غزة – سديروت: نموذج تحرير فلسطين
1 رجب 1428

في النظر والتعاطي مع غزة "في وضعها الجديد" ،ما بعد إنهاء ظاهرة التآمر الداخلي مع الأمريكان والصهاينة على يد محمد دحلان وعباس ،طرح السياسيون والإعلاميون جوانب عديدة في تصور آفاق وأبعاد وملامح هذا الوضع الجديد كان القاسم الأعظم فيها للأسف هو الرؤية السلبية المظلمة والقاتمة للوضع الراهن والمال الذي ينتظر غزة وفلسطين في ذات الوقت.هناك من رأى أن الإشكالية التي تواجهها غزة الآن هو أنها أصبحت تماما داخل المساحة الاستراتيجية الصهيونية على اعتبار أن الخطة الصهيونية الأصلية –التي تلازمت مع إعلان قيام الكيان الصهيوني-قامت على تقسيم الشعب الفلسطيني ثم إعادة تقسيمه وإنتاج عمليات التقسيم في كل مكان يوجد فيه باعتبار أن الشعب المقسم غير الموحد هو شعب جاهز لاستمرار احتلاله حيث المجتمع المقسم يستهلك طاقته في مواجهة نفسه لا في مواجهة المحتل مغتصب الأرض .<BR> وهناك من رأى أن غزة الآن باتت مستوفية لكل شروط اجتياحها من قبل الجيش الصهيوني ،حيث لم تعد تتمتع بأي غطاء سياسي على الصعيد الدولي أو العربي أو حتى الفلسطيني (باعتبار عباس لم يترك شيء في غزة لم ينزع عنه الشرعية أو لم يحرض على قصفه أو حصاره ) ،وهو ما يمثل فرصة لا تتكرر للجيش الصهيوني والحكومة الصهيونية للقيام بعملية اجتياح شاملة وإعادة احتلالها بأقل تكلفة سياسية وديبلوماسية أو عسكرية.وهناك من رأى أن غزة الآن بات الأخطر في حالتها، أنها باتت على المستوى التنفيذى والإدارى حالة مستقلة ومنقطعة الصلة مع الشعب الفلسطينى في الضفة وإداخل 48 وفى الشتات ،وان الجهد السياسى الفلسطينى الذى بذل طوال السنوات الماضية من اجل الاعتراف بالكيانية والهوية الفلسطينية بات مهددا إلى درجة الخطر الان بوجود حكومة في غزة وأخرى في الضفة .وهناك من تناول الامر من زاوية الحصار الخانق على الشعب الفلسطينى ،وكيف أن غزة الان لم يعد لها وشعبها أى منفذ للتواصل والتبادل مع العالم ،حيث مكون جسدها الجغرافى محاصر بالأرض المحتلة عام 48 والبحر ولا يوجد من منفذ وامتداد له سوى عبر مصر التي ساءها ما جرى، كما هى داخلة في اتفاقات حول المعابر لا يمكن لها التصرف وحدها أو على مسئوليتها فيها .وفى ذلك يرى أصحاب زاوية الرؤية هذه أن شعب غزة سيعانى من الجوع والعطش ويعيش بلا كهرباء أو دواء على اعتبار أن مصادر المياه والطاقة والدواء ..الخ، ما تزال تأتى من الجانب الصهيونى وعلى اعتبار أن التبادل التجارى بإجماليته يجرى مع الجانب الصهيونى .وهكذا في كل ذلك وغيره فنحن أمام حالة يكاد المرء يتصور معها أن غزة أصبحت في حالة موت سريرى ،قطع بشان شفائه أى أمل .<BR>غير أن الأمور في واقع الحال ليست على هذا السوء أو ليست على هذا القدر من السوداوية ،حيث الأصل المعتمد في القياس في معظم هذه الاستنتاجات هو اصل يحتاج إلى مراجعة وإعادة تحديد .