الأحزاب الإسلامبة في تركيا .. نظرة في التجربة
21 جمادى الثانية 1425

ينظر إلى حزب العدالة والتنمية في تركيا بقيادة رجب طيب اردوغان، الذي ينتمي تاريخياً إلى تيار الإسلام السياسي، على أنه تجربة جديدة في تاريخ الحركات الإسلامية المعاصرة، كما أنها تشير إلى إفلاس مشروع العلمانية الكمالية في تركيا الذي انطلق منذ 81 عاماً، ويبدو اليوم عاجزاً عن إنجاز تسوية تاريخية مع الهوية الإسلامية لتركيا وغير قادر على تأطير الحياة الاجتماعية والسياسية، سيما وأن جيل حزب العدالة والتنمية انبثق من عمق البنى المجتمعية الإسلامية وصفوف الحلقات الدينية، وقد نجحوا بتوظيف التجربة الغنية للتيار الإسلامي - الذي بدأ مع نجم الدين أربكان منذ عقد السبعينات - في ميادين العمل السياسية والاجتماعية والاقتصادية ضمن خصوصية الشخصية التركية.<BR><BR><font color="#FF0000">هوية جديدة </font><BR>حسمت قضية الهوية في تركيا الحديثة على يد نخبة متغربة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، الذي راهن على استبدال هوية البلاد الإسلامية بهوية قومية – علمانية - أوربية، وجاهد في بناء أمة متجانسة من مزيج من المجموعات الأثنية مبرزاً ماضي الحثيين والسومريين في الأناضول القديم، أكثر من اهتمامه باستخراج المصادر الثقافية للخصوصية التركية من التراث العثماني، وأصبح من مظاهر هذه الهوية تهميش الدين إلى درجة كبيرة في إطار السياسة وجعله مجرد إيمان شخصي في إطار المجتمع عبر حملة شعواء طالت المظاهر الإسلامية في حياة المجتمع ومؤسساته التعليمية والدينية، وتم إلغاء الخلافة الإسلامية في مارس 1924م.<BR>وهكذا نشأت الهوية التركية، على أساس مجموعة من المفاهيم التي عرفت بالمبادئ الكمالية، كإطار فكري للدولة وأيديولوجية للحكم وجرى تثبيتها في الدستور، وظلت الكمالية الفلسفة السياسية والمرجعية التاريخية إلى الآن، حتى أنها اكتسبت وضعاً رمزياً وسمة تقديسية ضمن إطار قومي- جمهوري-علماني.<BR>ورغم أن الكمالية هدفت إلى إنشاء أمة تركية علمانية، إلا أن نظام القيم الغربي لم يتم ترسيخه وتعميمه لدى الفئات الاجتماعية قاطبة، وهو ما أحدث انفصاماً اجتماعياً- سياسياً أصبحت معه تركيا مجتمعاً مسلماً ديناً وتراثاً، ولكن بنخبة حاكمة كلها إصرار على أن تجعله منسجماً مع الغرب، وأخذت تركيا تصادف متاعب تطور سياسي لا يمكن تجنبه .<BR><BR><font color="#FF0000">الانفراج </font><BR>مع بدء التعددية الحزبية عام 1945م استطاع الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس، الذي ظهر من داخل النخبة العسكرية تشكيل ثلاث حكومات في عقد الخمسينات، وأصبحت الحكومة أكثر تسامحاً إزاء التعبير الديني فعادت تدريجياً بعض المظاهر الإسلامية للمجتمع، مثل: السماح بأداء الأذان بالعربية، وفتح معاهد لتخريج الأئمة والخطباء وبناء المساجد. إلا أن الأمر انتهى بشنق (رئيس الوزراء المنتخب) عدنان مندريس، ورئيس الجمهورية جلال بايار بعد تدخل الجيش عام 1961م. <BR>وظل النشاط الإسلامي في تركيا مرتبطاً بالجماعات الصوفية حتى نهاية ستينيات القرن العشرين، وأفرزت