بين بيروت وبغداد: موافقات ومفارقات
1 رجب 1425

الذين عاشوا حرب لبنان وما جرى فيها من أهوال ومؤامرات ومكائد لا يصعب عليهم أن يروا في أحداث العراق شريطاً مكرراً يعاد عرضه بنفس التفاصيل ونفس التكتيكات ونفس المكائد، وأخيراً نفس المتآمرين والأهداف..<BR><BR>أحداث العراق ليست طبيعية أبداً، فهي تهدف إلى تغيير شيء ما في هذا البلد الغني بأهله وأرضه والعريق بحضارته، ودفعه إلى التناسق مع أجندة المنظومة الدولية الحديثة والرامية إلى تغيير وجه المنطقة بأسرها، إبتداءً من طي الملف الفلسطيني، وانتهاء بتغيير أدق التفاصيل في المناهج التعليمية.<BR><BR>بكلام آخر، سخونة أحداث العراق تهدف إلى دفع هذا البلد تحت ضغوط الفقر ولقمة العيش والدماء والحرمان من الأمن، إلى الإرتماء في أحضان اليهودية العالمية والدوائر الغربية والخروج من دائرة التاريخ والجغرافيا والدين، وكل ذلك بهدف خلط الأوراق وبعثرة الآراء وتضييع الحقوق وبث اليأس في نفوس الشعوب المحرومة لتترك المطالبة بحقوقها وتيأس من المناداة بحريتها.<BR><BR>العراق بلد من أعرق بلاد المنطقة، فهو بلد ضارب الجذور في عمق التاريخ، حيث حضارته واحدة من أقدم الحضارات، وهو غني بأرضه وشعبه المعروف بحبه للعلم والثقافة، وزاده النقط غنى ووفرة، وهو بلد واسع المساحة، يعني: يملك مقومات الإكتفاء، بل المقومات المطلوبة ليكون لاعباً رئيساً في المنطقة.<BR><BR>من جهة أخرى لا يخفى أن العراق بلد مستهدف يهودياً منذ قديم الزمان فلا يزال هؤلاء يذكرون أيامهم فيه وقصصهم مع الحكام القدماء للعراق، حيث تعرضوا للطرد والاستعباد، كعقوبة على مؤامراتهم التي لا تنتهي.<BR><BR>وبالعودة إلى أوجه التشابه بين أحداث لبنان والعراق، يمكن للمرء أن يقرأ أوجه الشبه التالية:<BR><BR>- الفوضى العارمة في كل المجالات، والتي تجعل من المستحيل على المرء أن يطالب بأي حق، أو أن يقاضي أي متعد، فالفوضى في لبنان استمرت مدة طويلة، تغيرت فيها أمور كثيرة، فقامت جهات أثـرت بشكل غير شرعي عن طريق أكل اموال المواطنين ومصادرة ممتلكاتهم بالقهر، وقامت جهات أخرى بالبروز السياسي عن طريق الوصولية السياسية والتبيعية والارتهان، وقل أن يسلم واحد من القادة الحاليين للبلد من الصفات السابقة.<BR><BR>على أن الفوضى التي أصابت العراق أكثر مدعاة للريب وسوء الظن، فلبنان كان غارقاً في الفوضى الأمنية والحرب الأهلية بين أبنائه وغيرهم ، واختلطت فيه الأوراق بشكل كبير، وكانت المواقع والمواقف تتبدل بين ليلة وضحاها تبعاً للمصالح الشخصية والفئوية، وتبعاً للضغوط الإقليمية، وكان من الصعب بمكان ضبط الأوضاع أمنياً وسياسياً، والسير بها نحو بر الأمان، أما العراق فهو بلد واقع تحت سلطة الإحتلال الأميركي وحلفائه، وهؤلاء مكلفون قانونياً بضبط الأوضاع الأمنية وتحسين الأحوال المعيشية، لكن هؤلاء ومنذ اللحظة الأولى لم يمدوا أيدي رعايتهم الحانية إلى أي مجال غير وزارات النفط التي جاؤوا أصلاً لأجلها.<BR>فإمكانية ضبط الفوضى في العراق أكبر، بل هي ألزم لاختلاف الوضع بين البلدين، ومع هذا فالأمورفي العراق تسير من سيئ إلى أسوأ، والفوضى تضرب أطنابها في كل مجال، دون أن يبدو أي اكتراث من الجهات المسؤولة.