تعيين بلير: و على عملية السلام، السلام!!
25 جمادى الثانية 1428

حتى قبل أن يتأكد خبر تعيين (رئيس وزراء بريطانيا المنتهية عهدته) توني بلير مبعوثا للرباعية للسلام في الشرق الأوسط، كتب الصحفي المخضرم روبرت فيسك مراسل جريدة الأندبندنت اللندنية يقول: "لقد كان أول ما فعلته هو التأكد أن التاريخ لا يصادف بداية شهر نيسان/أبريل" و لعل فيسك في هذا الإطار محق جدا لأن هذا الأمر دليل إضافي على مدى ضخامة الكذبة و هوان السلام أصلا في أعين رعاته بدءًا من أميركا التي هي جزء من المشكلة و لا يمكن أن تكون بالتالي جزءًا من الحال، مرورا بروسيا المترددة في كل شيء منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، ثم الاتحاد الأوروبي الذي لا وجود فعلي له في الوقت الحالي إلا على الورق، وصولا إلى منظمة 'أمم متحدة' بلا قيمة و لا هدف في عالم ما بعد 9/11 و لا يفكر أحد في موقفها خصوصا و أن أمينها العام الذي كان يوصف سابقا أنه الدبلوماسي الأول عالميا، لم يعد في السنوات الأخيرة غير مجرد موظف ملحق بكتابة الدولة الأميركية على اعتبار أن واشنطن هي المساهم الأكبر ميزانية الهيئة بكل بساطة !<BR>المشكلة إذن أن عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط صارت هينة إلى حد تعيين شخص مجرم يقول عنه فيسك نفسه أنه: "يتحمل دماء آلاف من الرجال و النساء في العراق و أفغانستان على الأقل" و هذا يعني أن هذا الرجل الذي كان يفترض أن يعاقب بسبب الويلات التي جرها على بلاده بغض النظر عن انكساراتها العسكرية في كل من العراق و أفغانستان و التي قد يتطلب أمر إصلاحها سنوات طويلة و ربما عقودا كما يجزم بذلك الصحفي البريطاني الآخر باتريك سيل، كوفئ بهذا التعيين بما يفيد و بشكل قاطع أن الأمر جرى وفقا لرغبة أميركية صهيونية واضحة لأن المعيّن لم يدّخر جهدا منذ بلغ مبنى 10 دوانينغ ستريت قبل عشر سنوات من الآن، في سبيل الانحياز الأعمى صوب السياسة الأميركية الخارجية المتطرفة إلى درجة صارت الصحافة البريطانية نفسها لا تتردد في وصفه بـأنه: "كلب" الكاوبوي بوش فمن منكم يعرف شخصا في الشرق الأوسط كله يحب السيد بلير باستثناء الصهاينة؟ إن محمود عباس نفسه رغم أنه رمز 'الاعتدال' في المنطقة لا يستطيع أن يصرح بذلك علناً لأن البريطانيين الذين لا ينكرون أن بلادهم هي أصلا سبب المشكلة الفلسطينية منذ بدايتها قبل تسعين عاما من الآن بإصدارها لما عرف تاريخيا بوعد بلفور، لا يخفون مشاعر كرههم لبلير و رغبتهم في ذهابه مع بداية الحرب على العراق على أقل تقدير فرئيس وزراءهم هذا هو الذي سجل أدنى نسب الشعبية و التقدير منذ عقود !!<BR>ثم إن فيسك ليس المتذمر الوحيد فلقد كتب الصحفي إي جيل، محرر دورية فانيتي فير و مؤلف كتاب: 'الجزيرة الغاضبة: اصطياد البريطانيين' على صفحات جريدة الواشنطن بوست يقول: "احتفالاً بانتهاء الفترة التي قضاها رئيساً لوزراء بريطانيا، اقترح أعضاء المطبخ السياسي في 10 دوانينغ ستريت على بلير أن يقوم بجولة وداعية يزور فيها المدارس والمستشفيات ومراكز الفن والمحميات الطبيعية والثكنات العسكرية ليمنح 'الناس الحقيقيين' -كما يحب السياسيون أن يشيروا إليهم- الفرصة كي يقولوا له "شكراً"، ولكي يربت هو على ظهورهم رداً على مجاملتهم إلا أنم هذا الاقتراح الخاص بتلك الجولة، تعطل لسبب ما وهو ما أتاح لمستشاريه الوقت للتفكير في شيء آخر. وفي النهاية استقروا على أنه يجب أن يقوم بنفس الرحلة الوداعية، ويقابل نفس الأشخاص الذين كان سيقابلهم، ويزور الأماكن نفسها تقريباً، ولكن ليس هنا في بريطانيا وإنما في قارة أفريقيا. نعم في قارة أفريقيا، لأنها ستكون أكثر تعاطفاً وأكثر امتناناً بدليل أن (الزعيم الليبي) معمر القذافي يحبه أكثر مما يحبه بعض ناخبيه. المهم أن هؤلاء المستشارين قد شعروا أن زيارة أفريقيا ستكون أفضل في جميع الأحوال"!!