
ليس جديدا في الجزائر مع الأسف، أن يقتل الناس هكذا بلا أي وازع فالجزائريون عاشوا واحدة من أسوأ الحروب الأهلية سوءاً ودموية في العصر الحديث بلا خلاف، إذ حينما يبلغ عدد ضحايا المواجهة نحو ربع مليون إنسان فإن الأمر لا يمكن الاستمرار بتبريره تحت خانة سوء التفاهم أو الاختلاف السياسي مهما كانت درجته !!<BR>لن أتحدث في هذه الأسطر عن الجريمة التي وقعت بالقرب مني وعلى بعد عشرات أمتار قليلة فقط و لم أكن من ضحاياها إلا لأنني و بسبب أن أجلي لما يحن، فضلت الابتعاد بعض الشيء عن الموقع الذي حدثت فيه بالضبط و بالتالي، فإنني سوف أحاول تقديم قراءة أولية في هذه الحادثة التي لا تبدو بأي شكل من الأشكال مسبوقة في رمزيتها و دلالاتها.<BR>و حتى تكون الأمور واضحة فإنه من الضروري هنا القول أن مدينة باتنة (430 كلم إلى الجنوب الشرقي من العاصمة) التي شهدت هذه المأساة الجديدة، كانت آخر محطة في زيارة عمل روتينية بدأها الرئيس بوتفليقة قبل يومين من ذلك و زار خلالها أربع ولايات (محافظات) قبلها، و لكن هذه المدينة مثلما يعتقد الخبير الأمني الجزائري، رشيد التلمساني: "لا بد من التأكيد على أن عامل المكان مؤشر أساسي لا يمكن تجاهله أو التقليل من أهميته، لأن منطقة باتنة ليست منطقة مجهولة وإنما هي رمز ثوري وذات بعد سياسي قوي جدا، لأنها مع منطقة الشرق الجزائري بصفة عامة كانت تسيطر و لمدة طويلة على الحكم في الجزائر، وهنا تتجه الأمور في منحى يؤكد أن من تقلدوا المناصب من هذه المنطقة، سواء تركوا الحكم أو لا يزالون فيه، لهم أهداف معينة ترمي إلى زعزعة الاستقرار الذي بدأت تعرفه الجزائر" فهي على سبيل المثال، مسقط رأس ومكان إقامة الرئيس السابق زروال وهذا يعني أن الذين اختاروا هذه المكان والتوقيت تحديدا، أرادوا توجيه رسالة ملخصها أن المعسكر المعادي لبوتفليقة قد قرر الذهاب بالأمور إلى حدودها القصوى من غير أن يعني هذا بالضرورة أن يكون زروال شخصيا معني بالقضية حتى وإن كان هذا الأخير لا يخفي معارضته للرئيس بوتفليقة بدليل أنه يرفض ولمرات عديدة، حضور مراسيم يدعى إليها برفقة كل الرؤساء السابقين الأحياء فضلا على أن طريقة انتهاء ولاية زروال نفسها لم تكن عادية، فهو استقال وأصر على ترك منصبه ولم يشأ مواصلة مهامه لأسباب عديدة أهمها خلافه مع قيادة الجيش على السياسة المتبعة بغض النظر عن جملة أسباب أخرى ليست محل تداول إعلامي في الوقت الحالي !! <BR>ما يعزز وجهة النظر هذه يمكننا ملاحظته فيما كتبه أحد الصحفيين المقيمين بفرنسا و يتعلق الأمر هنا بالمدعو محمد بن شيكو، الذي كان رئيسا لتحرير جريدة لوماتان قبل أن يسجن بسبب نشره لكتاب تناول فيه بالتجريح الرئيس بوتفليقة قبل الاستحقاق الأخير في ربيع 2004. هذا الكاتب هو من الصنف الذي يملك مصادر معلومات غاية في النفوذ والاطلاع على واقع صراع 'المستويات العليا' من السلطة فلقد اعتاد أن ينشر في جريدته دائما أخبارا خاصة يستقيها عبر 'معارفه' الذين كانوا يؤمنون له امتيازات مميزة حتى أنه كان مثلا لا يقوم بتسديد حقوق طبع الجريدة وحينما تطالبه المطابع بذلك، يجيبهم من خلال اتصال هاتفي من 'أهل القمة' مشفوعا بأمر مواصلة الطباعة وعدم السؤال !!