مزايدات وانقسامات ..رغم الدماء والأشلاء
9 رجب 1427

لو أننا عدنا بالذاكرة إلى الأيام السابقة لاندلاع هذه الأحداث المؤلمة والفاجعة في لبنان، ما الذي سنجده ؟<BR> هل سنلحظ تغيرا ايجابيا في واقع الحكومات العربية المرير أو في واقع الشعوب العربية ؟ أم نلمس بداية تطور نوعي لأداء الحركات الإسلامية في مسيرتها الإصلاحية ومواجهتها للأصناف المختلفة من الأعداء أو على الأقل تفاهما مبدئيا بينها حيال التعامل مع العديد من القضايا المختلف حولها!؟ <BR><BR> الحقيقة أن المرء يحار وهو يراقب العواطف العربية الملتهبة كعادتها في تعاملها مع الأحداث الطارئة، والحيرة لا تكمن في تجددها وتكرارها بقدر ما تكمن هذه المرة في اتساع نطاقها ودائرتها. <BR><BR> كنا معتادين على هذا المستوى من التجييش والإثارة من الإعلام العربي الرسمي ومن القوميين واليساريين العرب، لكن الغريب هذه المرة أن تتسع الدائرة لتشمل شخصيات وقيادات وحركات إسلامية عرفت لفترة طويلة أنها تبني مشروعها بالاختلاف والتميز عن التهييج العربي المعتاد وتنطلق من دعوة إصلاحية شاملة تقود الطريق وتمهد لمراحل المواجهة الحقيقية مع الأعداء.<BR><BR> فما الذي تغير يا ترى!؟<BR> ما الذي دفع بعض الدوائر الإسلامية لهذا الانجراف وراء حشد وتجييش المشاعر العربية نحو تبني مواجهة اليهود ودعم "مقاومتهم" عبر بوابة الجنوب اللبناني ومن خلال حزب الله اللبناني!؟<BR> ما الذي دفع هذه الدوائر لتغيير سياساتها الثابتة والمعلنة حول الطريقة الأمثل لمواجهة اليهود!؟<BR><BR> هل نحن بصدد تغير حقيقي مدروس لآليات واستراتيجيات المواجهة المنتظرة!؟<BR> أم أن الدافع الحقيقي والوحيد يكمن في أن الطرف الذي أشعل المواجهة هذه المرة هو طرف "إسلامي" دون غيره من الأطراف الفكرية المعتادة، وهذه الصفة لوحدها كافية لتغيير القناعات السابقة وبشكل مفاجئ ومهما كانت نوعية الاختلافات المذهبية مع هذا الطرف كما حرصت هذه الدوائر الإسلامية على تأكيده!؟<BR><BR> العديد من هذه الدوائر يردد أن المطلوب في غمار المعركة هو وحدة الموقف ودعم المقاومة ودحر العدوان والظلم والبغي الأمريكي الصهيوني، ولا ينبغي الحديث عن الاختلافات المذهبية ولا عن الانقسام والتنازع، لأنه ببساطة يعد نوعا من الخذلان وإعطاء ضوء أخضر للعدو اليهودي المتغطرس للاستمرار في عدوانه، كما لا ينبغي الحديث عن مسؤولية أي طرف في إشعال هذه المواجهة الجديدة مهما كانت مفاجئة ومهما كانت مسيسة لخدمة هذا الطرف أو ذاك، لأن ذلك سيعتبر افتراقا وإفشالا لمشروع الأمة الإسلامية الكبير لدحر اليهود وأعوانهم وللمواجهة المنتظرة معهم في الملاحم الكبرى!! <BR> ولولا أن هذه التبريرات تتكرر ليل نهار وخصوصا عبر الإعلام الفضائي ومن قيادات إسلامية معتبرة، لظنها المرء نوعا من الخيال وضربا من المحال.<BR><BR> <BR>الطبيعة الإسلامية لطرف النزاع<BR> لو افترضنا جدلا أن الحركات القومية اليسارية التي أشغلت العالم العربي سنين طويلة وكانت الحركات الإسلامية من أكبر المتصدين لها، لا تزال على أرض الواقع وتمارس مقاومتها المزعومة لليهود، وكان لها وجود في جنوب لبنان وأشعلت مثل هذه المواجهة بعملية نوعية وبطولية من الطراز الأول، هل كانت الدوائر الإسلامية ستنساق ورائها في مواجهتها لليهود وتجيّش الشارع العربي وتطالب بوحدته لدعم المقاومة!؟