العملية الديمقراطية بعد استئنافها في السبعينات حزباً علمانياً معتدلاً بزعامة سليمان ديميريل وهو شخصية معتدلة قريبة من الجماعات الصوفية، حيث مضى على توسيع نطاق الممارسة الدينية، وفي عهده استأنفت الحركة الإسلامية نشاطها، وشهد عام 1970م أول ظهور علني للعمل الإسلامي السياسي بقيادة البروفيسور نجم الدين أربكان مؤسس حزب النظام الوطني ثم حزب السلامة الوطني، والذي شارك في ثلاث حكومات إحداها مع اليسار برئاسة بولنت أجاويد، ومرتين مع اليمين بزعامة سليمان ديميريل، وبذلك أصبح اعتناق المبادئ الإسلامية علانية يتخذ الصفة السياسية، وأخذ حزب السلامة الوطني يجذب أتباعاً رأوا فيه دفاعاً إسلامياً عن القيم التقليدية التي كانت تتآكل بسبب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية.<BR><BR>وقدمت هذه التحالفات هالة سياسية شرعية لنمو بنية تحتية قوية للحركة الإسلامية، تتمثل في سلسلة واسعة من المعاهد الدينية التركية العريقة التي يطلق عليها اسم "معاهد إمام ـ خطيب"، وخفف الطوق عن حالة تدين المجتمع بصورة عامة، وبذلك جعلت الديمقراطية من المجموعات الإسلامية التوجه، والهامشية حتى ذلك الحين، أقرب إلى مركز السياسة فضلاً عن وجود عناصر دينية قوية داخل الأحزاب السياسية العلمانية، بحيث أصبح الشعور الإسلامي عاملاً حاضراً بقوة في المجتمع ومؤسساته ومؤثراً حاسماً أحياناً، في اللعبة السياسية وصراع الأحزاب وتشكيل الحكومات وتقرير السياسة الخارجية.<BR>عطّل انقلاب 1980م بصورة مؤقتة الاتجاه المتزايد نحو الورع الديني، إلا أن هاجس انتشار الأيديولوجيات الاشتراكية والماركسية في المجتمع التركي دفع بأقطاب العلمانية إلى استخدام الدين حاجزاً فعالاً لمواجهة هذه الأيديولوجيات، فامتنعوا عن التدخل في أنشطة الجمعيات الدينية التطوعية، وأصبح التعليم الديني إجباريا في المدارس، وصار المد الإسلامي في الحياة التركية ملحوظاً. <BR>ولم يلبث تورغت أوزال، القريب من الحركة النقشبندية الجماعة الصوفية الأكبر والأقدم في تركيا، عندما تسلم رئاسة الوزراء عام 1983م أن تبنى سياسة إسلامية معتدلة للتخفيف من جمود المؤسسة العلمانية نحو الممارسات الدينية ومصالحة المجتمع التركي مع هويته الإسلامية، فسمح بارتداء الحجاب وبقيام مؤسسات الأوقاف، كما فتح المجال أمام مزاولة نشاط رابطة العالم الإسلامي في تركيا، وأدت الليبرالية الاقتصادية التي نفذها إلى قيام شركات ومشروعات وقوى اقتصادية إسلامية، كما رحب حزب أوزال بانضمام مجموعة كبيرة من أعضاء حزب السلامة الوطني السابقين إلى كوادره. <BR>ومنح الهجوم الناجح للنظام التركي على اليسار، والذي فقد على إثره آلاف الأشخاص أعمالهم في مكاتب الدولة والتعليم، إلى جانب تراكم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، التي استمرت في إشعال السخط الشعبي، فرصة كبيرة للجماعات الإسلامية التي ملأت الفراغ السياسي الناشئ.