فلسطين.. الصورة الأخيرة للصراع تتشكل
12 جمادى الثانية 1425

مرت القضية الفلسطينية منذ خمسين عاماً بالكثير من المراحل والمنعطفات، وظهرت على الساحة العديد من التوجهات السياسية والأيديولوجية، التي كانت تصبغ الصراع برؤيتها وتصوراتها الخاصة، مما ساهم بعض الأحيان في تغييب الكثير من الثوابت أو الابتعاد عن الأهداف الرئيسة، وساهم تدخل القوى الإقليمية والدولية في كثير من الأحيان في تشتيت الجهود وتضييع المكتسبات، والدخول في أنفاق مظلمة كان المستفيد الوحيد منها هو الاحتلال الصهيوني.<BR> <BR> من الجانب العربي الرسمي كان للجامعة العربية يد في إدارة الصراع منذ بدايته لكن الكثير من العوامل جعل تلك الإدارة غير مجدية إلى أن تلاشى ذلك الدور تماماً، ثم جاء دور التحالفات الإقليمية والأنظمة الفاعلة لتدخل عناصرها في الثورة الفلسطينية وتفرض رؤيتها على الساحة والاستفادة من ذلك في قضايا جانبية لا تخص القضية الفلسطينية لا من قريب ولا من بعيد.<BR> <BR> <BR> وتميزت تلك المدة بصراعات ومناكفات داخلية وتدخلات خارجية كان هدفها التأثير في مواقف الفصائل المختلفة ودفعها نحو تأييد" حل وسطي وواقعي" للمسألة الفلسطينية، وساهم عدم وضوح الرؤية لدى الكثير من تلك الفصائل في ظهور طروحات انهزامية كانت أساس العملية السلمية التي انخرطت فيها تلك القوى فيما بعد .<BR><BR> ومن الجانب الفلسطيني كانت ساحة الصراع ميدان تجارب لكافة الأفكار والأيديولوجيات العالمية والإقليمية، وشهدت التنظيمات الفلسطينية في تلك المدة الكثير من الصراعات الدموية والانشقاقات القاتلة، وارتكبت الكثير من التنظيمات خطايا كبرى بحق القضية الفلسطينية يمكن تعدادها، منها :<BR> <BR><font color="#0000FF">الصدام مع الأنظمة: </font> <BR>وكانت تلك خطيئة كبرى لتلك المنظمات، فمهما كانت الخلافات جوهرية بين الطرفين فقد كان الصدام معها جل ما يتمنى الكيان اليهودي ويجلب الراحة والأمن له، فمن الصدام مع النظام الأردني في السبعينات إلى التدخل في لبنان إلى دعم أنظمة في صراعها مع منافسيها ومناوئيها، هذه التصرفات جعلت من المنظمات الفلسطينية طرفاً في صراع لم توجد لأجله أصلاً، وجعل منها ضيفاً غير مرحب به في الكثير من الدول العربية.<BR><BR> <font color="#0000FF"> الصدامات والانشقاقات الداخلية: </font> <BR>غير خاف على أحد مدى الضرر الذي ألحقته الصدامات بين المنظمات الفلسطينية من خسائر، فقد ذهب نتيجتها الكثير من الرجال الذين كان لهم دور مهم في الثورة، وأنفقت على عمليات الاغتيال الحزبية الكثير من الأموال، وتحولت البندقية المقاومة والمفترض أن توجه للعدو المتربص إلى سلاح غادر يفتك بالقريب، ويشكل وصمة عار وعلامة استفهام لا يمكن تفهمها من أي جانب . <BR><BR> <font color="#0000FF"> الارتهان للقوى العالمية والإقليمية: </font><BR>من المعروف أن الكيانيين العالميين في تلك المدة كانا يجاهدان لبسط أيديهما في كل بقعة من الأرض مستعينين بالقضايا الساخنة، ومن أهمها: قضية فلسطين، كذلك لم تكن العلاقات بين الأنظمة العربية على ما يرام، فتداخلت تلك القوى والأنظمة في دعم وإيجاد ممثلين لها على الساحة التي شهدت الكثير من الممارسات العبثية المضحكة المبكية في آن واحد .(يمكن الرجوع إلى شهادة شفيق الحوت (ممثل منظمة التحرير) في برنامج شاهد على العصر في قناة الجزيرة)<BR> <BR> <font color="#0000FF"> تبني أساليب غير مناسبة في الدفاع عن القضية: </font><BR>من ذلك: خطف الطائرات المدنية وتفجيرها، واختطاف مدنيين من أوروبا وغيرها والتهديد بهم، ثم إن عمليات الاغتيالات التي كانت تجري فوق الأراضي الأوروبية ألبت الكثير من الغربيين المؤيدين للفلسطينيين ضدهم، وزادت من نقمة المناوئين لهم.