القرن الأفريقي والاستراتيجية "الإسرائيلية"
15 رمضان 1428

يعود الاهتمام "الإسرائيلي" بالقرن الأفريقي بصفته أهم موقع استراتيجي بالنسبة لهم من الناحية الأمنية إلى ولادة "الدولة الصهيونية" في المنطقة الإسلامية العربية، التي عرفت إعلاميا بالشرق الأوسط، وتعد إثيوبيا الحليف الأول لإستراتيجية "إسرائيل" في المنطقة، وبوابتها الطبيعية، إلى بقية دول القرن الأفريقي.<BR><BR>أما العلاقة "الإسرائيلية "الإثيوبية فأصل مرجعها تلك الأسطورة الخرافية التي تزعم بأن الدم اليهودي يسري في عروق منيليك، ومن حكم بعده من حكام إثيوبيا، باعتبارهم على حد زعم الأسطورة، ينحدورون من صلب نبي الله سليمان عليه السلام، ولهذا لقب الإمبراطور هيلي سلاس نفسه بأسد يهوذا.<BR><BR>ومهما كان الأمر فإن كل ما يهم "إسرائيل" ألا يكون البحر الأحمر بحرا عربيا خالصا، لذا استمرت "إسرائيل" منذ عام 1949م في تقديم مساعداتها العسكرية لجميع حكام إثيوبيا، بما فيهم الماركسي منجستو هيلي ماريام، وكان "لإسرائيل" قواعد عسكرية في الجزر الإرترية، التي استأجرتها من إثيوبيا، يوم كانت إرتريا جزءا من إثيوبيا، وقد أنشأت فيها هذه القواعد بعد زيارة ديان لإثيوبيا عام 1965م، وفي 11 سبتمبر من العام نفسه سجل حاييم برليف زيارة سرية لإثيوبيا.<BR><BR>ثم بعد قرب سقوط نظام منجستو رفعت "إسرائيل" كما يذكر مستشار الرئيس الإرتري للشؤون التجارية محمد أبو القاسم حاج حامد في كتابه نحو (وفاق وطني سوداني) " الفيتو عن الثورة الإرترية في أهم العواصم الغربية، بداية من واشنطن، ولندن، وبون، وروما، وحتى باريس، فقد كانت "إسرائيل" تكبل هذه العواصم وتحول دون تعاطيها مع الثورة الإرترية على أساس أن الاستقلال الإرتري ضمن ارتباط إرتريا بالعرب يشكل مساسا بأوضاعها الإقليمية، الاستراتيجية، والأمنية في البحر الأحمر والقرن الأفريقي(1) "<BR><BR>وبهذا يتكشف لنا أن استقلال إرتريا عن إثيوبيا جاء بعد رفع الفيتو "الإسرائيلي" عن استقلالها، في تلك الحواضر الغربية، بالطبع ضمن شرائط، وضمانات تقيد إرتريا من الميل كل الميل نحو الحق العربي، ونستطيع أن نقول: إن "إسرائيل" استطاعت أن تعيد تأسيس علاقتها من جديد، بكل من إثيوبيا وإرتريا، على ضمان مصالحها في البحر الأحمر، والقرن الأفريقي، ولم تتأثر هذا المصالح بانفصال إرتريا عن إثيوبيا، وظهورها دولة مستقلة في القرن الأفريقي.<BR>إن هذه النتيجة لا يسلم بها الإثيوبيون، ولا الإرتريون، إذ ينفي كل منهما أن تكون علاقته مع الكيان الصهيوني على حساب الحق العربي، والمصلحة العربية، وإن كان يتهم كل منهما الآخر بأنه أكثر قربا إلى "إسرائيل" من صاحبه، هذا ما قاله وزير خارجية إثيوبيا سيوم مسفن لجريدة الزمان اللندنية تاريخ 1/1/2002 في شأن العلاقة الإرترية الإسرائيلية أثناء الحرب بين البلدين، حيث قال: بأن لدى إثيوبيا " معلومات عن قدوم الإسرائيلين إلى إرتريا، وتجهيزها بالسلاح عبر وكلاء أو شركات مسجلة في دول أخرى مثل هنغاريا، وبلغاريا، ورومانيا، ولا يسعني إلا التأكيد بأن من يريد مساعدة إرتريا ضد إثيوبيا راغب في الاصطياد في الماء العكر... والخلاصة فإن إثيوبيا لا ترتبط بأي علاقة خاصة مع إسرائيل"<BR> <BR>والإرتريون من جانبهم أيضا يرمون إثيوبيا بهذه التهمة ففي مقال له بعنوان (العلاقات الإرترية العربية قراءة جديدة) يقول رئيس المركز الإرتري للدراسات الاستراتيجية الدكتور أحمد حسن دحلي: " صحيح أن إسرائيل عادت استقلال إرتريا قولا وعملا من ناحية، ولم تقف موقف الحياد في الحرب الإرترية الإثيوبية لدى اندلاعها في عام 1989 م بل أنها انحازت إلى جانب العدوان والغزو الإثيوبي ضد إرتريا بلدا وشعبا بقيامها بصيانة الطائرات الإثيوبية المقاتلة، وذلك بشهادة رئيس وزرائها الأسبق بنيامين نتنياهو".