وفى حال تحديد الأصول والمرجعيات للقياس والاستنتاج ربما نجد أن معظم هذه الاستنتاجات هى في الأغلب غير دقيقة من الزوايا التي تطرح منها .<BR>والاهم هو أن ثمة زاوية ومنظور اخر للنظر في الوضع الجديد لغزة ،تظهر أن غزة في وضع على الأقل هو أفضل مما كانت عليه من قبل ،فى بعض الجوانب التي أهمها الاقتتال والتوتر والانفلات الذى كان الحالة العامة الدائمة لمدة عام تقريبا قد انتهى،وإننا أمام تحول يمكن حال التعرف بدقة على إبعاده والتخطيط وفق معطياته على نحو استراتيجى أن نجعل من غزة نقطة انطلاق ووثوب باتجاه تحرير فلسطين .<BR><font color="#0000FF">المخاطر:رؤية نقدية</font><BR> ما الجديد على غزة بعد الأحداث من الزوايا التي جعلت المحللين يرون الدنيا سوداء ؟ السؤال يبدو غير موضوعى بحكم دوامات الدخان الأسود التي تظلل سماء التحليل السياسى لأوضاع غزة ،لكنه في واقع الحال مفتاح لفهم الواقع الراهن .هل الجديد هو أن غزة أصبحت محاصرة وهى قبل الأحداث لم تكن كذلك؟ وهل هى كانت موحدة مع الضفة في كيان حامى ومرجعية بنيت على أرضية التحرير فجاءت حماس وقسمتها ؟ وهل ما كان حاميا لها من الاجتياح من قبل هو أن محمود عباس كان يظللها بجناحيه فلما أعلنها مارقة وانفصالية وإمارة ظلامية نزع عنها الغطاء وصارت مكشوفة سياسيا وديبلوماسيا ؟ <BR>واقع الحال أن أزمة التحليلات التي هددت بالويل والثبور وعظائم الأمور ،قد انطلقت جميعها من فكرة خاطئة أو من اصل لا يمثل ومرجعية صحيحة،.هم انطلوا من حالة مرحلية –حتى بحكم الاتفاق حولها هى حالة مرحلية-هى اتفاقات اوسلو لا من غيرها.الذين تحدثوا عن انفصال وتقسيم بين غزة والضفة ،مرجعيتهم هى قواعد وأسس اوسلو وحكومة أوسلو .والذين تحدثوا عن رفع الغطاء السياسى هم يقصدون تحديدا غطاء اوسلو ،والذين رأوا أن غزة عزلت مرجعيتهم هى الأوضاع التي أنجبتها اتفاقات اوسلو .وهكذا إذا حررنا عقولنا من العودة إلى هذا الأصل الصناعى المصنوع وعدنا إلى الثوابت والأصول الحقيقية لوضع الشعب الفلسطينى والقضية محل البحث ،سنجد أن لا شيء تغير جوهريا بعد الأحداث الأخيرة وربما نجد أن غزة في وضع أفضل الآن بتقليص مساحة ارتباطها بقيود أوسلوا قبل كل أمر اخر.<BR>الوحدة السياسية الفلسطينية هى وحدة الشعب وهى الوحدة السياسية النضالية والجهادية وهى وحدة تقوم على علاقات الشعب وهويته وعلى صلة وتواصل الفصائل المفترض أن بوتقتها ومرجعيتها هى منظمة التحرير (بعد أن يعاد تصحيح مسارها أو بعد أن يجرى إعادة تأسيسها )،أما حكومة اوسلو ومرجعيتها اتفاقات اوسلو ،فهى في واقع الحال -وبالنظر العميق- لم تكن سوى حكومة تفتيت لا حكومة تجميع ،إذ جوهرها هو عزل الشعب الفلسطينى في الضفة وغزة عن بقية مكونات الشعب الفلسطينى،باعتبار أنها حكومة للقاطنين في الضفة وغزة وان شرط قيامها هو بقاء اهل الضفة وغزة معزولين -بحكم من الاتفاقات والقواعد الدولية -عن تمثيل بقية الشعب الفلسطينى في الشتات وفى الأرض المحتلة في عام 48.