حرب إعلامية وسياسية على الطريقة الجزائرية!
18 رمضان 1427

من طالع الصحف الفرانكفونية الجزائرية ( أو الصحف الصادرة في فرنسا) في الأيام الأخيرة الماضية لا بد انه استغرب تلك الحرب التي تشنها أهم عناوين الجرائد على شخصيات قيادية من الجبهة الإسلامية للإنقاذ الذين عادوا إلى الجزائر مستفيدين من قانون العفو المدني الشامل و من حق العودة إلى الوطن بعد سنوات من المنفى. ما يبدو ملفتا أن وسائل الإعلام لم تعد تعبر عن رأيها كجرائد فرانكفونية بقدر ما صارت تعبر عن رؤى جهات داخل السلطة الجزائرية و التي استفادت بشكل كبير من سنوات العنف و الدمار والخراب و جمعت ثروات طائلة جراء العتمة و الفوضى والانفلات الأمني و السياسي و القانوني و الاقتصادي الذي كانت تعانيه الجزائر طوال أكثر من عشرية يطلق عليها الجزائريون اسم العشرية الحمراء، نسبة إلى العنف الذي أكل الأخضر و اليابس وأدى إلى انهيار خطير للبنية التحية و التي يدفع ثمنا آليا البسطاء والفقراء من الجزائريين، و إلى آلاف من القتلى و من المختطفين الذين لم يظهر لهم أثر أبدا. <BR><font color="#ff0000">لم تكن عودة شخصيات من الجبهة الإسلامية للإنقاذ كعودة القيادي رابح الكبير حدثا عاديا أو بسيطا بالنسبة للجزائريين الذين ظلوا يراقبون عودتهم بسؤالين يبدوان شرعيان أكثر من أي وقت مضى: هل سينتهي العنف إلى الأبد؟ وهل ستعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى العمل السياسي؟</font> و هو السؤال نفسه الذي تلوكه بشكل مغاير اليوم شخصيات مناوئة و مناهضة لمشروع المصالحة الذي طرحه الوضع العالم في الجزائر أكثر مما طرحه (الرئيس الجزائري) عبد العزيز بوتفليقة، لأن الحقيقة التي لا يمكن مجادلتها في الوضع الجزائري هي أن الذين دفعوا ثمن العنف كانوا من الجزائريين البسطاء، و الذين يدفعون ثمن هذه الفانتازية التي تمارسها الأصوات المناهضة للمصالحة هم أيضا البسطاء. بيد أن المشكلة لم تطرح على أساس ماذا يريد الجزائريون، بل طرحت على أساس ماذا تريد النخبة الحاكمة التي لم تتغير منذ سنوات طويلة و لم تستوعب أن التغيير طرأ فعليا ليس على الجزائر بل و على العالم كله؛ لأن النظم الشمولية انهارت و السلطات الديكتاتورية انهارت أيضا، و لم يعد ثمة مناص من الاعتراف بالتغيير لأجل الشعوب و لأجل أن تتحرر الشعوب من الداخل قبل أن يصلها الوحش الامبريالي لتغييرها بديمقراطية القنابل و القتل اليومي و العمدي والتنصير الذي صار يطرح اليوم في دول كثيرة على أساس أنه المشروع الديني البديل، كما حدث في السنغال حين تم طرح مسألة التنصير في كبريات الصحف السنغالية على أساس أنه جزء من التحضر و من السلام وكحل جذري للمشاكل السنغالية العالقة! و هي المساومات الخطيرة التي لم تعد أي دولة بمنأى عنها بالخصوص بعد أن كشف البابا بنديث السادس عشر عن أنيابته بتوجيه الإهانة المباشرة لسيده وأشرف خلق الله رسولنا محمد _صلوات الله و سلامه عليه_، ناهيك على أن الجزائر ليست بمنأى عن ذلك النوع من المساومات بدليل أن الذين يشجعون التنصير في دولة المليون شهيد هم أنفسهم الذين يشنون الحرب على كل ما له علاقة باللغة العربية و بالإسلام من خلال ربطهما مباشرة بالإرهاب و تخويف الناس منهما.<BR><font color="#ff0000">* فقراء الأزمة المتداولة! </font><BR>في المخيلة الشعبية الجزائرية يوجد الكثير من الحكايات التي ترتبط بآلية التاريخ الجزائري، بالخصوص تلك التي تستمد تواجدها من التاريخ الثوري نفسه، منذ القرن السابع عشرة، و منذ الثورات التي كانت تشنها المقاومة من عهد الشيوخ الأجلاء من الشيخ "المقراني" إلى الشيخ " عبد القادر الجزائري" إلى الشيخ "بوعمامة، و إلى جيل من الشهداء الذين كانوا يؤسسون دولة قائمة على العدل وعلى الوفاء لثوابت الأمة دونما زيادة أن نقصان، و الحال أنه في نفس المخيلة الشعبية الجزائرية نجد دائما تلك التقاطعات التي كانت تربط المحتل بالشر، بالتجويع و بالتغريب و بكل المآسي التي تعرضت إليها الجزائر و جعلتها بؤرة للفقر على الرغم من خيراتها الطبيعية التي تضاهي اقتصاديا خيرات دولة الإمارات العربية المتحدة كسبيل المثال لا الحصر، من جهة أخرى، تربط