
[email protected] <BR><BR>عجيب أن تُسمع جعجعة ولا يُرى طحين، والأعجب أن تُسمع الجعجعة في بلد ويُرى الطحين في بلد يبعد عنه آلاف الأميال، وهو الحال الذي يعاينه كل من يلحظ السياسة الأمريكية تجاه بلدين يحظيان باهتمام الدبلوماسية والسياسة الأمريكية، تعالج أزمتها مع الأولى بقدر من الجعجعة الفارغة التي لا تجاوز الحد الصوتي ولا ترقى إلى الفعل، وتجابه الأخرى بقدر عالٍ من الفاعلية والتراتبية المرحلية الناجزة. <BR>تواجه إيران صوتاً أمريكياً متردداً بين الارتفاع والتوسط، وتوضع السودان بين فكي الرحى الأمريكية والأممية العنيدة، والصورة مع هذا وذاك تتضح يوماً بعد يوم، كلما نأت حاملة طائرات أمريكية قافلة بعيداً عن الخليج العربي، وساعة يُتخذ إجراء عملي بشأن دارفور أو الجنوب السوداني أو بشكل أوضح، بشأن تقسيم السودان. <BR>لم يقل الأمريكيون أن السودان هو أحد أركان "محور الشر"، لكنه أضحى الآن في قلب هذا المثلث حيث صار أهم من أركانه الثلاثة في عُرف دولة الطغيان الأولى المعاصرة. <BR>وإذ يبدو الرئيس الإيراني أحمدي نجاد واثقاً من نفسه وقدراته ومتوعداً الولايات المتحدة الأمريكية بعبارات استفزازية، تخنس وزارة الخارجية الأمريكية فلا يسمع لها صوتاً عالياً في التهديد بتعامل "أكثر حزماً" مع طهران. <BR>عبارات الرئيس الإيراني كانت للصحفيين واضحة ومباشرة هذا الأسبوع: "أمريكا اليوم غير قادرة على تنظيم ضربة عسكرية ضد إيران، لأسباب عدة، إذ ليس هناك أرضية اقتصادية ولا سياسية ولا عسكرية".. "الأمريكيون على يقين بأن رد الشعب الإيراني على العدوان سوف يكون رداً قاسياً وسيندمون عليه".. "عملياًً، هم لا يريدون توجيه ضربة إلى إيران، وهم يروجون للتهويل ويمارسون الضغوط على البلدان الأعضاء في مجلس الأمن من أجل الخدعة والتهرب من المأزق الذي يعيشونه".."الوقت قد حان كي تصحح الحكومة الأميركية من سلوكها ".."إن الولايات المتحدة وحلفاءها أصدروا قرارين بناء على معلومات مغلوطة.".."الآن وبعد أن علمتم أن هذه المعلومات كانت خاطئة، فإنه يتوجب عليكم الآن أن تتحلوا بالشجاعة وتتقدموا باعتذار إلى الشعب الإيراني."<BR>الطرف الآخر، لم يبد من جهته متحمساً على الرد ولو كلامياً على عبارات نجاد، والمسؤولون الأمريكيون تجنبوا حتى الآن أي تصريح مباشر يهدد باستخدام القوة، وإن صدر فإنه سرعان ما يجري "غسله" من جديد، وأقصى ما قاله الرئيس الأمريكي لحد اللحظة وتحديداً هذا الأسبوع أيضاً هو أن "الضغوط الدولية على إيران يجب أن تتعزز وستتعزز"، وحتى هذه الإشارات يعمد الحزب الديمقراطي إليها فينسفها قبل أن تتحول لكرة ثلج؛ فالنائب الديمقراطي بيتر ديفازيو أكد أن أي هجوم من قبل الأمريكيين على إيران سيكون "كارثة على الولايات المتحدة وكارثة على المنطقة وكارثة لقواتنا المسلحة في العراق".. وتابعه زميله النائب الديمقراطي جيم ماكديرموت "إننا نحن من نملك، بموجب الدستور، حق إعلان الحرب وإرسال قوات للقتال، ليس الرئيس"، وحلفاؤهما في الكونجرس أعدوا 12 مشروع قانون يهدف إلى منع الإدارة الأمريكية من تبني قرار بشن عملية عسكرية ضد البرنامج النووي الإيراني.