<BR><BR><BR><font color="#FF0000">حزب الرفاه الإسلامي </font><BR>تأسس حزب الرفاه في 19 يوليو عام 1983م كامتداد لحزب السلامة الوطني الذي ألغته المؤسسة العسكرية في أكتوبر 1981م. وقد استفادت كوادر الحزب من تجاربهم السابقة في إدارة العملية السياسية في تطوير البنيان التنظيمي لحزب الرفاه وتوسيع قاعدته المناصرة التي اشتملت على أطياف متنوعة من المجتمع التركي تتسم بحراكها الاجتماعي، سواء من رجال الأعمال والصناعيين القرويين أو الجماعات الصوفية وصغار التجار والموظفين والطلبة، حيث وجدت هذه الشرائح في مبادئ حزب الرفاه تأكيداً على قيمها التقليدية وهويتها الدينية الإسلامية، وما سهل من مهمته هو تطبيق سياسة تعليمية تسمح بتدريس مقررات الدين الإسلامي بما ساعد على انتشار الوعي والتأييد للتيار الإسلامي في الثمانينات.<BR><BR>كما ارتبط حجم السلوك الإسلامي في هذه المدة بمعدل التحديث وأثره على إحياء الثقافة المحلية، بمعنى أنه بارتفاع معدل التحديث انخفض معدل التغريب، ومرت الثقافة المحلية بمرحلة إحياء وارتفعت درجة الالتزام بها على مستويين؛ المستوى الاجتماعي حيث شجع الشعب على الثقة بثقافته الإسلامية وأصبح ميالاً لتوكيدها، وعلى المستوى الفردي حيث تولدت مشاعر الاغتراب وانفصمت عرى التقاليد والعلاقات الاجتماعية ونشأت معها أزمة هوية قدم لها الدين حلاً ناجعاً، وهو ما دحض الفكرة القائلة بضرورة فصل الدين عن الحياة العامة لأجل تحقيق التحديث في تركيا.<BR>وظل حزب الرفاه حريصاً على التمسك بالخيارات الكبرى التي تجمعه مع الإسلام السياسي في العالم العربي والإسلامي والمتمثلة بمشروع حضاري يستمد دافعيته من منظومة قيمية دينية في مواجهة النموذج الغربي وثقافته، ولكنه في ذات الوقت لم ينغلق على قيم الديمقراطية وانخرط في قواعد اللعبة السياسية.<BR><BR>وامتاز الرفاه بطرح مواقفه السياسية علانية، سواء في نقد حراك العلمانية التركية في الشأن الداخلي القائم على محاكاة الغرب و قطع تركيا عن جذورها الإسلامية، وفي الخارج رفضه لانضمام تركيا إلى النادي الأوروبي حفاظاً على المصلحة التركية خاصة الثقافية والاقتصادية، وبدلا من ذلك أصر على عودة تركيا إلى الحظيرة الإسلامية واشتراكها كدولة قوية في إنشاء تكتلات إسلامية تعنى بالمجالات الاقتصادية والثقافية والأمنية. <BR><BR>ولكن تراكم تجربة ثلث قرن من العمل السياسي لحزب الرفاه في سعيه نحو مصالحة تركيا الحديثة مع هويتها الإسلامية في إطار قومية إسلامية تأخذ في اعتبارها الخصوصية التركية، وإدراك قيادات الحزب لمتطلبات الواقع السياسي التركي ومدى صلابة المؤسسة العلمانية، وبالنظر إلى ما حققه الحزب من نجاحات في الانتخابات البلدية والبرلمانية، كل ذلك فرض عليه إضفاء طابع أكثر واقعية ومرونة على مواقفه السياسية سيما بعد تشكيل حزب الرفاه حكومة برئاسته بالائتلاف مع حزب الطريق القويم في ديسمبر 1995م، ليصبح بذلك أول إسلامي يصل لقمة السلطة السياسية في تاريخ الدولة التركية الحديثة وفي عموم المنطقة.