صراع على الدولة أم الثورة في غزة؟
4 جمادى الثانية 1428

لا يغدو الحديث عن وحدة الصف الفلسطيني أكثر من ترنيمة غابت وسط ضجيج من أصوات أبواق مزعجة لحرب تمضي في غير ميدانها، أو بيت شعر عربي يلقى بين الأعاجم، غير أنّا مع ذلك لن نسأم نردده، لاسيما إذا ما أفضى الاصطفاف والاصطفاف المقابل إلى حالة من اللاوعي الوطني القافز بالقضية الفلسطينية إلى ظلمات المجهول. <BR>وقد يكون من المتعذر حالياً إعادة زرع الثقة بين حركتي حماس وفتح حين دق الغرب بينهم عطر منشم؛ فصارت الفتنة آخذة بتلابيب الفلسطينيين إلى مزيد من التراجع في المشروع المقاوم وإلى تذبذب القناعات بجدوى الصمود في معركة الخارج فيما الداخل خرب، والرؤية ضبابية، بيد أن من المفيد في تلك اللحظة أن نعالج المشهد من زوايا قد يريد البعض أن تظل حبيسة الصدور ولا تعرف طريقها إلى الأوراق.. علينا إذن أن نعاين حقائق أو استنتاجات هي في النظر أقرب إلى الحقائق وإن لم تدعِ احتكارها: <BR><BR>• لابد أولاً من السؤال الذي لا يريد من ينحاز إلى فريق دون آخر أن يمنحنا إجابة وافية عليه، وهو لماذا تُقْدِم حكومة يفترض أنها تضم وزير داخلية، يفترض بدوره أنه يأمر الأجهزة الأمنية فتطيعه، وينهاها فتنتهي؟ أليس هو ذاك التهويم المسمى بالأجهزة الأمنية الفلسطينية التي لا تريد أن تخضع إلا صورياً للحكومة فيما سيوفها وقلوبها معاً مع رأس السلطة الفلسطينية.. <BR>• إذا كانت عين العدالة عمياء فلماذا فتحت عيناً ساعة رفض الرئيس الفلسطيني محمود عباس، حين كان رئيس للوزراء إبان ترؤس الراحل ياسر عرفات السلطة الفلسطينية، القيام بمهامه إلا إذا مُنِح صلاحيات أمنية واسعة، وقف العالم كله ضاغطاً على الرئيس الراحل كي يمنحها إياه، حتى أذعن عرفات، ثم تغمضها عندما يسعى رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية للتمسك بالحق ذاته؟ أمِن المقبول أن تمضي الصلاحيات الأمنية مع شخص واحد أنّى حل في منصب؟! إن من المنطقي أن يكون النضال في هذا السبيل لإنجاز هيكل متزن للسلطة لا أن تكون الصلاحيات عرضة للتدوير وأن يكون العالم كله بمثل هذا النفاق السياسي الذي يقبل الشيء ونقيضه في آن معاً.. <BR>• دعونا نبسط المسألة ونتحدث بصراحة تطّرح كل ديباجات البيانات والمواقف السياسية المنمقة، لتدخل بنا إلى صميم المشكلة، وهي أنه لم تكن هناك ديمقراطية حقيقة في فلسطين، ولم تكن هناك دولة لتجرى انتخابات لترؤسها سواء لسلطتها أو لحكومتها، وأن كل ما جرى، كان خلافاً حول قضايا أمنية تخص ملفات عديدة، تنظر لها حركة فتح كحافظة وضمانة لقوتها في الداخل في مقابل المجموعات الأخرى، وكقوة موازية لقوتها السياسية والدبلوماسية ولا تريد لغيرها أن تنتزع منها هذه الحافظة ولا تلك الضمانة أو حتى تشاطرها إياها، وتريد قلة منها أن تكون هذه القوة ضمانة لتقييد حركة عناصر المقاومة التي تخرج عن خطوط حمراء رسمت بريشة مزدوجة، وتريد حماس من جهتها أن تفتح من خلالها ملفات العملاء والجواسيس السابقين والحاليين ـ وفقاً لرؤيتها ـ الذين بلغوا ذروة نشاطهم وجهدهم مع سلسلة اغتيالات قاسية استهدفت مؤسس الحركة الروحي وطائفة من أرفع قياداتها وكوادرها على الصعيدين السياسي والعسكري، وتريد حماس من خلال الولوج إلى داخل الساحة السياسية وتصدرها أن تخفف من ضغوط أمنية مورست عليها على نطاق واسع، وتتخذ من فترة الهدوء "استراحة محارب" تمكنها من التقاط أنفاسها للتحرك مجدداً وفقاً لأجندتها، فيما بين الحركتين لم يكن هناك صراع بالمعنى المتعارف عليه من أجل "دولة" وإنما من أجل "ثورة" أو لنقل التحدث باسمها وقيادتها أيا كان كنه وتعريف هذه "الثورة"، التي قد يراها البعض غنيمة أو نضالاً سياسياً أو جهاداً أو مزيجاً من هذا وذاك!! وقد علم كل أناس مشربهم؛ فحركة فتح برغم الحديث عن مسألة تداول السلطة، إلا أنها لا تريد استلاباً من غيرها، انجازاً ترى أنها حققته تراكمياً عبر نضال استمر لعقود، أثمر في الأخير "أوسلو" واتفاقاتها الذي كان من بين نتائجه هذه السلطة التي سمحت بدخول السلاح إلى غزة والضفة تحت لافتة الأجهزة الأمنية التي شكلها الرئيس الراحل على نحو متشعب رنا من خلاله إلى إحكام قبضة قائد الثورة الفلسطينية عليها وعدم استعداده لمنح الآخرين نفوذاً قد دفعت حركته ضريبة الدم ثمناً له ثم تلته أثمان أخرى. وإذن فتح تعتبر أنها هي من ناضلت حتى حظيت بأوسلو رغم تحفظ الآخرين عليها، وهي من سمحت من ثَم للآخرين بالمشاركة في الانتخابات عبر آليات أوسلو وعليه؛ فإن لها حظوة لابد ألا ينساها من أدركوها في استحقاقات أوسلو ولو لحاق المضطر الذي جرفته السيول العسكرية نحو وادي أوسلو، وترى أنها الركن الأساسي في منظمة التحرير الفلسطينية التي هي حاضنة القضية الفلسطينية والموكولة بالحديث عنها وتسيير شؤونها. أما حماس فإنها ترى في داخل الأجهزة الأمنية خروقات اتسعت لتشمل أناساً كان الجميع من قبل يزكي استهدافهم إبان الانتفاضة الأولى، وهم مجموعة "العملاء" الذين تقول إنهم يشغلون مناصب عالية في السلطة الفلسطينية، وأن هذه الأخيرة صارت وكراً وحامية لهم وأنهم قد استحالوا قوة نافذة في جسد فتح لابد من استئصالها عبر صناديق الانتخابات؛ فإن عجزت فلا مناص من التحرك على نحو ما كانت الفصائل جميعاً تقبله بل وتثمنه إبان الانتفاضة الأولى. <BR>• كلا الفريقين أطلق على الآخر لفظ "الانقلابيين"، رغم أن كليهما في السلطة بشكل أو بآخر، والاستثناء فقط أن حماس تطلقه على مجموعة من فتح، بينما تكاد تسحبه فتح على كامل الحركة الإسلامية التي دعت إحدى تشكيلاتها إلى اعتبارها "حركة محظورة"، وهو المسمى المعمول به للتعريف بحركة الإخوان المسلمين المصرية، ولفتح مبررها في تسمية هؤلاء بهذا الاسم كونهم فككوا الأجهزة الأمنية في غزة مثل لعب الأطفال، برغم تسليحها القوي، وبرغم شرعيتها المأخوذة إلى صلاحيات منحت للرئيس الفلسطيني حتى لا تستأثر بالجانب الأمني حركة ماضية إلى "الحظر"، إلا أن حماس تعجب من حكومة ترأستها مرتين من دون أن يمنحها "المؤمنون بتداول السلطة" أيا من صلاحياتها، بل شاركوا في تقويضها حين صارت لغيرهم، وحماس في حسها أنها لم تحكم يوماً واحداً حتى يمكن تقويم أدائها في السلطة من عدمه، وبالتالي تعتبر أنها قد استنفذت كل الطرق السلمية لنيل صلاحياتها، ولم يعد أمامها إلا الانسحاب ودفع فاتورته الباهظة، والاستعداد من جديد للتعامل مع ملف "العملاء"، وإعلان الفشل في إدارة شؤون السلطة، والاعتراف بدور حركة فتح ـ برغم كل ما يقال عن فساد بعض قادتها ـ في تسيير شؤون أراضي فلسطين 67 وأن عليها أن تترك السياسية لـ"المخضرمين" الذين يتهمونها دوماً بمحدودية الخبرة السياسية. أو الهروب إلى الأمام في معركة عض الأصابع إذ لم يعد لدى حماس ما تخسره، لاسيما مع توحد الجميع ضدها مهما بذلت من تنازلات سياسية، ولاسيما بعد أن فشلت الحركة في "زرع" جسم القوة التنفيذية في جسد الأجهزة الأمنية الفتحاوية بالأصالة دونما أعراض جانبية ذات مردود مزلزل.