<BR>ورغم أن الصحف البريطانية تقوم في هذه الأثناء بلعب دور "الصقور" في الحديث عن الحرب واحتمالاتها وتسريب سيناريوهات مزعومة عنها، إلا أنها تعمدت في الأيام القليلة الماضية أن تضرب على وترين، الأول هو صعوبة حدوث هذه الحرب لأسباب عسكرية (تبدو بالنسبة للبعض واهية كمسألة التزود بالوقود!!) والثاني هو التعامل مع إيران على أساس جديد وهو أساس ما بعد امتلاك السلاح النووي!! <BR>والأول يمكن تلمسه من تقرير لصحيفة ديلي تليجراف البريطانية 18 نوفمبر الحالي جاء فيه: "قادة المخابرات وواضعو الخطط العسكرية حذروا من أن إيران قامت بإخفاء ونشر منشآتها النووية بصورة أفضل مما تم تقديره سابقاً.".. "الطيران الحربي الإسرائيلي يتدرب على الغارات الجوية بعيدة المدى، إلا أنه يواجه صعوبات مماثلة لما يواجهه الطيران الأميركي وهي صعوبات إعادة التزود بالوقود حيث لا يمكن للطائرات التحليق فوق أجواء بعض الدول العربية -التي تعتبر بوجهة النظر الأميركية والإسرائيلية "معادية"- للوصول إلى إيران."!! ويعزز ذلك تصريح المستشار في البنتاجون دان جور القائل: "كلما نظروا أكثر في المعلومات التي تمتلكها الاستخبارات، كلما زاد تشاؤمهم بشأن ما يمكن تحقيقه على الجبهة التنفيذية من العمل العسكري (..) الضربة العسكرية قد تؤخر فقط برنامج إيران النووي لعدة سنوات، إلا أن التفكير الحالي هو أن هذا الأمر لا يستحق المجازفة"!!<BR>أما الثاني فيوضحه التقرير عينه في عبارات تومئ إلى مرحلة ما بعد القنبلة النووية الإيرانية: "يعمل إستراتيجيو وزارة الدفاع الأميركية البنتاجون على استكمال سياسات الردع الأميركية لمواجهة إيران في حال امتلاكها أسلحة نووية مستقبلاً (..) وفي اجتماع أمني لمجلس الوزراء الإسرائيلي الأسبوع الماضي تسربت أنباء أن (رئيس الوزراء الإسرائيلي) إيهود أولمرت أبلغ مسؤولين لوضع مقترحات للتعامل مع احتمال بناء إيران أسلحة نووية."<BR><BR>وكلا الأمرين موحٍ بأن القادم ليس مواجهة بالمعنى الذي لا يجد ما يعززه في أرض الواقع، ناهيك عن أن التعاون بين طهران وواشنطن لم يزل على متانته في العراق، والاتصالات لم تنقطع، وتظل مؤشرة إلى صعوبة توازي الخطين الحربي والتعاوني بين إيران والولايات المتحدة، فالناطق باسم الحكومة العراقية علي الدباغ قال أول الأسبوع "أن العراق يشعر بالتفاؤل لحدوث تقدم بين إيران والولايات المتحدة بخصوص الملف الأمني في العراق"، وأشار إلى "استعداد الطرفين الإيراني والأميركي لاستئناف المحادثات بخصوص الملف العراقي، لكنه أكد أن الحكومة العراقية تعتقد بأهمية تهيئة الأرضية المناسبة والأجواء الملائمة للمحادثات"، والدباغ لم يتحدث في الحقيقة من فراغ، فقبل يومين من تصريحه كان الجنرال جيمس سيمونز نائب القائد العام للقوات متعددة الجنسية في العراق قد أكد أن "إيران قد التزمت بتعهداتها في تحقيق الاستقرار والأمن في العراق"!! <BR>المعوق الذي تراه الصحيفة يحدو الأمريكيين و"الإسرائيليين" إلى المسارعة في دراسة سيناريوهات الضربات الجوية هو "استمرار قيام الصين وروسيا بتقويض الجهود الأميركية لفرض مزيد من العقوبات الدولية على إيران".. غير أن العقوبات هذه وما سبقها لن ولم تبلغ حداً ـ على أقصى تقدير وعلى فرضية عدم الاعتراض عليها ـ يجعلها نافذة ومؤثرة في لجم الطموح النووي العسكري الإيراني، إذ إنه