<BR>ورغم خطابه السياسي قبل تشكيل الحكومة حول ضرورة إعادة تشكيل السياسة التركية تجاه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أن حزب الرفاه لم يدخل تغيراً جذرياً في هذه السياسة إزاء الغرب أو الشرق الأوسط، فقد انضبط ضمن الواقعية السياسية رغم الانطباع المعاكس الذي أبداه بزياراته إلى دول عربية وإسلامية، فقد أكد في بيانه الوزاري سعي حكومته للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وضرورة بقاء تركيا في حلف الأطلسي، وقبل اتفاقية الوحدة الجمركية وخفف لهجة انتقاداته لأوروبا والولايات المتحدة، وقبوله على مضض لتطور العلاقات العسكرية التركية الإسرائيلية، وقاد سياسة اقتصادية ناجحة زادت من رصيده الشعبي والسياسي. غير أن التخطيط العملي للإطاحة بالإسلاميين عن السلطة بدأ عند الجيش والأحزاب العلمانية منذ وصول الرفاه إلى الحكومة.<BR><BR>وحالت صعوبات واقعية دون قيام الحزب بتنفيذ معظم ما جاء في برنامجه الانتخابي، فقد تحرك أحياناً في المناطق المحظورة عند العلمانية الكمالية، إذ سارع إلى بعث كيان إسلامي اقتصادي دولي ومد جسور قوية مع الجوار العربي والعالم الإسلامي.<BR>وبمرور الوقت أصبحت السلوك الإسلامي يشغل بال المجموعات والشرائح العلمانية من الشعب التركي مع تصاعد حدة التأزم بين حزب الرفاه والجيش، وقيام الجيش بحملة تطهير صفوفه من الإسلاميين وإعلانه أن "الأصولية ثم حزب العمال التركي في مقدمة المخاطر على الأمن القوي التركي" فصعدت حملة معادية ضده قادت زعيم الحزب إلى الاستقالة قبل أن يتم حظر نشاطات "الرفاه" بعد عام واحد من توليه السلطة بذريعة النيل من هوية الدولة العلمانية. <BR><BR>وشُنت على التيار الإسلامي ما يشبه حرب إبادة، فانعقد مجلس الأمن القومي بتاريخ 28 فبراير 1997م، وأصدر 18 بنداً، هي جملة من الإجراءات الصارمة ضد التيار الإسلامي على كل المستويات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية، وتم وضع نجم الدين أربكان و5 قيادات من الحزب في العزل السياسي لمدة 5 سنوات، انتهت في فبراير 2003م، وهدفت هذه الإجراءات إلى القضاء على أدنى احتمال لعودة الحركة إلى التشكل السياسي والحضور في الحياة السياسية.<BR>ورغم إبعاد "الرفاه" عن السلطة في 18 يونيو 1997م، ثم حظره في 16 يناير 1998م، أطلق (رئيس الأركان العامة التركية) إسماعيل حقي قاراداي في اجتماع مجلس الأمن القومي التركي في فبراير 1998م تصريحات قوية أكد فيها أن قرارات المجلس ضد حكومة حزب الرفاه الإسلامية لم يتم اتخاذها ضد حكومة واحدة فقط، بل أن الأصوليين ما زالوا يمثلون التهديد الرئيس للدولة العلمانية.<BR><BR>تحول حزب الرفاه إلى حزب الفضيلة الذي تم حله أيضاً، ثم استقر أخيراً على اسم حزب السعادة الذي يتزعمه حالياً نجم الدين أربكان، وهو لا يمتلك تمثيلاً في البرلمان، إذ لم تتجاوز نسبة الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات البرلمانية 2.5%، وبالتالي يعد البروفيسور نجم الدين أربكان - رمز الإسلام السياسي - خير مثال على ما يحدث من سجال بين المؤسسة العلمانية الحاكمة والإسلاميين وهو ما يطرح تساؤلات حول مفهوم الديمقراطية المتبع في تركيا، وكيف ترجّح كفة الحكم دائماً لمصلحة الثوابت الأيديولوجية.