<BR>والغطاء الديبلوماسى والسياسى المزعوم انتزاعه عن غزة بعد الأحداث ،فهو ليس إلا وهما حيث غزة لم يحررها ويطرد الاحتلال منها إلا سواعد المقاومة وهى ذاتها التي تمنع بعون من الله عز وجل احتمالات اجتياحها .هذا الغطاء السياسى الموهوم لم يمنع إسرائيل من اغتيال القادة ليس في غزة وحدها بل في الضفة الغربية ذاتها ،حيث غطاء عباس المزعوم لم يستطيع حماية كوادر فتح في الضفة ،كما لم يستطع تحرير أسير فلسطينى واحد بل حتى من الجيش الصهيونى من أسر الأطفال الفلسطينيين والنساء.ومن ثم فان التهويل من فكرة نزع الغطاء السياسى ليست إلا محاولة من محاولات التخويف وإشاعة الهزيمة النفسية .وهنا ومثله فان القول بان غزة باتت محاصرة هو الاخر أمر وهمى لا صحة له ،ليس لان غزة ليست محاصرة وإنما لأن غزة كانت من الأصل محاصرة (وفى ظل حصارها تحررت ) ولم يزد عليها من الناحية الاستراتيجية كثيرا ،بعد الأحداث الأخيرة.<BR>أن ذلك كله لا يعنى أن الأحداث كانت في مجملها ايجابية وان لا شيء تغير بعد الأحداث،إذ ما جرى يحمل قدرا من كل ما سبق الإشارة إليه "نفيا" سواء تشديد الحصار أو توفير الفرصة للحديث عن ضرورة خنق غزة ..الخ –ولكن يعنى بالدرجة الأولى أن الفكرة الجوهرية في التقييم الإجمالي تتطلب رد الأمور إلى أصولها ،بما يظهر ان النتائج السلبية التي وقعت هى نتائج نسبية ،كما فانه يجب الوضع في الاعتبار ما إذا كانت ثمة ايجابيات حدثت بالفعل ..الخ.<BR><font color="#0000FF">ايجابيات الاحداث</font><BR>بطبيعة الحال لا يحب أحد أن يجرى الاحتكام للسلاح في أية خلافات داخل أى وطن عربى أو إسلامى.غير أن التدقيق في الاحداث يجد أن حماس لم تكن بين خيار التعامل بالسلم واختارت العنف حيث واقع ما جرى هو أنها كانت مخيرة فقط بين تقديم أو تأخير الفعل العسكرى بحكم أن دحلان كان يعد العدة لتنفيذ مخطط الجنرال الأمريكى دايتون للانقلاب على حماس وقتل قادتها وتجريد الشعب الفلسطينى في القطاع من كل سبل المقاومة .وبالتدقيق فيما جرى فإن نتائج إيجابية حدثت بالفعل من جراء تلك الأحداث. والمرجعية التي نحتكم إليها في التقييم ،هى مدى تأثير ما جرى على المقاومة ،هل يدفعها إلى الأمام أم يعيدها إلى الخلف ؟ وهل ما جرى يقرب من حالة التوافق الوطنى أم هو يبعد الفلسطينيين عنه .<BR>ووفقا لتلك المرجعية ، فإن أحد أهم نتائج ما جرى في غزة هو انه خلص حركة فتح والشعب الفلسطينى من سيطرة بالسلاح من قبل عصابة دحلان الإجرامية التي كانت قد انقلبت على حركة فتح واختطفت اسمها وضربت خيامها في الأجهزة الأمنية وحولتها إلى أداة تجسس وتلصص على المقاومة لصالح الأعداء .وبهذا المعنى وبغض النظر عن النتائج اللحظية ،فإن إطاحة دحلان وعصابته،أى فتح الطريق في غزة لحوار فلسطينى –فلسطينى حقيقى ،كما هو خلص الأجهزة الأمنية من سيطرة العملاء ،وكذا هو أنهى إلى غير رجعة قصص الفلتان الأمنى والاقتتال التي صارت عملا يوميا في غزة -وهو ما يعنى وحدة أهل غزة في مواجهة الاحتلال ،بدلا من الانزلاق اليومى المرتب نحو الحرب الأهلية الطاحنة .