<BR><BR> <font color="#0000FF"> تبنى الأفكار الإلحادية الشيوعية: </font><BR><BR>من المعروف أن قادة الكيان الصهيوني اعتمدوا قبل إنشاء كيانهم على أن مدة العداء بين كيانهم والدول المحيطة لا بد أن تزول يوماً ما لتحل مكانها أفكار التعاون والتكامل فيفوزوا بسرقة الأرض والأمن من العقاب، وكان لقاء اليساريين العرب واليسار اليهودي تحت غطاء اليسار الدولي على أفكار السلام والاعتراف بالآخر والتعاون ضد الإمبريالية العالمية والرجعية الدولية من أول أشكال التطبيع وأجرئها، والعائد إلى تاريخ تلك المدة وأدبيات اليساريين العرب خلالها يجد صدى لأفكار تموج بالتهاون والاستعداد بتسليم الأرض دون ثمن مقابل السلام والعيش بأمان . <BR><BR> <font color="#0000FF"> هدر الطاقات المادية في مصارف لا دخل لها بالقضية: </font><BR><BR>إن الاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للفلسطينيين جعل من تلك المنظمة المجال الوحيد لتلقي جميع أنواع الدعم العربي الرسمي والشعبي للقضية الفلسطينية، حيث عاشت تلك المنظمة مدة ذهبية انتعشت فيها ميزانيتها بشكل كبير، ومن المؤسف أن تلك الأموال تحولت إلى ممتلكات شخصية ورواتب يعيش عليها آلاف العاطلين عن العمل بحجة التفرغ للعمل المسلح ، ورواتب لممثلي المنظمة وتحركاتهم وأسفارهم، وهؤلاء انغمس كثير منهم في حياة البذخ والترف، وكذلك خصص جزء منها كما هو معروف لدعم حركات وتنظيمات في المنطقة وفي خارجها أحياناً .<BR> <BR><BR> الصورة التي حاولنا التركيز فيها على المنظمات الوطنية والقومية واليسارية لا تعني بأي حال خلو الساحة من التنظيمات الإسلامية التي كانت لها مساهماتها المشرفة في الصراع، لكن تمتع الفريق الأول بالدعم الرسمي وتمكينه من وسائل الإعلام، وفتح المجال له للعمل بحرية، ومحاصرة القوى الإسلامية كل هذه العوامل جعلت من الفريق الثاني القوة المهيمنة على الساحة وصاحب الصوت المسموع في الساحة الدولية. <BR><BR> لكن دخول القوى الإسلامية إلى مجال الصراع بقوة وثبات خلال الخمسة عشر عاماً الماضية بدأ يفرض على الأرض معطيات ووقائع جديدة حاول البعض عبثاً تجاهلها أو التقليل من شأنها، وجاءت الأحداث المتوالية لتؤكد دور اللاعب الجديد، واستحالة تجاوزه سيما وقد أثبت قدرته على المحاورة والمرونة السياسية بعد إثبات وجوده في ساحة الميدان ضد الاحتلال اليهودي وإنزاله ضربات مؤلمة به جعلته في كثير من الأحيان يستغيث بكل القوى التي يمكن أن تضغط على اللاعب الجديد لكف يده عن الأمن الصهيوني الداخلي.<BR><BR> <font color="#0000FF"> دور حماس في المعادلة: </font> <BR> وتجلى دور وحجم القوى الإسلامية- بالتحديد حركة حماس - أخيراً في المفاوضات التي جرت في القاهرة بهدف توحيد الرؤية لدى المنظمات الفلسطينية الفاعلة في الساحة، ثم بشكل أكبر في المساعي الدولية التي سعت لفرض خارطة الطريق و تنفيذ هدنة من قبل الفصائل الفلسطينية، حيث بدا بشكل واضح أن الضغوط كلها توجهت إلى تلك الحركة، بحيث كان مصير الهدنة بيدها، وبدا أن موافقتها على تطبيقها شرط ضروري لنجاحها مما حدا ببعض القادة الصهاينة للتصريح أن الحركة تدير اللعبة حسب رؤيتها، وأن مسألة الهدنة ستكون في النهاية لصالحها بعد فشل المحاولات بخلق الاقتتال الداخلي. <BR><BR><BR> دور حركة حماس الذي بدا بشكل جلي في المدة الأخيرة لم يكن وليد فراغ أو صدفة أو عوامل خارجية، فقد سعت الحركة عبر السنوات الماضية على خلق جمهورها العريض من خلال سياسة ثابتة متوازنة تقوم على عدة عناصر، منها :<BR><BR> عدم الاصطدام بمبادئ الشعب وثوابته الدينية، فالشعب الفلسطيني ذو الأغلبية المسلمة لم يعد يؤيد الحركات الإلحادية التي أقنعته يوماً أنها تهدف لتحرير الأرض ثم لم يجن منها غير التيه والضياع.