<BR><BR>العديد من قيادات وكوادر الحركات الإسلامية المعاصرة لا يمكن أن تتخيل ذلك ولا أن تتوقعه، ولذلك هي تفترض أن ما يدفع الغالبية من قياداتها البارزة للجهر بدعم وتأييد حزب الله اللبناني في حربه القائمة اليوم مع اليهود يتمحور حول الطبيعة الإسلامية لهذا الحزب الذي يواجه اليهود منفردا من خارج الأراضي الفلسطينية في هذه المرحلة ويروج لنفسه مدافعا حقيقيا عن حقوق ومصالح الأمة ، ويربط بين هزيمته ونصره في هذه المواجهة وبين هزيمة ونصر الأمة بشكل عام ويتحدث بمفردات ومصطلحات إسلامية معروفة.<BR><BR>وبناءا على ذلك أخذت هذه الكوادر وقياداتها تشن حملة متواصلة على البعض من الشخصيات والأوساط الإسلامية التي تحفظت عن دعم هذه الحرب وعبرت عن عدد من التخوفات والشكوك التي تتلمسها في هذه المواجهة ، واتهمتها بالسذاجة السياسية وبالغفلة عن الفهم الدقيق للواقع وبالتضخيم المبالغ فيه للحساسية المذهبية في تعاملها مع حزب الله لخلفيته الشيعية وتحالفه المعلن مع إيران، بل وانساقت مؤخرا لاتهامها بالعمالة لبعض الأنظمة السياسية العربية وأنها تخدم أهدافها أكثر مما تخدم أي شيء آخر. <BR><BR> ورغم مرارة هذه الاتهامات وقسوة هذا المستوى من التنازع والاختلاف، إلا أن المراقب المحايد من داخل الصف الإسلامي ليحار : كيف يقرأ هذا الواقع المؤلم ؟ ومن تراه يعد الأكثر فهما للواقع والأكثر اطرادا مع نفسه ومع غيره في تعامله مع المستجدات!؟. <BR><BR> قطعا لا يمكن لنا أن ننكر أن الحساسية المذهبية تجاه الشيعة، وخصوصاً بين أتباع الدعوة السلفية حاضرة وموجودة، لكن هل يفترض بنا أن نفسر كل موقف من أي من شخصيات وقيادات هذه الدعوة على أنه منطلق من هذه الحساسية!؟<BR> ألا يمكن أن يكون لهم قراءة سياسية مختلفة للحدث وتداعياته!؟ <BR> <BR> وحتى تتضح القضية أكثر لنفترض جدلاً أن حركة جهادية سنية كان لها وجود في جنوب لبنان وكان بينها وبين العدو الصهيوني صولات وجولات، لكن طبيعة الواقع اللبناني والعربي والعالمي تفرض عليها آليات معينة لهذه المواجهة، وفجأة ودون سابق تنسيق وتفاهم مع بقية الحركات الإسلامية نفذت هذه الحركة عملية شبيهة بعملية حزب الله وبررتها بذات التبريرات ثم نشأت هذه الحرب وانطلق العدوان الصهيوني البغيض كما نشاهده اليوم وأزهقت أرواح الأطفال والنساء والعجائز وسفكت الدماء وهدمت المساجد والبيوت والمنشئات وفتح الباب أمام تغيرات أوسع وأخطر لواقع المنطقة ومستقبلها: ما الذي نتوقع له أن يحدث ؟