<BR><BR><font color="#FF0000">حزب العدالة والتنمية </font> <BR>أسس حزب العدالة والتنمية في أغسطس عام 2001 م على إثر مراجعة داخلية تحدى فيها الجيل الشاب بزعامة عبد الله غول وأردوغان قيادة حزب الفضيلة الذي تم حله في يونيو 2001م،<BR>وينتمي قادة الحزب البارزين إلى جذور حزب الرفاه الإسلامي وبنيته الفكرية الإسلامية، غير أنهم انشقوا عن تياره، وكونوا حزبهم الجديد، وانتخب رجب طيب أردوغان لقيادة الحزب وهو خريج معاهد إمام – خطيب شأنه شأن معظم قادة الحزب، وكان لتوه قد خرج من السجن بعد إدانته بتهمة التحريض على التعصب والنيل من العلمانية، وقضى أربعة أشهر في السجن عام 1999م بسبب خطبة سياسية اعتبرتها المحكمة تحريضية لما أورد من أبيات يؤكد فيها أن المصاحف أسلحتنا، والمساجد ثكناتنا، والمآذن مدافعنا، وهي موجودة في الكتب المقررة من قبل الحكومة، كما صدر حكم بحظر نشاطه السياسي مدى الحياة غير أنه ألغي بمقتضى عفو عام صدر في ديسمبر 2001م.<BR><BR>وظفر حزب العدالة والتنمية بتشكيل الحكومة التركية منفرداً بعد حصوله على أغلبية برلمانية متمثل بـ 363 مقعداً من أصل 550 مقعداً في الانتخابات التي جرت في نوفمبر 2002م بالرغم من حجم الضغوط التي طالت قبيل الانتخابات زعيم الحزب وسعت إلى ضعضعت صفوفه. <BR>وأحال الناخبون أحزاب وزعامات عريقة دفعة واحدة خارج البرلمان، كما حقق الحزب انتصارا كبيرا في الانتخابات البلدية التي جرت في مارس 2004م، وحصل فيها على أكثر من ثلثي المدن الرئيسة، وقد عدّ ذلك بمثابة سابقة في تاريخ الحياة السياسية والحزبية التركية، ومؤشرا على موجود اتجاه شعبي عارم يرغب باستعادة الوجهة الإسلامية لتركيا و حجم التأثير الكبير للهوية الإسلامية في مراكز القوة في الساحة السياسية، إلى جانب عجز المفاهيم الكمالية عن التوغل عميقاً في نسيج المجتمع التركي، دون استثناء دور العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.<BR><BR>ووضع حزب العدالة والتنمية برنامجه الإصلاحي موضع التنفيذ آخذا بالاعتبار الثغرات التي وقع فيها سلفه حزب الرفاه وما تعرض له ومن ثم الحركة الإسلامية من مخطط إقصاء واستئصال على يد المؤسسة العسكرية، وقد سلط الضوء على الحزب وخطه الفكري ومقولات قادته ووضعت تحت مجهر التحليل والمناقشة لتفسير إذا ما كان نجاحه يعود إلى تقديمه خطاباً فكرياً وسياسياً جديداً على ضوء مراجعة شاملة لأفكار سلفه متجاوزاً الحساسيات الفكرية، أم أن بقائه يرجع لكونه تخلى عن الخطاب الإسلامي التقليدي في ظل استسلام للعلمانية أو التوافق معها ضمن (العلمانية المؤمنة)، وهل هو استمرار لمشروع مصالحة تركيا الحديثة مع تاريخها وهويتها الذي بدأ مع عدنان مندريس واستأنفه سليمان ديميريل ثم تورغت أزال، ووصل إلى أوجه مع نجم الدين أربكان. <BR><BR>وقد تكون المفردات التي رشحت من قادة الحزب منذ اليوم الأول لإعلان نتائج الانتخابات جاءت لتضع حدا للهواجس والتكهنات، فقد أعلن أردوغان أن حزبه يريد من الدولة أن تقف على مسافة واحدة من حرية العبادة لجميع المتدينين، مشدداً أن المشكلة تكمن فيمن يحرفون معنى العلمانية ويطبقونه حسب أهوائهم، وهو ما كان قد عبر عن فحواه في كلمة ألقاها عام 1994 م حينما كان عضواً في حزب الرفاه الإسلامي المحظور، وعدّ فيها النظام العلماني الصارم الذي تنتهجه أنقرة يجب أن يتغير، وأن الإسلام والعلمانية لا يمكن أن يتعايشا معاً، وأكد أن الإسلام يقدم حلولاً للكثير من مشاكل الدولة التركية إذا عادت إلى تحكيمه وفي مقدمتها القضية الكردية.