<BR>طبيعي بالتالي أن تعيين بلير هو بمثابة مكافأة للرجل على ما قدمه حتى الآن من خدمات جليلة و طاعة عمياء للبيت الأبيض بشكل سخط منه البريطانيون قبل غيرهم و لا عجب هنا لأن بوش و من يقف وراءه من غلاة المحافظين الجدد المتصهينين و الذين لا يتعبون من دعم إسرائيل بكل شكل، هم من قرر دفع هذا الرجل صوب مهمة الوساطة بعد أن فشلوا في تعيينه على رأس البنك الدولي خلفا للصهيوني الآخر وولفوفيتز أو حتى على رأس الاتحاد الأوروبي بسبب رفض الأوروبيين أنفسهم لذلك و في هذا التعيين دليل جديد على أنه لا أحد يفكر جديا فيما قد تؤول إليه مشاريع السلام بالشرق الأوسط لأن البنك الدولي و مستقبل اتحاد القارة العجوز أهم و أخطر من أن يتولاهما في نظر الأوروبيين سياسي فاشل كبلير و لا بد أن نتذكر هنا أن السياسيين الفاشلين كانوا دوما أول من يدفع الثمن عند أول مناسبة فأنتوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا خلال الخمسينيات سقط سقوطا مريعا بعد فشل حرب السويس في العام 1956، أما الرئيس الأميركي ليندون جونسون فلقد ارتحل لأنه صعّد الحرب في فيتنام دونما تحقيق أي تقدم، في حين انتهت الحياة السياسية لرئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق ميناحيم بيغن، بمجرد فشل حملته على لبنان في 1982 فهل كل هذا غير كاف لنقول أن قرار تمديد مهمة بلير هو خيار غير مسبوق في العرف السياسي حتى الساعة؟!!<BR>الواقع أنه لا أحد يشك في سوء نية الفريق البوشي –اللهم إلا بعض غلاة المتأمركين عندنا- فالانحياز أوضح من أن نتحدث عنه و التورط البريطاني في كل الجرائم التي ارتكبت باسم الحرية و العدالة و نشر الديمقراطية، بيّـن لأنها أكثر من أن تحصى فبلير هذا هو نفسه الذي أصر على رفض دعوات وقف إطلاق النار خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف العام الماضي و هو نفسه الذي لم يجرؤ يوما على إدانة أية جريمة صهيونية ضد الفلسطينيين أما عدد المدن العراقية التي دمرت بفضل مشاركة قوات بلاده هناك و تحت يافطة محاربة الإرهاب، فهي عسيرة على العد و اسألوا في هذا الإطار كلا من بغداد، الفلوجة، تلعفر، القائم، سامراء، تكريت و أخيرا و ليس آخرا، بعقوبة أما عدد القتلى العراقيين فلقد بلغوا بحسب دراسة نشرية 'The Lancet' نحو ثلاثة أرباع المليون إنسان و لا شك في أن هذا العدد قد ارتفع الآن فضلا على أنه لا دليل في الأفق يشير إلى أنه سائر نحو التوقف.<BR>في افتتاحية جريدة لوموند الفرنسية لهذا الجمعة الأخير، يمكننا أن نقرأ: "لا يحظى السيد بلير بالإجماع حتى وسط موظفي وزارة الخارجية البريطانية لأنهم يرون فيه شخصا متحيزا إلى الجانب الإسرائيلي أكثر من اللازم و لا أحد يستطيع الجزم أن هذا الرجل رغم مقدراته الدبلوماسية، قادر على النجاح خصوصا بعد أن أعلن سلفه جيمس وولفنسون قبل أكثر من عام من الآن فشله" قبل أن تختتم ذات الجريدة تعليقها بالقول: "لسوء حظ السيد بلير فإن فلسطين ليست ايرلندا الشمالية و أن غزة ليست بلفاست" !<BR>قد يجادل البعض أن بلير الفاشل خارجيا، نجح في تحقيق نجاحات داخلية و هذا أمر محل شد و جذب حتى في بريطانيا نفسها فما يقال أنه نمطية ليبرالية 'بليرية' أو "طريقا ثالثة" في إدارة الاقتصاد و علاج المشكلات، لا يعدو أن يكون تعديلا طفيفا للمنهجية التي سادت أيام رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر فلقد واصل بلير سياسة تحرير مصرف إنكلترا المركزي في ذات الوقت الذي أتم فيه سياسة خصخصة التعليم و المنظومة الصحية على الرغم من أنه ينتمي أيديولوجيا إلى حزب يساري يفترض أنه يقوم على عكس هذه التوجهات.<BR>الأمر إذن قد يعني ببساطة شديدة حرصا أميركيا على إطلاق 'رصاصة رحمة' على عملية السلام بمعنى أن الإدارة في واشنطن و حلفاءها عبر العالم قرروا سحب بساط التسوية من تحت أقدام المؤسسات الدولية -مع كل التحفظ على هذه العبارة الأخيرة- و تكفل المتصهينين بملف الصراع العربي الإسرائيلي بشكل نهائي حتى تصير التسوية مرادفا للتصفية من خلال فرض الأمر الواقع فلا أحد يتصور مثلا أن بلير سوف يكون على مسافة واحدة من الأفرقاء فسادس المستحيلات أنه سوف يتعامل مع عباس في رام الله كما يتعامل مع أولمرت في القدس المحتلة أما سابعها فهو تعامله مع حركة حماس لأنه ما انفك يعتبرها منذ سنوات طويلة 'منظمة إرهابية' تنبغي محاربتها بدل التفاوض معها و بالتالي فهي في نظره أقل شأنا من الجيش الجمهوري الأيرلندي الذي انقلب موقف الساسة في لندن منه رأسا على عقب حتى صار شريكا سياسيا لهم بعد أن كان هو الآخر 'إرهابيا مجرما' علاوة على أن المقارنة هنا أيضا غير ممكنة لأن حماس لم تقتل لحد الساعة بريطانياً واحدا على عكس الأيرلنديين ! <BR>أليس من حقنا أخيرا أن نسأل: من يضمن لنا ما دام التواطؤ قد بلغ هذا الحد من الاستهزاء، أن 'المجموعة الدولية' سوف لن تعين الرئيس بوش عند انتهاء ولايته بعد أقل من عامين من الآن، مبعوثا للسلام في العراق بما أننا نعيش عصر انقلاب الصورة !!<BR><br>