<BR>وزاد بعض الفتحاويين تهمة أخرى لحماس بـ"التشيع" لقبول الحركة أموالاً بشكل معلن من النظام الإيراني الذي حظي لحظة انطلاق ثورته قبل ربع قرن بزيارة أولى لزعيم فلسطين الراحل، كما حظي حلفاؤه في لبنان/حركة أمل بتدريب عسكري من حركة فتح منذ ما يزيد عن عقدين، لم تزل تعالج الحركة آثاره السلبية عليها حتى اللحظة. <BR>• بدا الموقف الأوروبي مثيراً للاشمئزاز عندما كانت المعارك قد هدأت في غزة وبدأت التوترات تأخذ شكلاً تصاعدياً في الضفة؛ فإذا به يصف الأوضاع في غزة ـ بعد أن هدأت ـ بأنها "حرب انتحارية" مبرراً بذلك منع المساعدات عنها، فيما رأى بعينه الكليلة نار الضفة قد خبت، وهي بعد تشرع في الاضطرام!! ليضع بذلك الاتحاد الأوروبي نفسه في منطقة مظلمة تمزج السياسة بالجوانب الإنسانية التي ما فتئت مع الاتحاد تميل مع المصالح الأوروبية حيثما مالت، وتتسق مع رؤية ضيقة للاتحاد لا تجد في غزة إلا "عناصر متطرفة" ينبغي أن يحويها سجن غزة الكبير الذي يحكم السجان "الإسرائيلي" قبضته عليه من الخارج، ويمنع الاتحاد الأوروبي ـ والولايات المتحدة بطبيعة الحال ـ عنه القوت. <BR>• ربما نظرت السلطة الفلسطينية إلى الموقف العربي بعين الارتياح، لكن حركة حماس بالتأكيد لن تشاطرها هذا الرأي، وإن رحبت "دبلوماسياً" بالموقف العربي الذي عبر عنه اجتماع وزراء الخارجية العرب أول من أمس، فحماس تدرك أن الموقف العربي لم يبرح المنطقة المحددة له دولياً، ولابد وأن حماس ستتساءل عن وعد قطعه العرب على أنفسهم ثم نكسوه بالخروج من حيز المرسوم الأمريكي بفرض حصار على الشعب الفلسطيني ريثما تخرج حركة حماس من سدة الحكم الفلسطيني، ولعل حماس داخل أروقتها تتذكر كيف أوقعت الدول العربية في شراك مضحك عندما أوهمت الجميع بأن رئيس الوزراء إسماعيل هنية سيستقيل، فامتشق العرب سيوفهم الخشبية وتحدثوا عن رفع الحصار بشكل جماعي، ثم لما تراجع هنية تراجعوا، ثم لما انحاز كل فريق بإقليم فلسطيني كان معظم العرب ـ كعادتهم ـ في الفلك الأمريكي الذي يفرق بين الضفة والقطاع وفقاً للطبيعة "الإنساسياسية".. ويتجاهلون أن اجتماعهم يلتئم فيما منظمة التحرير على حالها المتكلس الذي تحدث بنو يعرب جميعهم عن وجوب إعادة هيلكتها وعن ضرورة التزام بحكومة وحدة لها صلاحيات تستأهل ألا يستقيل وزير داخليتها فوراً مثلما حدث، وأنهم قد ضنوا على حماس بأية ضمانات تمنحهم حافزاً للاستمرار أو حتى الالتفات إلى مثل هذه الاجتماعات الروتينية. <BR>• وفي الأخير، هذا أنموذج ديمقراطي فاشل جديد، يؤشر إلى حقيقة ظل يتجادل حولها المفكرون السياسيون، وها هم قد ارتد إليهم بصرهم خائباً، إذ لا ديمقراطية تحت احتلال، هذا أولاً، وهذا ليس جديداً.. لكن الجديد والأخطر أن الجميع التقى في الساحة العربية والإسلامية ليقول لأصحاب الحل الديني، على رسلكم، لا مقام لكم فارجعوا.. لا سبيل إلى التداول السلمي للسلطة.. فما الذي يرجوه هؤلاء المجانين الدوليين والإقليميين والمحليين الذين وأدوا هذه التجربة برعونتهم المعهودة؟؟ أن يطأطئ قادة حماس رؤوسهم خجلاً أمام من وصفهم بالتنازل والتراجع عن خط المقاومة والجهاد؟!! <BR><BR><br>