لقد كانت غزة قاب قوسين أو أدنى من الحرب الأهلية الطاحنة بفعل نشاط دحلان وعصابته ،فجاءت الأحداث لتنقذ غزة من هذا المصير المؤلم.<BR>إن غزة اليوم في حالة توحد لم تتحقق لها من قبل في المواجهة مع الاحتلال إذا حاول اجتياحها ،وهى ستشهد على نحو متصاعد تحسنا في أوضاع علاقات مكونها السياسى الداخلى ،كما أن الحصار الذى لم يأت نتيجة الأحداث الأخيرة ذاتاها وإنما جرى تشديده لن يظل هكذا إلا كحالة مرحلية .<BR><font color="#0000FF">غزة :انطلاق التحرير</font><BR>بعيدا عن كل تلك العمليات المخططة لإثارة التخويف في نفوس أهلنا في غزة ،ومع التشديد على أهمية البناء العقائدى التي ستتصاعد وتائرها في غزة بما يحقق للشعب الفلسطينى قدرات هائلة على المواجهة ،فان الفكرة الجوهرية التي كان يجرى الصراع عليها لم تكن سوى مشاركة غزة المحررة في تحرير فلسطين. والأمر هنا واضح إلى درجة تجعلنا نجزم أن دور غزة في تحرير فلسطين كان هو النقطة الأساسية في الصراع مع حماس التي لو وافقت على الانكفاء بغزة إلى داخلها لكانت المعونات وفك الحصار قريبة المنال وعلى الفور.<BR>إن القدر الذى رصدت به الأموال لدحلان وعباس ومن معهم ،وقدر حالة الحصار السياسى و الاقتصادى ،وكذا بقدر ما يسقط شهداء بصفة يومية من أو في غزة ،كلها تكشف درجة أهمية غزة وخطورة دورها الاستراتيجى المزلزل للكيان الصهيونى.<BR>والنقطة الظاهرة في هذا الأمر و التي لا يعطيها الكثيرين حق قدرها ،هى فكرة ودور الصواريخ الفلسطينية التي تنطلق من غزة إلى الأراضى المحتلة عام 48 .هذه الصواريخ هى اخطر ما يواجه الكيان الصهيونى ،إذ المخطط الاستراتيجى الصهيونى يدرك أن المقاومة الفلسطينية إنما بدأت في تحرير جوارها في الأرض المحتلة عام 48 ،من خلال منع الصهاينة من السكن فيه (سديروت)وان المساحة التي يجرى تحريرها ببطء ستتوسع مع كل تطور لمدى ودقة الصواريخ الفلسطينية .كما المخطط الصهيونى يرى أن المعادلة الجارية الاستقرار عليها في غزة والمنطقة باتت تزلزل كيانه وتقلص مساحة الجغرافيا المسكونة فيه باضطراد بفعل الصواريخ المنطلقة من الشمال ومن الجنوب ،ويرى أن احتمالات حدوث نفس الحالة في الضفة الغربية إنما يعنى أن الجغرافيا الصهيونية باتت تحت القصف اليومى وان الحياة تصبح فيها مستحيلة .<BR>ولان الجيش الصهيونى كان فشل في التجربة لاحتلال لغزة وخرج مدحورا منها .وبحكم أنه فشل الان في غزو غزة وفى هزيمتها من الداخل ،فان الوجه المشرق الذى ينير ببطء لكن بثبات هو ان غزة هى نقطة انطلاق لتحرير فلسطين .<BR>وهذا هو ما كانت تستهدف الولايات المتحدة والكيان الصهيونى إعاقته وتعطيله وهزيمته من خلال نشاط دحلان وعصابته .وهذا هو ما يحاول المرتبطون بالإعلام الغربى والصهيونى تسويد الصورة من اجل منعه ،وهذا هو ما يتواصل بفعالية اكبر مع تطهير غزة من داخلها ومع انتهاء الفلتان الأمنى والاضطراب الاجتماعى.<BR><br>