<BR>يقول بن شيكو: "لا بد من الوقوف في وجه بوتفليقة لأنه قرر من أجل أن يبقى في الحكم طيلة حياته، عودة إسلاميي جبهة الإنقاذ ومنحهم الاعتماد للتحرك السياسي مجددا وها هو يعمل لأجل ضمان بقائه على رأس الدولة، مستغلا في ذلك دماء قتلى انفجار باتنة" و الرجل هنا لا يتحدث بمنطق الانطباع فهو حتى مع تواجده في فرنسا في الوقت الحالي، ما يزال ناطقا باسم عصب الاستئصال و غلاة الحل الأمني و هؤلاء وفق هذا المعنى، يسربون نحوه رسائلهم و قراراتهم خصوصا بعد أن كثر مؤخرا الحديث عن احتمال منح مدني مزراق اعتماد حزب سياسي جديد فضلا على أنه لا أحد في الجزائر الرسمية حتى الساعة، في وسعه أن ينتقد سياسة المصالحة بشكل علني بعد أن نال الرئيس التفويض الشعبي من خلال الاستفتاء، إلا أن هذا لا يعني البتة أن جهات كثيرة لا تتحرك لأجل إلغاء المشروع على نواقصه، برمته و لقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد خصوصا و أن 'قاعدة المغرب الإسلامي' تعينهم –من حيث تدري أو لا تدري- في ذلك و هي التي تجدد في كل مناسبة رفضها القاطع للدخول في أية تسوية.<BR>هي إذن عملية مقصودة ورأس الرئيس بوتفليقة كان على المحك فلم يمنع تحقق ذلك إلا لطف الله طبعا ثم حالة الذعر، كما تقول الجهات الأمنية، التي أصابت الانتحاري الذي كان يزمع تنفيذها مما جعله يفقد "جأشه" ويتحرك قبل موعد وصول الموكب الرئاسي بلحظات. إلا أن ما يحير في هذه الحادثة الجديدة يتلخص في أنها جاءت بشكل غير معروف في إستراتيجية التنظيمات القاعدية فهذه الأخيرة لم تعتد قبل اليوم استهداف الشخصيات السياسية و هي أساسا تستهدف المصالح الأميركية فابن لادن معروف عنه أنه ينادي بضرب الأميركيين مباشرة دونما انشغال بمن يسميهم: "أذناب أميركا في المنطقة" و لأجل هذا الهدف تحديدا، انضوت الجماعة السلفية تحت راية القاعدة فضلا على أنها أصلا تأسست بعد أن انشقت عما كان يعرف بالجيا، لأن هذه الأخيرة ولجت في تقتيل المدنيين، فلماذا تلجأ القاعدة إلى قتل المدنيين إذن و ما هي الأهداف السياسية التي ترجتها من ذلك؟ أولا يعرف الإسلاميون تماما أن قتل الرئيس لا يعني سقوط الدولة و لهم في اغتيال محمد أنور السادات عام 1981 دليل فضلا على أن اغتيال محمد بوضياف في الجزائر عام 1992، لم يؤد إلا إلى مزيد من تجبر المعسكر المعادي لهم دونما أن يعني هذا تحميل الإسلاميين في الحالة الثانية هذه، عملية الاغتيال في حد ذاتها !<BR>إن مما يثير الشك حقا في هذه الحالة، عدم صدور أي بيان على عكس ما دأبت عليه الجماعة السلفية للدعوة والقتال سابقا، القاعدة في المغرب الإسلامي حاليا، فعلى الرغم من مرور أكثر من 36 ساعة كاملة(*) على وقوعها لحد كتابة هذه الأسطر و هي مدة كافية جدا للقول أنها وضعية غير مسبوقة أيضا من قبل جماعة اعتادت أن تتبنى مباشرة بعد أي عمل من هذا النوع فما الذي يمنع الاتصال هاتفيا بمكتب قناة الجزيرة في الرباط كما جرى في التفجير الأول بتاريخ 11 أبريل؟ صحيح أن بصمات الجماعة السلفية واضحة لأن قبول أي إنسان تنفيذ عملية هو متأكد من أنه سوف يلقى حتفه فيها، غير ممكن بمعنى أن المنتحر مقتنع فعلا بصوابية فعلته فمن المستحيل أن يقبل شخص سوي تفجير جسده أشلاء لأجل حسابات سياسية مادية بحتة، إلا أنه لا شيء ينفي أيضا أن الأمر جرى ترتيبه و التخطيط له من قبل دوائر عليا و لوبيات نافذة أما التنفيذ فلقد ترك 'لعناية' المسلحين الإسلاميين فما أسهل استغلال هؤلاء وهم المخترقون بشكل جلي و باعترافات رسمية أيضا و لاحظوا هنا أن الرئيس بوتفليقة قال مباشرة بعد ذلك: "إنني أخاطب المتطرفين من هؤلاء و أولئك..."