وفي غمرة الحديث عن العقوبات الدولية غير الفاعلة مع الإيرانيين لا أحد يتحدث عن المليارات التي تتدفق في خزينة الملالي نتيجة لارتفاع أسعار النفط العالمية لأسعار قياسية غير مسبوقة وانعكاسها على التنمية الإيرانية والنفوذ الديني المرافق لها في الخارج الإيراني، ولا أحد في المقابل يتحدث عن الولايات المتحدة كدولة نفطية "عمليـا"، وعن الأموال التي تنهمر على المستثمرين وأساطين النفط الأمريكي للسبب الاقتصادي ذاته.<BR>ومع ضبابية الدراسات حول تأثير زيادة النفط في الاقتصاد الأمريكي برمته سلباً أو إيجاباً؛ فإنه لا يمكن الجزم بما إذا كان ارتفاع أسعار النفط لأسعار خيالية يقوض النمو الأمريكي أم لا، في حين أنه على أسوأ تقدير يظل الأمريكيون هم أحسن حالاً كثيراً من الأوروبيين والصينيين لمشاركتهم القوية في المجال النفطي وامتلاكهم لأسهم عملاقة فيه. <BR><BR>على الجانب الآخر، ومن دون أن تخوننا الذاكرة العربية؛ فإن إبريل من العام 1991 قد شهد تحولاً دراماتيكياً في استقرار وتماسك ووحدة العراق حين فصل قرار أممي جزئياً شمال العراق عنه بحظر الطيران في المنطقة الواقعة شمال الخط 34 من العراق ثم جنوب الخط 32 منه في أغسطس من العام 1992 في خضم سلسلة من الإجراءات التفكيكية التي كشف الكونجرس (الرافض لضرب إيران للمفارقة) عنها جهاراً في جلسته من قريب التي أيد فيه معظم أعضائه تقسيم العراق..<BR>هذا التاريخ ليس إلا هادياً لما يجري عليه العمل على نار هادئة من أجل مصير مشابه للسودان، البلد العربي الذي يعاني من تدويل لقضاياه الداخلية بإرادة أمريكية وتنفيذ أممي وإفريقي بالخصوص، حيث عزل الغرب تدريجياً والانتهاء من الجنوب وتسخين الشرق. <BR>دارفور في الحقيقة لم تطور سلاحاً نووياً ولم تسع له، لكنها منطقة نفطية ومخزن يورانيوم ومحل استثمار واعد، وهي مساحة شاسعة تماثل مساحة فرنسا، وتحوز اهتماماً متنامياً يجعلها محط أنظار "الاستعمارين" القديم والجديد، وهي مؤهلات تجعل من دارفور "ركن شر" أول، وتستدعيها على مائدة "حقوق إنسان" الدولة "الكوبرا"!! <BR>ومثلما تحالف الجنوب والشمال برعاية أمريكية في العراق؛ فإن الحركة الشعبية لتحرير السودان الجنوبية استضافت في عاصمة الجنوب السوداني جوبا عشرة فصائل متمردة في دارفور أثمرت عن تحالف عشرة فصائل متمردة تحت اسم حركة تحرير السودان، ووفقا لوكالة رويتر 19 نوفمبر؛ فإن الحركة الدارفورية المتمردة اعتبرت أن "الحكومة السودانية الحالية فاقدة للشرعية الدستورية، وبموجب ذلك تدعو الحركة الشعبية في الجنوب إلى التشاور حول الوضع الجديد في السودان لاتخاذ كل التدابير اللازمة باعتبارهما أكبر قوتين عسكريتين في الجنوب والغرب"، ما أماط اللثام عن تحالف جديد بدأ في التولد من الحركتين المتمردتين في الجنوب والغرب، المرتبطين بالغرب. <BR>وهكذا، يبدو السيناريو الأمريكي للسودان سائر في اتجاهه التقليدي المعروف؛ فنائب الرئيس السوداني سيلفا كير الذي زار الولايات المتحدة مؤخراً تنضح مواقفه الأخيرة اللاتوافقية مع حكومة الرئيس السوداني عمر البشير بالنزوع نحو التمرد والانقلاب على الحكومة التي منحت المتمردين الجنوبيين أقصى ما كان ممكن أن يمنح وفقاً لاتفاقية نيفاشا بين الشمال والجنوب.. هذا التمرد الذي لاقى أذناً له في واشنطن وتشجيعاً على الاستمرار، وتحفيزاً على الاقتداء من جانب المتمردين في دارفور؛ فبات الطرفان على أهبة الاستعداد للانقلاب والتمرد المتزامن، للحد الذي جعله يتهم شمال السودان بالتسلح في وقت يعد فيه الرجل مسؤولاً في البلد الذي يشكو تسلحه!!