<BR><BR>من غير التقليل من أهمية هذه الاتهامات المتبادلة بين النظامين في إرتريا وإثيوبيا بشأن علاقتهما مع "إسرائيل" أود أن أقول: إن كل ما يهمنا معرفته هنا هو أن لكل منهما ارتباطا وثيقا بالاستراتيجية اليهودية، في القرن الأفريقي، ويمثلان معا أهمية أساسية لدولة الكيان الصهيوني، في معاكسة المصلحة العربية، بغض النظر عن أي الطرفين أكثر قربا بإسرائيل من الآخر، وعن أي منهما إنحازت "إسرائيل" في حربهما الحدودية، قد تكون إسرائيل أمدت هذا وذاك بالكيفية التي تناسبها، لكونهما مهمين معا بالنسبة لإستراتيجيتها في القرن الأفريقي، ولكل منهما مكانته المعتبرة والمقدرة في هذه الاستراتيجية، فكما يرى فلاسفة اليهود ومفكروهم إن لكل من إرتريا الخارجة على المجموعة العربية والإسلامية، بفضل سياسات النخبة النصرانية التجرنياوية الحاكمة، بالإضافة إلى إثيوبيا العريقة في نصرانيتها، وظهور دولة إسرائيل اليهودية، على أرض فلسطين، نصرا كبيرا في تجريد الشرق الإسلامي عن صبغته الإسلامية الصرفة، حسب قول المؤرخ الإسرائيلي البرفسور (هاجا أيرلي) في محاضرة له بعنوان "الشرق الأوسط والإسلام" ألقاها عام 1997م في جامعة أديس أبابا، بحضور جمع غفير من الكتاب، والمؤرخين والمثقفين، وغيرهم من الشخصيات الرسمية، وقال فيها: إن الشرق الأوسط لم يعد منطقة إسلامية بحتة، وأن القاهرة لم تعد عاصمة إسلامية... لقد تغير الوضع كليا، فالسيطرة الإسلامية لهذه المنطقة انتهت ببروز دولة "إسرائيل"، وإرتريا التي يسيطر عليها المسيحيون، وبوجود دولة إثيوبيا المسيحية العريقة، وببروز الكيان المسيحي في مصر كقوة مؤثرة في المنطقة، إذ يمكن للأقباط إقامة دولتهم المسيحية في دلتا النيل في أي وقت، نظرا لنمو تعدادهم وتماسكهم، وتفوقهم العلمي"(2).<BR><BR>إن هذا القول من البرفسور (هاجا أيرلي) لا يدع مجالا للشك في أن العلاقة الإسرائيلية الإرترية من ناحية، والعلاقة "الإسرائيلية" الإثيوبية من ناحية أخرى ذات خصوصية مميزة في مقابلة الإسلام، على الأقل كما يراها مفكرو اليهود وفلاسفتهم، والملاحظ في العلاقة الإثيوبية الإسرائيلية استعصاؤها على عواصف التغيير السياسي، مهما كانت طبيعة النظام السياسي المهيمن على مقاليد الحكم في إثيوبيا، وهذا ما أكده وزير الدفاع "الإسرائيلي" موشي آرنز بقوله ـ كما في جريدة الحياة 25/5/1991م ـ : بصرف النظر عن طبيعة النظام في أديس أبابا، وما يمكن أن يحل محله، ينبغي الحفاظ على المصلحة المشتركة بين إسرائيل وإثيوبيا، وذلك لكون إثيوبيا الدولة الوحيدة غير العربية المطلة على البحر الأحمر.<BR>وعلى هذا الأساس من الثوابت في العلاقة الإسرائيلية الإثيوبية ليس غريبا أن نرى (وزير خارجية "إسرائيل") سيليفان شالوم يزور إثيوبيا في 6 يناير 2004م، ورئيس وزراء إثيوبيا ملس زناوي يزور "إسرائيل" في الثاني من يونيو 2004 م تلبية لدعوة نظيره أرييل شارون.<BR>التقارير الصحفية تقول: إن زيارة شالوم استمرت لثلاثة أيام، وضمت وفدا يتكون من 30 رجلا من كبار رجالات الأعمال "الإسرائيليين" في أكبر الشركات اليهودية، بغرض التباحث في شؤون الزراعة، والاتصالات، والأمن.<BR><BR>وبطبيعة الحال أن التغلغل "الإسرائيلي" بكل جوانبه وصنوفه في عمق القارة الأفريقية، وفي القرن الأفريقي منها على وجه الخصوص، عبر البوابة الإثيوبية، يعد بشكل أساس واحدا من مرامي هذه الزيارة، إن لم يكن أوحدها، بجانب التباحث حول مياه النيل، وكيفية توظيفها في مصلحة البلدين، كل حسب استراتيجيته. <BR><BR>أما فيما يتعلق بزيارة ملس زناوي فتشير التقارير الصحفية إلى أن من بين الملفات الحساسة التي تناولتها محادثات زيناوي مع كبار مسؤولي الكيان الصهيوني موضوع يهود الفلاشا، ومسألة النزاع الحدودي مع إرتريا، ومياه النيل، وجذب المستثمرين اليهود، وهي موضوعات بالغة الأهمية، كل منها قضية مستقلة في حد ذاتها، ويمس بعضها الأمن العربي مسا مباشرا، إذا كان هنالك فعلا أمن عربي يؤرق العرب.