<BR>و حتى تكون الأمور أكثر وضوحا أيضا فلا بد من القول هنا أن الرئيس بوتفليقة نفسه هو الذي قطع الشك باليقين حينما تحدث مباشرة على أنه مصرّ على مواصلة سياسة المصالحة ثم قوله: "فكرت طويلا قبل العودة إلى السلطة في الحل الذي يجب اعتماده لأجل إخراج الجزائر من أزمتها و لم أجد غير المصالحة سبيلا لذلك" و هذا يعني أنه شخصيا، يتهم أعداء المصالحة داخل دواليب السلطة بالوقوف وراء العملية خصوصا و أن معسكره قد عرف خسارة أحد أركانه مؤخرا و يتعلق الأمر بالجنرال إسماعيل العماري الذي توفي يوم 28 من الشهر المنصرم.<BR>ثم إن فهم مشروع المصالحة في حد ذاته يختلف بين صفوف معسكر المصالحين في الجزائر فإذا ما كان الرئيس بوتفليقة و من معه يرون في ذلك، في الوقت الحالي على الأقل، مشروعا لاحتواء الأزمة و العمل لأجل إنهائها و وقف الاقتتال كيفما اتفق منعا لتطور الأمور إلى ما هو أسوأ إذ أن هنالك تهديدات فعلية بإمكانية خروج ملف الحرب الأهلية و ما جرى خلالها إلى المؤسسات الدولية وحتى محكمة الجزاء في لاهاي، فإن غيره من المصالحين يعتقدون أن حل الأزمة يتم أساسا عبر حل مسبباتها و كشف المسئولين عنها منعا لاشتعالها مجددا لأنهم يرون في الصيغة الحالية –مشروع ميثاق السلم و المصالحة- قفزا على الحقوق و عفوا عن المسئولين مما يعني حتى في حال انتهائها، مجرد توقف لا شك أن انفجارا مستقبليا سوف يليه !<BR>في مقابل هؤلاء، يقف معسكر الاستئصال و هو يضم كل المنتفعين بالأزمة فمنهم أثرياء الحرب الذين اغتنوا بفضل حالة الفوضى الأمنية و السياسية، و هنالك أيضا بعض المسئولين العسكريين الذين يخافون المساءلة القانونية مضافا إليهم بطبيعة الحال، متسيّسون متنطعون و مستفيدون من تفشي معايير المحسوبية و التعيينات التي يراعى فيها كل شيء عدا الكفاءة و الأهلية، فهم يشغلون مناصب ليسوا جديرين بها و لا شك عندهم أن 'أيام الورد' التي يعيشونها سوف تنتهي بمجرد عودة المياه إلى مجاريها الطبيعية.<BR>ما وقع في مدينة باتنة يعني أن الرئيس مستهدف في شخصه فهو اللاعب ذو المنصب المفتاحي الذي لما يزل يتحكم في شطر كبير من رقعة الشطرنج و لا شك أن كل معارضي المصالحة أدركوا الآن أنه لا بد حفاظا على مصالحهم، من إسقاطه بأي الطرق و لا حرج حتى في اعتماد أكثرها قذارة إذ أن حرب المواقع باتت صريحة و الكل مستعد لاستنفاذ كل أوراقه.<BR>في الصيف الأخير، عرفت الجزائر صدور كتاب على شكل مذكرات خاصة لصاحبها المدعو بلعيد عبد السلام، و لقد نشره على الإنترنت بسبب أن المطابع كما قال: "رفضت طباعته" و المشكلة أن الرجل ليس شخصا عاديا فهو كان رئيسا للحكومة في بداية احتدام المواجهة و الحرب الأهلية و لقد تحدث الرجل في هذا الكتاب بإسهاب محيّر عن تورط جنرالات بارزين في السياسة والخيارات الإستراتيجية للدولة و الاقتصاد مما جعل أكثر المتابعين يعلقون على أن الأمر ليس صدفة بل إنه حلقة جديدة من مسلسل الصراع فهذا الرجل هو أحد رموز الحقبة البومدينية التي كان بوتفليقة أحد أركانها و مما يعزز فرضية دخول الكتاب تحت خانة 'تصفية الحساب و حرب المواقع'، قيام صاحبه بنشره على الإنترنت حيث يمكن تحميله مجانا كي يقرأه كل الناس على عكس مذكرات أخرى نشرها أصحابها داخل الجزائر أو حتى خارجها !