<BR> بطبيعة الحال أصحاب منهج الحشد والتجييش والتعبئة الجماهيرية الجديدة في الأوساط الإسلامية سيمارسون نفس الدور، لكن المتوقع أن بعض القيادات الإسلامية ستكرر نفس موقفها المتحفظ وتخوفاتها من هذه المفاجئات غير المعروفة لهم بتفاصيلها وتحالفاتها وأجنداتها غير المعلنة. <BR><BR> فالقضية إذن سياسية واستراتيجيه أكثر منها حساسية مذهبية . لكن البعض يصر على عدم تصديق ذلك، بل ويتهم هذه القيادات الإسلامية بعدم تواتر مواقفها مع بقية القضايا التي تحفل بها المنطقة، ويضرب لذلك مثلا بالحرب القائمة في العراق وبأحداث سبتمبر. <BR><BR> والحقيقة أن الخطاب السلفي المستقل – إن صحت التسمية – كان متواترا مع نفسه حتى في هذه القضايا، فالجميع يعلم حجم المخالفة العلنية التي قدمها هذا الخطاب لهجمات سبتمبر 2001م باعتبار بعض نتائجها التي ستوصلنا إليها لا باعتبار نكايتها في العدو، ويكفي للتدليل على ذلك إعادة قراءة البحث المطول للدكتور سفر الحوالي أو مقالات الدكتور سلمان العودة المتتابعة حول هذه القضية وغيرها من المقالات والأبحاث المنشورة، تم كل ذلك رغم أن الجهة التي تبنت العملية هي جهة سلفية في مذهبها وتوجهاتها.<BR><BR>كما أن الموقف السلفي من دعم الجهاد والمقاومة في أفغانستان قديما وحديثا أو في العراق وفي الشيشان وفي كشمير أو في غيرها من المناطق، لا يتعارض أبدا مع إبداء تخوفات وشكوك حول أهداف ومقاصد هذه الحرب الجديدة مع اليهود. <BR><BR>والفارق يتلخص في أن تلك المناطق تقع تحت نير احتلال وعدوان متواصل وهي في حاجة لمقاومته ودحره وجهاده انطلاقا من أراضيها ذاتها ومن رجالها أنفسهم، بينما المواجهة مع النبتة اليهودية الشيطانية على أرض فلسطين المباركة فهي من التعقيد والتشابك الذي لا يخفى على الجميع ويقف دون حلها ومعالجتها بطريقة إسلامية تعتمد طريق الجهاد الشرعي الصحيح العديد من العوائق الداخلية المحلية قبل العالمية، كما أن الواقع العربي الرسمي والشعبي هو في حاجة لدرجة من التغيير الجوهري قبل أن نستطيع خوض غمار هذه المواجهة، أو على الأقل هذا ما كنا نفهمه من الخطاب الإسلامي العام. <BR><BR>الأثمان المفتوحة لهذه الحرب وأجندتها الخفية<BR>الأدبيات المتوارثة للخطاب الإسلامي المعاصر كثيرا ما ترخص الأرواح والأموال في سبيل الدعوة التي تسعى إليها، وهذا طبيعي ومتفهم من أي خطاب عقائدي. <BR>لكن ما يغيب عن بعض مصادر هذا الخطاب أن أحكام الفقه الإسلامي مليئة كذلك بالحرص على النفس المؤمنة والمسلمة وأن إزهاق هذه الروح وسفك دمها أعظم عند الله من زوال الدنيا وما فيها إلا إذا ذهبت فيما يرضي الله وفي سبيل إعلاء كلمته. كما أن هذه الأحكام مليئة بالشروط المقيدة للجهاد الشرعي ومن أهم هذه الشروط ألا يجر على ضعاف المسلمين من الأطفال والنساء والعجزة المزيد من هدر الدماء وينتهي بهم للمزيد من العناء والبلاء تحت طغيان الأعداء. <BR><BR>ومن هذا المنطلق، فكل حرب ننشئها لا نراعي فيها هذه الأحكام فهي خاطئة ، ومن المهم أن نتعامل معها على هذا الأساس وإن كنا مطالبين بدحر ظلم الأعداء وعدوانهم والتخفيف من خطأ من أخطأ ونصرته النصرة الشرعية في هذا المجال، ولكن فرق كبير بين هذا المنحى في التعامل مع النازلة وبين التأييد المطلق لمن تسبب بالخطأ في التعامل مع العدو وحشد الجماهير من ورائه دون أن نعي أصلا إلى أين يريد أن يقودنا وينتهي بنا.