية، ولا الجوار العربي أخفى رعبه من وصول حماس إلى السلطة بإرادة حرة للناخبين، مما يهدد أوضاعا تكلست من الديكتاتورية العربية التقليدية، ومن ثم لم تعول حماس كثيرا على الخارج، وعلمت بيقين أن عليها وعلى بقية فصائل المقاومة الشريفة أن تخوض المعركة وحدها، لكنها حرصت على إسقاط ورقة التوت التي طالما تذرع بها الآخرون لاتهامها بالإرهاب بزعم استهدافها للمدنيين.<BR><BR>عندما نتأمل العملية الفلسطينية النوعية التي أطلق عليها "الوهم المتبدد" ولم يحدد صاحب الوهم، في عبقرية يصنعها الدم الفلسطيني على الدوام، عندما نتأمل هذه العملية بشيء من التعمق، نلاحظ أنها كانت انتصارا حقيقيا لحماس وجماعات المقاومة من كل الجهات، فالعملية أولا تمت بالتنسيق بين ثلاث فصائل فلسطينية مقاومة، هي حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) وألوية الناصر صلاح الدين، وفصيل جديد دشن ظهوره على الساحة بقوة من خلال هذه العملية وهو "جيش الإسلام"، والاشتراك في التنفيذ وبهذه الدقة المتناهية والتنسيق الكبير يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن حماس تمارس الوحدة الوطنية الحقيقية على الأرض، ولا تهددها كما ادعى البعض، كما أنها (حماس) لا تريد أبدا أن تنفرد لا بالحكم ولا بالمقاومة، فالقضية قضية الشعب الفلسطيني كله.<BR><BR>التوقيت كان موفقا تماما، فقد جاءت العملية بعد جريمة شاطئ غزة بأيام، أي أنها كانت ردا على جريمة حقيقية لا يسع حتى العدو نفسه ألا يعتبرها كذلك، وهو ما اعترفت به الإذاعة العبرية، ووصل الأمر إلى التلويح باستقالة بعض الوزراء الصهاينة.. حرصت حماس ومن معها إذن على إظهار كون العملية رد فعل على عدوان حقيقي، وليس مبادرة بالهجوم على دولة مسالمة تحب السلام وتسعى إليه وتحاول أن تفرضه لولا الإرهابيين الفلسطينيين (!) كما حاول البعض أن يروج.<BR><BR>المستهدف من العملية كان عبقريا كذلك، فقد كانت العملية عسكرية بحتة، وضد موقع عسكري يتحصن أفراده فيه بزيهم العسكري وهم بكامل عدتهم وعتادهم، ومن ثم فلا مجال لأي اتهام، ما دام الجميع يقولون إنهم يعترفون بشرعية أعمال المقاومة ضد العسكريين، ويجادلون فقط في استهداف من يطلقون عليهم المدنيين، والأروع لم يكن قتل جنود أو تدمير آليات عسكرية، وإنما الانسحاب بأقل الخسائر وبحوزة المهاجمين البواسل أسير يهودي، وأين؟ على سطح الأرض، وليس عبر النفق الذي تسلل منه المقاومون، في تبديد تاريخي للوهم الصهيوني بالسيطرة والتفوق والقوة التي لا تقهر.<BR><BR>وضمن تفاصيل العملية، يمكننا أن نلاحظ أنها بدأت بما بدا أنه إخفاق، وانتهت بما وصفه حتى الأعداء أنفسهم بـ "نصر مؤزر"، فقد بدأت العملية بزحف ثمانية من رجال الفصائل الثلاثة يرتدون الملابس العسكرية "الإسرائيلية" عبر نفق طوله نحو كيلو متر كامل من قطاع غزة حتى موقع عسكري مجاور لكيرم شالوم، وانقسم رجال المقاومة إلى ثلاث مجموعات، اختصت كل مجموعة بمهاجمة هدف محدد، حيث هاجم اثنان من المجموعة الأولى برج الحراسة الصهيوني، لكن الجنود تمكنوا من قتلهما، وتسبب انفجار حزام ناسف كان يرتديه أحدهما في إصابة جنديين بجروح.<BR> كان الغريب أن اللذين استشهدا لم يكونا من فصيل واحد، حيث استشهد حامد الرنتيسي من ألوية الناصر صلاح الدين، ومحمد فروانة من "جيش الإسلام"، مما يعني أن تقسيم المجموعات المهاجمة الثلاث لم يتم على أساس حزبي أو تنظيمي ضيق..<BR> انتهت إذن الموجة الأولى للهجوم إلى استشهاد المقاومين ومجرد جرح جنديين، وبدا أن الفشل يمكن أن يكون سيد الأجواء، وعزز من هذا الاحتمال أن المجموعة الثانية هاجمت هيكلا وهميا لمجنزرة "إسرائيلية" كان جنود العدو قد وضعوها كنوع من الخداع والتمويه، لكن العبرة بالخواتيم، فقد تمكنت المجموعة الثالثة من تدمير دبابة بشكل كامل وقتل قائدها وسائقها وأحد موجهي مدفعيتها، وإصابة مدفعجي آخر جرى أسره، بالإضافة إلى تدمير ناقلة جند مصفحة، وعاد المقاومون سيرا على الأقدام ومعهم الغنيمة "الإسرائيلية" بعد تدمير الموقع العسكري الاستخباري بشكل جزئي، وأطلق المقاومون صاروخا نحو الأسلاك الشائكة أحدث ثغرة مكنتهم من العودة بسلام إلى قواعدهم بأقل خسائر بشرية، ومعهم غنيمة حقيقية لا يمكن الاستهانة بقيمتها المادية والمعنوية.<BR><BR>الأروع هو أن رجال المقاومة البواسل قاموا بتصوير العملية بالفيديو وتوزيع المشاهد على وسائل الإعلام والفضائيات، التي لم يجرؤ الكثير منها على إذاعته. <BR><BR>كان الهدف من العملية واضحا في أذهان من نفذها وخطط لها، فقد أكد البيان الذي صدر عقبها "أن الاحتلال الإسرائيلي "يدرك وبشكل جليّ أن المقاومة كان بإمكانها تنفيذ سلسلة من العمليات الاستشهادية والتفجيرية في مدنه وتجمعات سكانه، لكنها آثرت أن تكون هذه المرة في هذه العقدة العسكرية الحصينة التي تمكننا من اختراقها بتوفيق الله ثم بإرادتنا وعزمنا لتكون رسالة بليغة وأخيرة لقيادة العدو أن تجنب المدنيين نيرانه الحاقدة وأن تجعل المساجلة بين أبطال المقاومة وجنوده المهزومين".<BR><BR>وأخيرا وليس آخرا لا يمكن بحال أن نتصور أن العدوان "الإسرائيلي" على غزة تم بذريعة هذه العملية، فقد جرى الإعداد له منذ مدة طويلة، لكن حماس والمقاومة استدرجا "إسرائيل" ومن معها إلى الفخ الكبير، وأسقطا من يدها كل الذرائع، ليصبح اجتياحها لغزة عدوانا همجيا على مدنيين عزل، ردا على عملية عسكرية حقيقية على أعلى المستويات بشهادة العدو نفسه.<BR><BR>بددت العملية إذن الوهم "الإسرائيلي" بالتفوق، ومرغت كرامة العسكرية الصهيونية في التراب، لكن الأهم أنها جددت الأمل في المقاومة حتى النصر بإذن الله وإن كره الكارهون.<BR><br>