المخيلة الشعبية الجزائرية المقاومة بالتغيير الجذري، بحيث أن المقاومة عند الجزائري ليست مرحلية، بل هي امتداد لجملة من الأشياء اليومية، كمقاومة كل المحاولات التي يراد بها تنصير الجزائريين أو إضعافهم عبر حالة من الإحباطات اليومية التي تفرض عليهم بكل الطرق بدءا بالطرق النفسية وصولا إلى الطرق الانتهازية التي ساومت الجزائريين من قبل على دماء أكثر من مليون و نصف المليون شهيد و تساومهم اليوم على دماء الشرفاء الذين يرفضون أن يكونوا جزءا من الثقافة التهميشية و من الفكر الانبطاحي الذي يحاول أن يغرس رأسه في رمال " العولمة" وفق المعايير الغربية الراهنة التي لا تختلف عن تلك التي قايض بها اليهود نظرائهم في الغرب قبل ألفي عام، بعبارة " أعطني دمك أتركك حيا"! ما نشهده في الجزائر هو هذا النوع من الراديكالية التي صار يتبناها اليوم من يطلقون على أنفسهم لقب الاستئصالين، و الذين يتكونون في النهاية من رجالات النخبة الذين لا يمثلون الشعب سوى في كونهم نهبوا أملاكه و خيراته باسم " التميز" و هو ما صنع كارثة الفقر التي تجاوزت ال46% من مجموع الشعب بالرغم من أن الجزائر ـ كما قلنا ـ تعد من أغنى الدول من حيث إيراداتها من البترول و من الغاز الطبيعي. و الحال أنه كلما ارتفع سعر برميل النفط كلما تحسس البسطاء فقرهم أكثر و إحساسهم بالتهميش على مرأى من أولئك الذين كانوا يطبطبون على بطونهم المنتفخة و يجوّعون الشعب لأجل تكريس ثقافة " الطبقية" التي تبنتها البورجوازية الفرنسية لأجل عدم إقامة العدل الاجتماعي بين المواطنين، و لأجل أن تبقى الطبقات الشعبية تحت الأرجل ترفسها الأحذية الغليظة في كل وقت تشاء. <BR><font color="#ff0000">* جزائريون.. و لكن!! </font><BR>مشاكل الجزائر لم تكن في يوم من الأيام مرتبطة بالسياسة فقط، أو بالأداء السياسي فحسب، بل كانت مشاكل أخلاقية محضة، بحيث أن الذين تداولوا على السلطة في كل المناصب الرسمية أو غير الرسمية، سواء الوظائف السلطوية المباشرة أو من وراء الستار افتقدوا إلى أخلاقيات الأداء، و لهذا تجلت مشاكل الجزائريين الأخلاقية أيضا حين صار النهب سياسة بعينها، و تحولت الرذيلة في بعض الحالات إلى انعكاس للرقي الذي تنشده الأقليات التغريبية على حساب كل الشعب الذي يعي جيدا أنه متجذر من أرض أعطت لأجل استقلالها الغالي و النفيس.. أرض سقاها الشهداء بدمائهم الزكية ، و الشرفاء الذين استوعبوا من البداية خيار الأمة في مكاسبها الأخلاقية و في قيمها و ثوابتها المستمدة من "الله أكبر" التي كانت تقود رجال الثورة منذ القرن السابع عشر، إلى الخمسينيات الميلادية حين اندلعت الثورة التحريرية وقف وراءها الشعب كله لأجل فرض التغيير و لأجل عودة الأرض إلى أهلها. <font color="#ff0000"> و لعل الغريب أن يكتب الجنرال الفرنسي المجرم "ماسو" في مقطع من مذكراته أن فرنسا لم تغادر الجزائر تماما لأنها تركت جزائريين مواليين لفرنسا أكثر من الفرنسيين أنفسهم.. </font> و هي الجملة التي للأسف لم نستطع تكذيبها كجزائريين كون الذين كرسوا الفرنسية و حاربوا العربية و حاربوا ثوابت الأمة و دافعوا عن الفساد و الرذيلة و الفسق و الزنا لم يكونوا أبدا ممن يخاف الله، بل كانوا من النخبة التي تركتها فرنسا لتدافع عن مصالحها في الجزائر و لأجل أن تستعيد هذه الأرض التي أخرجها الثوار و الشهداء منها بالقوة، و هو الأمر الذي جعل جنرالات فرنسا الذين ارتكبوا جرائم حرب ضد الجزائريين إبان الاحتلال لا يعاقبون على جرائهم لأن ثمة من يقلب الصفحات ولأن ثمة من يدافع عن المصالح الآنية الضيقة، <font color="#ff0000"> و ثمة من يهدد الجزائريين بالحرب تحت السطور إن تحول الشعب من جديد إلى خيار الثوابت و القيم، بدليل أن جماعات مسلحة صارت تهدد بالعودة إلى العنف في الجزائر اليوم، و هي جماعات يشكك شيوخ و قياديي الجبهة الإسلامية للإنقاذ في نواياهم و في كونهم أداة بين أيدي شخصيات سلطوية ترفض التغيير و تريد تكريس حالة الضغط المستمرة</font> و حالة الإحباط المزمنة لأجل ألا يرفع الناس هامتهم لأن العنف الذي ذاقه الجزائريون كان درسا فظيعا يعي الجميع انه لو عاد فلن ينتهي أبدا!<BR><BR><br>