<BR>صحيح أن الرئيس البشير الذي أعلن في وقت سابق أن نظامه يتعرض لمحاولات انقلابية مدعومة من "إسرائيل" والولايات المتحدة، أرفق تصريحاته تلك بدعوته إلى فتح معسكرات الدفاع الشعبي وباب الجهاد تحوطاً من المخاطر التي تهدد بلاده، إلا أن الرئيس السوداني في الحقيقة لم يتحرك من فراغ بعد أن باتت القوات الأجنبية داخل بلاده في دارفور والشركات الأمنية الأمريكية في الجنوب لتدريب قوات حكومة المتمردين، وتوسع نطاق الحصار الاقتصادي على السودان، حيث أكد رئيس بنك الشمال الإسلامي السوداني في مقابلة مع صحيفة القبس الكويتية 18 نوفمبر الحالي، أن "البنوك السودانية تعاني من تعليمات أميركية لا تنتهي تتعلق بضوابط وحواجز أمام عملية تنفيذ التحويلات المالية بالدولار من السودان، والبنوك العربية للأسف تنجر وراء هذه التعليمات وتطبقها بحذافيرها، حيث يرفض بعضها أي اعتماد مالي من البنوك السودانية".<BR>جسر جوي إذن من القوات الإفريقية المدعومة أمريكياً واستضافة مغرضة من خلف ظهر الرئيس لنائبه الجنوبي، وافتعال أزمة "استعمارية" جديدة بين الشمال والجنوب حول الأحقية في منطقة إيبي النفطية الغنية بالنفط، وتشديد الحصار الاقتصادي وتحريض العرب عليه، وجولات مكوكية للمسؤولين الأمريكيين ذوي العلاقات الاستخبارية المعروفة (تم كشف بعضهم من قبل)، واستعدادات عسكرية وإعلان حالة الطوارئ القصوى من قبل المتمردين الجنوبيين، ورفض المتمردين في دارفور حتى مجرد استقدام قوات صينية لعلاقاتها المتميزة مع حكومة الخرطوم، وبالجملة جهد متكامل من أجل إضعاف أجهزة الدولة المركزية السودانية وتفكيك الدولة وفصل الجنوب والغرب الغنيين، ومراحل لا تختلف كثيراً عما حدث في العراق، ثم الادعاء بأن هذا كله لا يصب في التقسيم ولا يسعى إليه..<BR>من الممكن أن ننعش الذاكرة بنثر قصاصات الصحف الأمريكية والعربية التابعة على إثر حرب الكويت، وإعادة قراءتها من جديد، ومنها من كان يلح بقوة على أن النية الأمريكية ليست سوى "التحرير" ولا غير، وأن كل ما يتلو ذلك هو لمنع "صدام من استهداف جيرانه".. والحاصل أن صدام ـ ربما ـ قد صار تراباً في قبره، فيما قرار تقسيم العراق ما دام يتداول أمره في ردهات الكونجرس. <BR>إن المعادلة الدولية لا تسمح بأن يجري الحديث عن الأحواز العربية في إيران ولا البلوش ولا حقوق الأقليات الدينية أو العرقية هناك، ولا مسألة توزيع الثروة بينهم، أو التمثيل النسبي لهم في أجهزة الحكم الإيرانية.. كل ذلك غير مقبول ولا على سبيل التلويح بالضغوط من أجل وقف البرنامج النووي الإيراني الطموح، من قبل من يزعمون أنهم يخشونه، ويعتبرونه خطراً عليهم!! <BR>إنما المعادلة يمكنها فقط تفكيك دولة لم توضع يوماً في محور الشر بصورة مباشرة لكنها قد صارت في قلب الإستراتيجية العدائية الأمريكية التي تجعجع في إيران ويرى طحينها في قلب العروبة ومركز الإسلام في إفريقيا.. السودان.<BR><br>