<BR><BR>وعلى كل حسبنا هنا أن ندرك أن الوجود اليهودي في القرن الأفريقي، ما زال قويا ومستمرا، وأنه بشكل وآخر يعمل في توظيف صراعات القرن الأفريقي العرقية، ونزاعاته الحدودية، لصالح السياسات "الإسرائيلية"، وذلك باللعب على كل المتناقضات، واستغلال كل الثغرات المتاحة، حتى يبقى قادة الأقلية الحاكمة في المنطقة مرتبطين بالكيان الصهيوني، وسياساته، حفاظا على وجودهم في مقاعد الحكم لأطول أمد ممكن.<BR><BR>وإذا كانت مسألة النزاع الحدودي بين إرتريا وإثيوبيا واحدة من القضايا التي بحثتها زيارة ملس زناوي مع المسؤولين "الإسرائيليين"، كما تشير تلك التقارير الصحفية، فإنما ذلك من أجل السعي إلى كسب "إسرائيل" إلى الجانب الإثيوبي، ضمن الإستراتيجية الإثيوبية التي تتبعها حكومة ملس زناوي، في عزل نظام أفورقي، وإسقاطه، ومن ثم تشكيل إرتريا تشكيلا جديدا، ولعل هذا ما جعل أفورقي يسارع إلى فتح سفارته في تل أبيب، لإعاقة خطوات هذه الاستراتيجية، في الساحة الصهيونية، إن استطاع إلى ذلك سبيلا.<BR><BR> ولا أعتقد أن "إسرائيل" تطمئن لسقوط أفورقي، وتجاري الإثيوبيين على ذلك، ما لم تجد ضمانات من الجانب الإثيوبي، على أن لايكون وريثه الاتجاه العروبي، أو الإسلامي، ومن هنا إذا ما وافقت الإدارة "الإسرائيلية" على الخطة الإثيوبية، في الإطاحة بأفورقي، فإن ذلك يعني وجود ضمانات، وتطمينات إثيوبية، في أن النظام الذي يحل محله لا يكون أبدا ذو نزعة عربية، أو إسلامية، وإنما نظاما يأخذ مصالح "إسرائيل" في القرن الإفريقي، والبحر الأحمر مأخذ الجد، وتكون سياسته في ذلك جزءا من السياسة الإثيوبية، ومن المؤكد أن هذا التطمين الإثيوبي، إنما هو رد على الوشايات الإرترية لدى اليهود، بأن إثيوبيا متحالفة مع اتجاهات عربية وإسلامية، في إسقاط نظام أفورقي، وذلك محاولة من نظام إسياس في تحييد الدولة العبرية، إن لم يمكنه كسبها نحوه، وعليه من المرجح أن تكون الحكومة الإرترية البديلة لنظام أفورقي، لا تختلف أبدا عن نظامه في التوافق والانسجام مع الاستراتيجية "الإسرائيلية" في المنطقة، بل وأسوء من ذلك لن تخرج عن خيارات السياسات الإثيوبية، ولن تكون لها استقلاليتها الكاملة، والحق يقال إن أفورقي بكل أوزاره وآثامه الديكتاتورية، والشيفونية معا، تأخذه العزة من أن يكون تابعا في سياساته للقيادة الإثيوبية، إن لم يكن هو الموجه والراسم لهذه السياسة، وهذا هو لب الصراع الناشب بينه وبين حليفه السابق ملس زناوي.<BR><BR>ولا ريب أن إتيان إثيوبيا بحكومة بديلة على النحو الذي أشرت إليه لا يقل خطورة في نسف الاستقرار الأمني في المنطقة عن نزاعات ملس، وأفورقي، لأنه سيتم بالتأكيد على حساب المجموعات العربية، والإسلامية، وتهميشها، وهي قوى أساسية، لا تقبل المساومة في استقلالية القرار الإرتري، وحقه في اتخاذ سياسات إقليمية مستقلة، تخدم مصالح البلاد بالدرجة الأولى والأساسية، كما لا يمكن أيضا تهميشها وتجاهلها، وإن كان للأسف كل هذا يتقرر في غياب تأثير عربي، على الصعيد الدولي، والإقليمي، نتيجة لحالة الوهن الراهنة التي تعيشها الأمة كاملة، والمتابع لقوى المعارضة الإرترية وتحالفاتها، يلمس وجود قابلية لدى بعض فصائلها للعمل ضمن الاستراتيجية الإثيوبية، تلهفا نحو السلطة، وتعلقا بها، مهما كانت المآلات والنتائج. <BR>ـــــــــــــــــــــــــــــــــ<BR>1ـ ص 76<BR>2- كامل الشريف: تاريخ ما أهمله التاريخ رسالة التقريب العدد36 نقلا عن موقع www.tagrib.org<BR><br>