<BR> <BR> الثبات على سياسة التحرير وعدم الحياد عنها إلى أهداف لا تصل إلى مستوى طموح وآمال الشعب الفلسطيني الذي صدمته تنازلات الحركات الوطنية عن الأهداف الرئيسة بعد التضحيات الكبيرة من الأنفس والأموال التي جاد بها هذا الشعب دون من ٍأو حساب.<BR><BR> الانفتاح على كافة التيارات والاتجاهات وإيجاد قنوات للاتصال بكل المعنيين بالقضية بشكل جاد، سواء من الإسلاميين أو العلمانيين أو أبناء الوطن من الطوائف غير المسلمة .<BR><BR> الاستفادة من الأخطاء والخبرات السابقة، وعدم الوقوع في نفس خطأ الحركات الوطنية والقومية من الصدام مع أي نظام عربي، ورغم إخراج الحركة من بعض البلاد العربية -الأردن مثلا- فقد آثرت عدم افتعال أي مشاكل والخروج بسلام، وذلك أفاد في جعل قادة حماس في الخارج ضيوفاً غير محرجين للدول المضيفة، مما دفع بالإدارة الأميركية إلى حزمة أخرى من الضغوطات على الدول العربية وعلى أوروبا بهدف حظر الحركة نهائياً والقيام بمحاصرتها،الأمر الذي لم يكن الجميع مستعدين له .<BR> <BR> عدم نقل الصراع بأي شكل من الأشكال خارج الدائرة المطلوبة، فالحركة كانت تؤكد دائماً، سواء في تصريحات قادتها أو ممارستها عملياً أن الهدف الوحيد المشروع لمقاتليها هو العدو الصهيوني المحتل، أما الكفاح غير الهادف فلا مكان له في أجندتها السياسية أو الجهادية.<BR> <BR> العمليات النوعية التي قامت بها الحركة رداً على العنجهية الصهيونية، والتي جعلت من الموقف الصهيوني في غاية الحرج والضيق، حيث صار هذا العدو يدرك أن عدوه الأول على المدى الطويل هو أبناء الحركة وقادتها، وهذا ما يفسر إصراره على تفكيكها وعدم قبوله بمجرد الهدنة معها . <BR><BR> الإصرار على وحدة الصف الفلسطيني، فبرغم وجود الكثير من الأيدي العابثة المجترئة على الدم الفلسطيني رفضت الحركة الانجرار إلى مستنقع الاقتتال الداخلي، وتحمل الكثير من عناصرها الأذى، ومات منهم من مات في سجون السلطة، ومع ذلك فقد سكتت الحركة على الضيم ولم ترد مع قدرتها على ذلك لعلمها أن الحركات العابثة لن تستنكف عن إراقة الكثير من الدماء الفلسطينية بهدف إثبات وجودها وتثبيت زعامتها .<BR> <BR> المؤسسات الاجتماعية والخيرية المختلفة التي أسستها على الأرض وقامت على مدى سنوات الانتفاضة بالكثير من الخدمات للمحتاجين ما ساهم في تخفيف المعاناة عنهم،هذه المؤسسات جرى التنبيه على خطرها من قبل الصهاينة في أكثر من مناسبة، وجرت محاولات لإغلاق بعضها، لكن تلك المحاولات أدت إلى نتائج عكسية فثبتت القاعدة الشعبية للحركة وبدت السلطة كالراضخ للعدو والراضي، بل والمباشر بإغلاق باب الرزق الوحيد له في تلك الظروف الخانقة. <BR><BR><font color="#0000FF"> الصهاينة انتهاء اليسار وبدء دور الاستئصاليين </font> <BR> <BR> أما من الجانب الصهيوني فقد سارت الصورة على نحو مواز، حيث دأب الصهاينة منذ إنشاء كيانهم على اللعب بالمفردات السياسية والتهرب من الاتفاقات المتبادلة عندما لا تناسبهم، والاستهزاء بمعسكر السلام العربي من خلال لعبة اليمين المتشدد والبغيض للعرب المسالمين، واليسار المعتدل المحبب إليهم، ثم إنه في المدة الأخيرة بدأ المجتمع الصهيوني يعرب عن تطرفه وعنصريته بشكل أوضح الأمر الذي تجلى باختفاء اليسار الإسرائيلي من الساحة السياسية في الانتخابات الأخيرة ، مع أن برنامجه عملياً لم يكن يختلف عن برنامج الليكود اليميني سوى في تبنيه الخادع لمسار التسوية، لكن من الواضح أ ن مجتمع المحتلين اليوم ينتخب من يعده بقدر أكبر من دماء العرب والفلسطينيين.