القرن الأفريقي فيما بعد الحرب الباردة
8 رجب 1428

<font color="#ff0000"> الحلقة الثانية </font><BR><BR>كان القرن الأفريقي في فترة الحرب الباردة واحدا من أشد مناطق العالم التهابا واشتعالا، حيث حط الروس رحالهم في الصومال، في عهد زياد بري، ثم بعد سقوط العرش الإمبراطوري في 12/9/ 1974م ومجيء العسكر بقيادة الجنرال أمان عندوم، ثم منجستو هيلي ماريم، ترك السوفيتي مقديشو، ورحلوا عنها إلى أديس أبابا، ليحلوا محل الأمريكان، حلفاء الإمبراطور المعزول، هيلي سلاسي، وليدعموا النظام الماركسي، بكل ما لديهم من عتاد عسكري، وخبرة أمنية، حتى يتمكن من إخماد التمرد، في كل من أو جاديين، وإرتريا، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى هزيمة الصومال في حرب أوجاديين ( 1977 ـ 1978 ) وانهيار نظامه السياسي تماما، عقب الانقلاب الذي أطاح بزياد بري عام 1989م مدعوما من قادة إثيوبيا الماركسيين، لتتفرغ القوات الإثيوبية بعد ذلك للجبهة الإرترية التي استعصت على الهزيمة والانكسار، على الرغم من قساوة وشدة الحملات العسكرية المتلاحقة، إلى أن انهار نظام منجستو الاشتراكي عام 1991م، بانهيار المنظومة الاشتراكية كلها، عقب ظهور البيرسترويكا على يد ميخائيل جورباتشوف، وهكذا وصل تحالف فصائل الثوار المناوئين لنظام منجستو بقيادة ملس زناوي رئيس وزراء إثيوبيا الحالي، وإسياس أفورقي رئيس إرتريا، إلى كل من أديس أبابا، وأسمرا، بمباركة أمريكا ورعايتها.<BR><BR><font color="#ff0000">القرن الأفريقي وقادته الجدد</font><BR><BR>استبشرت أمريكا بقادة القرن الأفريقي الجدد، من بعد أن مكنتهم من السلطة، وكانوا من قبل ماركسيين، على تفاوت بينهم في الولاء العقدي للماركسية، يلعنون أمريكا وأخواتها، لوران كابيلا في الكونقو، موسفيني في أوغندا، ملس زناوي في إثيوبيا، إسياس أفورقي في إرتريا، وجميعهم من أصول نصرانية، وعلقت عليهم الكثير من آمالها، لا سيما فيما يتعلق بالموقف من المد الإسلامي في المنطقة، وعلى وجه الخصوص من ثورة الإنقاذ التي استلمت السلطة في السودان، بإنقلاب عسكري قاده الفريق سابقا المشير حاليا عمر حسن أحمد البشير في 30 يونيو 1989م، وتعاقد هؤلاء جميعهم في حلف عسكري لأداء المهام المنوطة بهم، ووجدوا دعما عسكريا من إدارة كلنتون التي وصفتهم بدول المواجهة في مقابل السودان، فقد حصلت كل من أرتريا، وإثيوبيا، وأوغندا على ما يقرب من عشرين مليون دولار خلال النصف الثاني من عام 1996م، لاستخدامها في زعزعة الاستقرار السياسي في السودان.<BR><BR>وأفاد جورج موسى، مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق للشؤون الأفريقية، موضحا: " أن المساعدات العسكرية المذكورة، مخصصة لمساعدة البلدان الثلاثة، المشار إليها، في تعزيز قدرتها على الدفاع عن نفسها(1) ". <BR><BR> وما زال الرئيس الإرتري إسياس أفورقي حتى هذه اللحظة القرن البارز في عداء السودان وخصومته، مهما خطى نحو تحسين علاقته بالسودان، انطلاقا من أن السودان بات مصدر تهديد لأمن بلاده، بدعمه لحركة الجهاد الإسلامي الإرتري، التي غيرت لاحقا اسمها إلى حركة الإصلاح الإسلامي، فمنذ أن أعلن أفورقي قطع العلاقات الدبلوماسية مع السودان، وآوى المعارضة السودانية بشتى ألوانها، مانحا إياها مقر السفارة السودانية، في أسمرا، جعل من إرتريا منطلقا لنشاط المعارضة السودانية، السياسية، والعسكرية، حيث أقام لها معسكرات تدريب، وخاطبها بضرورة إسقاط نظام البشير.