<BR><BR>- القتل العشوائي غير المبرر وغير المفهوم، وذلك بارز في عمليات الإغتيال لمسؤولين سابقين وحاليين دون تفريق بين مجبر ومستفيد، أو كبير وصغير، أو عميل و ومخلص، القتل يهدف إلى زراعة الخوف في نفوس المواطنين الشرفاء، ودفع الكفاءات إلى الهرب أو الاختباء، كما أن القتل المنظم للعلماء والأكاديميين يهدف إلى تهجيرها ونفيها أو وأدها ومنعها من التفكير في أي نهضة مستقبلية للبلد.<BR><BR>- التفجيرات الدامية التي لا تهدف إلى هدف وطني، ولا تتوجه نحو الإحتلال أو المتعاملين معه، بل تستهدف الأسواق الشعبية والمدارس والمؤسسات الحكومية ودور العبادة، ويبدو أنها لا تهدف إلى غير زرع الرعب في النفوس، والهرب من الحالة الدامية إلى الرضا بأي شكل من أشكال النظام السياسي والأمني، سواء أكان ذلك على أيدي وطنيين أو عملاء بل حتى محتلين.<BR><BR>- ظاهرة الخطف العشوائي التي تقوم بها تجمعات محلية وعصابات مجهولة الأهداف والدوافع، والغريب أنها لم تتوجه إلى الاحتلال وعملائه، كما يفترض بحركات التحرر الجادة، بل اتجهت إلى مجموعة من السائقين والعمال وذوي الرتب المتدنية في شركات النفط العاملة في ظلال الاحتلال.<BR><BR>بيروت كانت عرفت خلال سنوات الحرب ظاهرة الخطف العشوائي، لكنها استهدفت شخصيات كان لها أو لدولها علاقة مباشرة بالحرب وبدواعيها، وبالتالي كان أصحابها يطالبون بمطالب سياسية واضحة، كما أنها لم تشهد عمليات إعدام بشكل مفجع لأي منهم كما حدث في العراق، الأمر الذي جعل بسطاء وفقراء العالم ممن طال الخطف أو الإعدام أحداً ممن يخصونهم يتساءلون: لماذا ندفع نحن البسطاء ثمن حرب نحن عارضناها أصلاً ولا تتوجه أيدي هؤلاء وسكاكينهم إلى من يقتلونهم؟؟؟ <BR><BR>- البطش الأميركي غير المحدود بالمواطن البسيط في كلا البلدين، ونقول: "الأمريكي"؛ لأن الجيش الأميركي كان اللاعب المشترك في كلا البلدين فهي كانت موجودة في بيروت قبل بغداد بأساطيلها وجيوشها، وكانت أيام عصيبات أصلت فيها البارجة الأميركية "نيوجرسي" وأخواتها أصلت المناطق المدنية بأطنان من القنابل التي قتلت المئات دون تمييز، أمريكا اليوم تعيد نفس المشهد عبر طائراتها الغادرة التي تقصف المدنيين من الجو دون أن تملك الجرأة على التحليق المنخفض خوفاً من نيران الأسلحة الخفيفة التي أسقطت الى اليوم عشرات الطائرات العمودية.<BR> <BR>- زرع العملاء المحليين والدوليين ورجال المخابرات الدولية في انحاء البلد، فلبنان كان بلداً مفتوحاً للجميع من أخيار وأشرار، وكانت رجال المخابرات تصول فيه وتجول تحت ستار الفوضى، وهؤلاء ساهموا في زراعة الموت والرعب في البلد، أما في العراق فهؤلاء موجودون بشكل فاضح، ويحظون برعاية وحماية أطراف معروفة، ولهم شركات ومؤسسات يتخفون وراءها، ودورهم بارز من قتل للعلماء وسرقة للآثار خاصة ما يتعلق منها بالتاريخ اليهودي بالعراق القديم.<BR><BR>- إيصال عملاء أمريكا وأصدقائها الى رأس السلطة ومواقع القرار، لم يغب بعد عن الأذهان كيف تم انتخاب بشير الجميل كرئيس للبنان وما صاحب ذلك من ملابسات، حيث أطلق عليه آنذاك لقب "مرشح الدبابات الإسرائيلية"، وكيف سار هو ومن بعده أخوه الأكبر "أمين" على طريق إنهاء حالة العداء مع الكيان الصهيوني، خاصة بعد عقد الاتفاقية المعروفة باتفاقية 17 أيار التي وقعها أمين الجميل مع قوات الاحتلال الصهيونية، والتي رفضت من قبل سائر الأطراف حتى انتهت بالسقوط.