<BR>إلى ذلك، فإن ما يلف هذه العملية أيضا هو وقوعها في ظرف إقليمي شديد الحساسية فحينما سئل وزير الداخلية نور الدين يزيد زرهوني عن قراءته لأبعاد الجريمة، أجاب قائلا: "إن الجزائر عادت بقوة إلى الساحة الدولية خصوصا على الصعيد الاقتصادي و هذا ما يكون قد ضايق بعض المصالح الأجنبية" و حينما نقرن هذا الكلام بما أعلن مؤخرا عن قيام شركة سوناطراك المملوكة للدولة بإلغاء عقود التنقيب عن الغاز مع شركتين نفطيتين إسبانيتين و ما تلا هذا من ردود فعل ما تزال طازجة حتى الساعة، ثم ما أعلن مؤخرا عن قرار الدولة بحل شركة 'روت أند كوندور' التي تمتلك شركة هاليبرتون الأميركية فيها نصف عدد الأسهم بالتزامن مع حديث عن تورط مسؤولين من هذه الشركة في أنشطة تجسس و اختلاسات ضخمة.. كل هذه الأمور مجتمعة تعني أن القضية ليست مجرد صراع داخلي بين مصالحين و استئصاليين، بل إن الأمر أخطر من ذلك و لقد بلغ ربما درجة الضغوط الدولية الخارجية التي تتدخل لأجل تقوية جهة على حساب أخرى إلى درجة أن الرئيس بوتفليقة نفسه أعلن صراحة على أن العملية وقعت: "لخدمة مصالح جهات وزعماء في عواصم أجنبية" و هو بهذا المعنى، لا يقصد ابن لادن و لا الظواهري لأن هؤلاء لا يشار إليهم بعبارة "الزعماء والعواصم" و هذا الكلام يعني أن هنالك فعلا تحالفا بين 'بعض الداخل' و جهات في الخارج لأجل وقف سير المصالحة فهي باتت تهدد مصالح كل المستفيدين خصوصا و أن ملاحظين عديدين يؤكدون أن السياسة الخارجية للجزائر باتت في السنوات الأخيرة، أقرب منها إلى ما يسمى إعلاميا بمحور الممانعة، أي محور دمشق-طهران منها إلى محور الاعتدال و لعل في زيارة الرئيس أحمدي نجاد الأخيرة إلى الجزائر أوائل الشهر المنصرم ثم حصوله من قبل المستوى السياسي للسلطات هنا، على كامل الدعم في مشاريع بلاده النووية 'السلمية' فضلا عن عقود تجارية كبيرة بلغة الاقتصاد، واستراتيجية بلغة الدبلوماسية و لعل في سكوت واشنطن عن التعليق عما جرى في خميس مدينة باتنة الأسود، قرينة جديدة على الأمر !<BR>إنها باختصار، عملية جرى تنسيقها بين الداخل و الخارج من قبل كل الذين يخشون من أن تتضرر مصالحهم و مواقعهم في حال استمرار سياسة الرئيس بوتفليقة الحالية و بالتالي، فلقد تحالفوا لأجل تحقيق الهدف المشترك: تواصل الاقتتال الداخلي في الجزائر واستمرار استغلال مقدراتها النفطية و الغازية كما فعلت هاليبرتون ومثيلاتها.. أما الجهة التي يمكنها تولي الشق التنفيذي، فموجودة وقابلة للتطويع و الاستغلال لأن المشرفين عليها –على المستوى المحلي على الأقل- ليسوا في مستوى فهم حقيقة صراعات القوى والموازنة بين المصالح و المفاسد فهم يجندون شبابا انقطعت به السبل و لا يتعبون في تحقيق ذلك إلا عبر استبدال معنى الانتحار لديه...<BR>و للعلم فقط، فإن الجزائر تعرف حاليا تصاعدا خطيرا في ظاهرة الانتحار و الصحف تطالعنا يوميا بأخبار من هذا النوع فما أسهل أن يتحرك بعض الناس ليقنعوا أحد هؤلاء بإمكانية أن يكون هذا الانتحار 'عملية استشهادية' بدليل أن أكثرهم من محدودي الثقافة والوعي حيث أن الذي انفجر فوق قصر الحكومة في 11/04 مثلا هو شاب لم يمض على التزامه الديني و إقلاعه عن تعاطي المخدرات، أكثر من سبعة شهور و لن نضيف حول هذا الأمر غير أنه مطلوب حاليا من العلماء و الخيرين، اتخاذ مواقف شجاعة حتى لا يظل الشباب هكذا بيادق تحركهم نزعات تجار منطق صراع الحضارات!<BR><BR>ــــــــــــــــــ<BR>حينما أنهيت هذه المقالة، بلغني أن هجوما آخر ضرب ثكنة لخفر السواحل في مدينة دلس الواقعة على بعد 65 كم إلى الشرق من العاصمة الجزائرية و الحصيلة، 28 قتيلا و عشرات الجرحى والأرقام هذه ليست نهائية لأنها طبعا، مرشحة للارتفاع !<BR>(*) نقلت قناة الجزيرة الفضائية بعد أكثر من 45 ساعة على الانفجار الأول، أن بيانا ظهر على الإنترنت تتبنى فيه "قاعدة المغرب" التفجيرين الأخيرين (الخميس في باتنة و السبت في دلس) والبيان كما علقت مصالح الأمن الجزائرية، غير مؤكد !!<BR><br>