<BR><BR>يقول ضابط في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الذي زار إثيوبيا، وإرتريا، وأوغندا، في أواخر عام 1996م طبقا لما نقله عن مجلة (الوسط عدد 251 ) كل من سعد ناجي، وعبد السلام إبراهيم، في كتابهما "الأمن القومي العربي ودول الجوار الأفريقي" : "إن أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل سوداني معارض يرابطون الآن في شمال إرتريا، وقد زارهم الرئيس الإرتري إسياس أفورقي وشجعهم... وقال لهم: أنتم تريدون سقوط نظام عمر البشير، ونحن أيضا نريد ذلك". <BR><BR>إن المقاتلين السودانيين حسب المعلومات المتداولة بين الإرتريين يرابطون في غرب إرتريا، حيث معسكرات التدريب، وليس في شمالها، وأيا كان الأمر فإن الحكومة الإرترية كما هو صريح كلام إسياس لا تخفي حماسها في إيواء المعارضة السودانية، العسكرية منها والسياسية، والتنسيق معها في الإطاحة بنظام البشير.<BR><BR>لكن سرعان ما انكسرت هذه الأحلاف، واختلطت الأوراق، وقامت على أنقاضها أحلاف من نوع جديد، فقد وقف موسيفيني على نقيض من كابيلا، وساند عليه معارضيه، بعد أن كان من قبل حليفا له في حربه ضد موبوتو، لكون كابيلا ينحدر من التوتسي، القومية نفسها التي ينحدر منها أيضا يوسفيني، كما أن حربا ضروسا اندلع أوارها بين إرتريا وإثيبوبيا في 6 مايو عام 1998م لتنهي بذلك أقوى حلف استراتيجي بين إسياس أفورقي، وملس زيناوي، المنحدرين من قومية التجرنية، في شمال إثيوبيا، ومرتفعات إرتريا، بعد أن كانا حليفين، يقاتلان معا ضد نظام منجستو هيلي ماريام، وهيمنة قومية الأمهرا، ويخططان لتوطيد دعائم حكم التجرنية في كل من إرتريا وإثيوبيا، وبسط نفوذهما بشكل أقوى في المنطقة كلها، من بعد إسقاط نظام الإنقاذ، وتمكين جون قرنق والعناصر اليسارية والشعوبية من السودان كله، وبهذا دخل القرن الأفريقي في طور آخر من التحالفات وتعقيداتها، جعلت منه بؤرة صراع عسكري حاد، وتوتر أمني شديد، فعلى الصعيد الإثيوبي أعلن مقاتلو أوجاديين عن توحدهم، وأعربوا عن استعدادهم لقبول مختلف الدعم العسكري والسياسي من مختلف الجهات في سبيل إحراز استقلال الإقليم وفصله عن إثيوبيا، وقد صب هذا في مصلحة إرتريا التي أخذت على عاتقها دعم اتجاهات كهذه، ما دامت تشغب على إثيوبيا، وتصرف مجهودها الحربي والتنموي إلى قضايا جانبية، كما أن إثيوبيا من جانبها لم تهمل هذا النوع من المكايدة، فقد رحبت بالمعارضة الإرترية في أديس أبابا، كذلك وجدت جيبوتي نفسها في معمعة هذا الصراع بحكم المجاورة، وتداخل المصالح، فقد قطعت حينها علاقتها مع إرتريا، بعد أن اتهمها الرئيس الإرتري إسياس أفورقي وقتها بالانحياز المكشوف نحو إثيوبيا، لكن بعد ذهاب (جوليد) ومجيئ (غيلة) عادت علاقة البلدين إلى وضع أفضل، ويعود هذا إلى الخلاف الذي طرأ في العلاقة الجيبوتية الإثيوبية، بسبب اختلاف وجهة نظر البلدين في الموقف من الوضع السائد في الصومال، ومشروع المصالحة الذي تقدمت به جبوتي عام 2000م إلى بعض الفصائل الصومالية التي خرجت باختيار برلمان انتقالي من 254 عضوا، اختير من بينهم عبد قاسم صلاد، رئيسا لجمهورية الصومال، من بين خمس وأربعين مرشحا لمنصب الرئاسة، وهذا لم يرض إثيوبيا وحلفاءها الصوماليين، من أمراء الحرب القبلية، حيث لعبت إثيوبيا دورا معيقا، في تنفيذ قرارات المؤتمر، مما أدى إلى شبه إخفاق مشروع جبوتي التصالحي، أيضا خشيت جبوتي من جانب آخر أن يؤدي توتر علاقتها مع إرتريا إلى تبني إرتريا للمعارضة الجيبوتية المعروفة باسم ( جبهة استعادة الوحدة والديمقراطية) بقيادة محمد كدعمي، والذي شدد زعيمها هذا عام 2000 على اتهام حكومة الرئيس (غيلة) بالنكوص عن عهودها، ومواثيقها التي