<BR><BR> والواقع أنه من الطبيعي أن يزداد المجتمع الصهيوني تطرفاً إزاء القضية الفلسطينية والعرب بحكم طبيعة تكوينه العنصرية وقدوم المزيد من اليهود المتدينين من الولايات المتحدة، وازدياد نفوذ المسيحيين المتصهينين في الآونة الأخيرة، وهؤلاء أكثر تطرفاً من اليهود أنفسهم في كثير من الأحيان . <BR> <BR> <BR> وهكذا بدأت صورة أخرى للصراع تتكون بين طرفين لا يؤمن أحدهما بوجود الآخر، فكلاهما يعتقد أن السبيل الوحيد للتعامل مع الآخر هو القوة، وأن المسألة ليس في أمتار تنزع أو أشجار تقطع، بل هي مسألة وجود مترابطة بشكل عكسي، بحيث يجب على الواحد منهما إنهاء الآخر ليحافظ على وجوده . <BR> <BR><font color="#0000FF"> آفاق الصراع: </font><BR> <BR> الصراع سيكون دامياً ومرهقاً للطرفين دون شك، لكنه سيكون أدمى بالنسبة للصهاينة أكثر منه للحركة، وذلك لأسباب منها :<BR><BR> المجتمع اليهودي- رغم قوته الظاهرة - يقوم في استمراره وتكاثره على خرطوم الأوكسجين الممدود من واشنطن التي و لم تبخل عليه يوماً بما يطلب، لكن المجتمع الفلسطيني، ورغم الحصار عليه استطاع تكييف نفسه مع الظروف القاهرة والتف حول المقاومة بجميع فئاته، ومدها بالرجال وتحمل الأذى الصهيوني الذي حاول الفصل بين الشعب والمقاومة عبر سياسة هدم البيوت والعقابات الجماعية، لذلك فمقاومته ذاتية الدوافع والإمكانات.<BR><BR><BR> الضربات المتبادلة بين الفريقين أكثر إيلاماً للكيان الصهيوني منها للشعب الفلسطيني، الذي يعد من أكثر الشعوب تكاثراً وإنجاباً وأشدها إصراراً، فمن الملاحظ ازدياد الجدل داخل المجتمع الصهيوني حول سياسة القهر والترويع للفلسطينيين بينما على الجانب الآخر يزداد الشعب الفلسطيني التفافاً حول المقاومة وشبابها.<BR><BR> بالرجوع إلى الماضي القريب نجد أن عض الأصابع بين الطرفين أسفرت عن خروج الطرف الصهيوني خاسراً من اللعبة، وما مؤتمرات شرم الشيخ الأولى والأخيرة، ثم مؤتمرات العقبة ومحاولات حظر الحركة ومحاربتها في كل أرض وتحت كل سماء إلا مؤشرات على مدى الضيق الذي لحق بالصهاينة منها .<BR> <BR> لن يكون في استطاعة أمريكا المحافظة على نفس المستوى من الدعم السياسي والمادي للكيان الصهيوني إلى ما لا <BR> نهاية،فأمريكا بعد تورطها في الكثير من النزاعات العالمية مقبلة وبحسب الكثير من الخبراء على الكثير من الأزمات الاقتصادية والسياسية، ومما سيدفعها إلى مدة من النقاهة تلتفت فيها ولو مؤقتاً إلى أمراضها الداخلية .<BR><BR> ازدياد الوعي في صفوف الشعوب العربية والإسلامية، وإدراكها لمدى انحياز الإدارة الأمريكية الجائر إلى الجانب الصهيوني، هذا الوعي بدأ يتجلى أخيراً في النتائج الموجعة للمقاطعة الشعبية للبضائع الأمريكية، هذه المقاطعة التي يقودها اليوم مفكرون واعون وشباب متحمسون للقضية الفلسطينية ابتعد عن الهياج العربي الفارغ أيام الستينات والسبعينات، وصار يضرب بعقل وحكمة وثبات، مما يؤكد أن له دوراً في المستقبل القادم.<BR><BR> <BR> بقي أن نقول في النهاية: "إن الحركات الجهادية تدرك تماماً آفاق الصراع بينها وبين العدو المحتل، وهي تستعد له على الدوام، لكن أكبر عدتها إيمانها بقول الله _تعالى_:" والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".<BR><BR><BR><BR><br>