<BR><BR>والحقيقة البارزة أن حزب العدالة والتنمية يسعى إلى الحد من درجة التطرف العلماني للدولة في عدائها للدين واستبدالها بعلمانية أقرب في مضمونها إلى المعنى الأوروبي، والتي يغلب عليها الحياد إزاء المسألة الدينية، وهو ما جعله يحرص على العلاقات الإيجابية مع الولايات المتحدة، ويؤيد بقوة الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوربي والاقتراب إلى المعايير الأوربية في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية والنمو الاقتصادي، والتي يبدو أنها ستكون المتنفس الذي قد يفسح المجال أمام إعطاء التوجه الإسلامي المحافظ فرصة للبقاء في السلطة وإحداث تغييرات تدريجية لإصلاح البيت الداخلي في نوافذه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبما يكشف بالضرورة سوءة المؤسسة العلمانية التركية ويضعها في موقف أكثر محافظة في تبني التغيير.<BR><BR>ويمكن القول: إن حزب العدالة والتنمية قد وضع نفسه أمام امتحان صعب، وهو أن يكون نجاح برنامجه السياسي مرتبطاً بمظلة النظام العلماني والأسس التي تريدها المؤسسة العسكرية، وبذلك ينال من الهوية السياسية للحزب ويظفر بالحكومة، أو أن يفشل في معالجة الأزمات الاقتصادية والسياسية ويتجه كغيره من الأحزاب إلى السقوط المدوي. <BR><BR>كما أن هناك قيوداً دستورية وضعت على التحركات ذات الطابع الديني أو المخالفة للعلمانية، ويستخدم النظام هذه القيود ليعاقب عند الحاجة زعماء الحركة الإسلامية وليحد من نشاطهم، تسانده النخبة العلمانية من القوى السياسية والإعلامية ورجال الأعمال إضافة إلى المؤسسة العسكرية، وقد أخذت الأخيرة على عاتقها رعاية هذه المرجعية وتعمل في سبيل ذلك على ترتيب الحياة السياسية وضبط الهيكل العام للدولة على نحو جعلها سلطة رقابة على سير العملية الديمقراطية ومدى انضباطها بالإطار العلماني للدولة وبالنهج العام في مجال الاقتصاد والعلاقات الدولية دون أن تتوانى بالخروج من ثكناتها لتعديل الأمور كما حدث في سنوات 1961 1970 1981م، لتطرد رئيس وزراء منتخب أو إعدامه ووقف العملية الديمقراطية وحل الأحزاب وسجن قادتها.<BR><BR>وبغض النظر عن طبيعة مواقف حزب العدالة والتنمية، سواء التكتيكية أو الاستراتيجية، يلاحظ أن الحزب قد غلّب خيار الاندماج في شبكة القيم العالمية التي يُنادى عليها اليوم من حقوق الإنسان وديمقراطية مفاهيم المجتمع المدني، كما تلقي مواقفه بالعديد من التساؤلات حول علاقة الحركات الإسلامية بالعلمانية، وما هي دلالات وأبعاد ذلك؟ وهل فقه الواقع وما يقتضيه من تدرج وترتيب الأولويات ورعاية الظروف مبرر كافٍ ومقبول لأطروحة التوفيق بين الإسلام والعلمانية، كمحاولة إحيائية جديدة في أوساط الحركة الإسلامية، التي لا يزال الفهم الشامل للإسلام يعد ثابتاً من ثوابتها الفكرية والمرجعية.<BR><br>