أبرمتها مع جبهته، بباريس، في فبراير 2000 بشأن إعادة التوازن العرقي في المؤسسة العسكرية، وانسحاب الجيش من مناطق العفر، والسماح بالعودة للاجئين العفريين من مناطق لجوئهم في إثيوبيا وإرتريا، حيث يوجد أكثر من ثلاثة وعشرين ألف لاجئ، ثمانية عشر ألف منهم في إثيوبيا، وخمسة آلاف في إرتريا، على حد قول زعيم الجبهة . <BR><BR>ومن جانبها قامت إثيوبيا بمبادرات إصلاحية، حيث دعت في 1997 م إلى اجتماع سودري لتسوية الوضع الصومالي، ولكن على النحو الذي يخدم استراتيجيتها، ويجعل من الصومال كيانا مطواعا، إلا أنها عجزت عن كسب ثقة كل الفصائل الصومالية وبخاصة ( حسين عيديد) الذي وقف معارضا لكل ما انبثق عن اجتماع سودري، من لجان، وقرارات، معتبرا ذلك نمطا من أنماط التدخل الإثيوبي في الشؤون الصومالية، وبهذا انحصر هذا الاجتماع على ستة وعشرين فصيلا، خرجوا بتكوين مجلس أطلق عليه مجلس الإنقاذ الوطني الصومالي من أبرز رجاله (عثمان عاتو).<BR><BR>ومهما كان حظ عيديد من الصدق في تشخيص النوايا الإثيوبية من وراء تنظيم هذا اللقاء، فإن التأثير القبلي في القيادات الصومالية بات عقبة صعبة التجاوز، فلم تعد هذه المواقف الرافضة خاصة بإثيوبيا ومبادراتها، وإنما أيضا باتت مصير كل مبادرة لا يجد فيها طرف من الأطراف المتحاربة نصيبه الأوفى، حتى لو كانت من المحيط العربي والإسلامي، وهذا ما جرى مع لقاء القاهرة في 22/12/1997م الذي انعقد بعد لقاء سودري، وحضره عيديد، إلا أنه عورض من قبل قيادات أخرى من أمثال الكولونيل عبد الله يوسف، واللواء آدم عبد الله، اللذين أعلنا فور وصولهما إلى أديس أبابا معارضتهما لكل ما نجم عنه من قرارات.<BR><BR>وهكذا بقي الصومال ينزف دما، ويعيش حالة من التمزق والفوضى السياسية، وجعلت منه كل من إرتريا، وإثيوبيا ساحة لتصفية صراعاتهما، بالتحالف مع أمراء الحرب المتقاتلين، وإغراقه بكميات كبيرة، من الأسلحة، حيث تنحاز إرتريا نحو (عيديد) الإبن، في حين تنحاز إثيوبيا نحو ( عثمان علي عاتو) الذي ندد أكثر من مرة بالسياسة الإرترية في دعم المعارضة الإثيوبية الأرمية الكامنة في الصومال، تحت مظلة عيديد الإبن.<BR><BR>وكتب مدير مركز القرن الأفريقي للدراسات الإنسانية في مقديشو نقلا عن الصحف المحلية " أن وفدا عسكريا إرتريا قام بزيارة معسكرات التدريب للثوار الصوماليين والأرميين (2)." كان ذلك في إبريل من عام 1999م.<BR><BR>وقد استباحت إثيوبيا الصومال أكثر من مرة بحجة ضرب ما أسمته بأوكار الأصولية الإسلامية في إشارة منها إلى الاتحاد الإسلامي، ونظمت أكثر من لقاء طارئ لإحباط المخطط الإرتري في الصومال.<BR><BR>ولا ريب أن اتساع رقعة التنافر بين القيادات الصومالية يعد مؤشرا جليا في أن الصومال سيبقى بعيدا عن بر الأمان، ملتهبا ومتقرحا، تتساقط عليه جراثيم الصراع الإقليمي لتعمق من جراحاته إلى أجل غير مسمى، وهو بالقدر الذي يمثله بوضعه الحالي من وصمة عار على جبين بنيه يعكس من جانب آخر ضعف المنظمات الإقليمية، عربية، وأفريقية، في حل معضلات الشعوب، لافتقارها إلى آليات فرض الحلول المناسبة، وعصارة ما يمكن أن يقال بشأن الصومال أن الإستراتيجية الإثيوبية تجاه الصومال، والتي هي محل إجماع جميع الحكام الإثيوبيين نجحت أيما نجاح في تفجير الجسم الصومالي من الداخل لتجعل منه أشلاء متناثرة هنا وهناك، كل طرف منها يرفرف على حدة رفرفت الديك المذبوح.<BR>ــــــــــــــــــــــــــ<BR>1 - سعد ناجي: الأمن القومي العربي ودول الجوار نقلا عن مجلة الوسط عدد 252<BR>2 - المجتمع عدد 1351 تاريخ 25/5/1999م<BR><BR><br>