<BR><BR> فما بالك إذا كانت حرب حزب الله التي أشعلها بنفسه - كما صرح بذلك أمينه العام حسن نصر الله من باب أخذ زمام المبادرة كما يقول، دون أن يشرك معه في قرار الحرب أياً من الراكضين خلفه- تأتي في ظل تداعيات وتطورات معقدة تجعل من الصعب على المتأمل التصديق بأن هذه الحرب أشعلت دفاعا عن الأمة وجهادا في سبيل نصرتها ؟ <BR><BR>إن طبيعة التحالفات السياسية والأمنية والعسكرية التي يرتبط بها حزب الله اللبناني – وليس خلفيته المذهبية – وسعيه بشكل علني وبتصريحات منسوبة لقياداته الحزبية في خدمة الأجندة الإيرانية بالدرجة الأولى وعلى حساب غيرها من الأجندات التي يفترض به أن يعمل لمصلحتها، لا يمكن أن تسمح بتصديق الدعاية التي يحاول أن يصنعها ويروجها لنفسه في ظل هذه الحرب.<BR><BR>واللافت أن الأصوات اللبنانية التي حرصت على إظهار دعمها للحزب في بداية الحرب ومع تزايد الصلف والبغي اليهودي، وحرصت على تأكيد وحدة موقفها وجبهتها الداخلية بطريقة تدعو للإعجاب والتأييد والتفهم فهي الجبهة التي تتلقى العدوان وتتلظى بناره دون غيرها من الجبهات، أخذت الآن تغير موقفها تدريجيا من التأييد المفتوح لحزب الله وذلك على إثر مناظر الدماء والأشلاء ومع تواصل القصف الغاشم والخسائر المهولة والتي يتم التعامل معها من قبل حزب الله بمواجهات صاروخية غير مؤثرة في موازين القوى على الأرض، وبتغيير موقفه بشكل متقلب من المعادلة السياسية المطلوبة لإيقاف الحرب.<BR><BR>ومن هنا أصبح الطلب الوحيد والأساسي لكل الجهود المبذولة يتمحور حول وقف إطلاق النار ثم التباحث في ترتيبات قد تجر على لبنان وعلى المنطقة من بعده المزيد من الإذلال والتحكم والسيطرة والمزيد من القيود والعراقيل أمام مراحل المواجهة الحقيقية والشاملة للأمة الإسلامية مع اليهود، مما سيفتح المجال واسعا أمام الحديث عن حزب الله وعن مشاريعه وأهدافه وعن ولاءاته. <BR><BR>مستقبل الساحة الإسلامية<BR>رغم مرارة الانقسامات والمزايدات التي نشأت داخل الصف الإسلامي حول موقف أطرافه المتعددة من حزب الله اللبناني أو من طريق الجهاد والمقاومة وآلياته وسياساته، إلا أن المتوقع أن تشهد الساحة المزيد من الجدل والتراجعات أو التأويلات، وخاصة إذا انتهت الأزمة إلى مزيد من التأمين لحدود الكيان الصهيوني الشمالية عبر قوات دولية كما هو متوقع، وإعادة "تأهيل" لحزب الله عبر تحوله لحزب سياسي ذو جماهيرية واسعة وثقافة بطولية مرشحة لإرباك المفاهيم وخلخلة الصفوف لمدة ليست بالقصيرة.<BR><BR>لكن على أقل الأحوال ستتضح الرؤية وسيعيد الجميع حساباتهم وبلورة مواقفهم بطريقة مختلفة، وسيتبين إن كان المشككون والمتحفظون على الأهداف والأسباب كانوا يفهمون الواقع أم يجهلونه، وهل مجرد تلاقي مصالح وأجندات بعض حكومات المنطقة مع وجهة نظر بعض القيادات الإسلامية يمثل تفاهما وتحالفا أم هو فقط تلاق مجرد مع اختلاف الدوافع.<BR><BR>وستتضح الرؤية حول من يتبنى الجهاد الشرعي والمقاومة الحقيقية ويدعمها في كل المناطق وفي كل الظروف والأحوال، ومن الذي يتاجر بها خدمة لأهدافه الخفية ، ومن هم الذين حاولوا باجتهادهم المتسرع تعبئة الجماهير وحشدها نحو مقاومة غير واضحة الدوافع والأهداف. <BR> <BR><br>