<BR>وإيصال هؤلاء إلى السلطة واستمرارهم فيها أكبر مدة ممكنة يهدف إلى وضع أكبر قدر ممكن من العراقيل في وجه أي نهضة حضارية تقوم على أساس وطني بعيد عن هيمنة الإحتلال، ومن الواضح اليوم أن السلطة في العراق- مثل سابقتها في بيروت- تحاول تنفيذ أكبر عدد ممكن من الاتفاقيات والمواثيق مع الاحتلال، بينما تبقى القضايا المصيرية على رفوف الإهمال والتنصل.<BR><BR>- تشجيع الأفكار والشخصيات الانفصالية والميليشيات الموالية للاحتلال، فلبنان عرف ما يسمى بجيش لبنان الجنوبي الذي تولى مهمة الدفاع عن الاحتلال والتنكيل بالشعب والمقاومة، وتلقي الضربات عن المحتلين، وهؤلاء كانت لهم في أوقات معينة مطالب إنفصالية صارخة، ومطالبات بانفصال لبنان عن محيطه العربي والإسلامي، كما كانوا من فئات وأديان مختلفة مما يدل على ان الجامع الوحيد بينهم كان العمالة للاحتلال و المصالح الفئوية الضيقة.<BR>وهذا ليس ببعيد عن مطالبات فئات عراقية معينة بالحكم الذاتي، وفرض جهات أخرى نفسها كسلطة عليا في مناطق أخرى، واستئساد جهات ثالثة للمطالبة بحصتها في الحكم، بينما يتعرض المدنيون للموت اليومي على أيدي الاحتلال وعملائه والعابثين بالأمن الوطني الداخلي.<BR><BR>- أخيراً هناك أمر مشترك في البلدين وهو التخلي عن العملاء عند ارتكابهم أول خطأ، فشخص كالجلبي دخل العراق على ظهر الدبابات الأمريكية، وكان رجل أمريكا وخيارها الأول في العراق، تخلت عنه أمريكا ووضعته على الهامش وجمدت حركته بانتظار إنهاء دوره نهائياً، وهذا ليس بعيداً عن مصير خيار الجيش الإسرائيلي في بيروت خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982م بشير الجميل، والذي تم اغتياله بعد مدة بسيطة من انتخابه، وتتردد أقاويل حول الدور الإسرائيلي في اغتياله رداً على بعض مظاهر التذمر التي أبداها من التدخلالت والهيمنة الإسرائيلية على مقاليد الأمور.<BR><BR>ولا ننسى كذلك مظاهر المذلة والضياع التي انتابت عملاء اليهود في الجنوب اللبناني وهم يجرون وراء الفلول الإسرائيلية الهاربة، والتي لم تكتف فقط بعدم إبلاغ عملائها بهروبها الذليل، بل لم تسمح لهم بالدخول إلى الأراضي المحتلة، وتخلت عنهم بعد طول عمل دنيء في خدمة الاحتلال وحماية أهدافه.<BR><BR> <BR>وبما أن المقدمات المتشابهة تؤدي إلى نتائج متشابهة فيمكن للمرء أن يتوقع ملامح المرحلة القادمة في العراق بناء على ما أدت إليه الأوضاع في لبنان، وغيره من البلاد التي مرت بتجارب مشابهة، ومن خلال مساعي إدارة الاحتلال نحو تغيير الأمور لصالح التوجهات الغربية والأمريكية خاصة منها.<BR> <BR>- ستحاول إدارة الإحتلال دعم إدارة علاوي واستمرارها أطول مدة ممكنة، لتقوم هذه بدورها بتفصيل الدولة الجديدة ومرافقها وفلسفاتها السياسية والاجتماعية على المقاس المعولم، مما يعني تحييد دولة من أقوى دول المنطقة عن دورها في دعم القضية الأولى والأهم في المنطقة، وهي القضية الفلسطينية.<BR><BR>- - بالنسبة للنفط والموارد الطبيعية، فأمريكا دفعت ثمناً كبيراً للوصول إليه، ولن يكون من السهل لديها التخلي عنه بأي شكل من الأشكال، لذلك ستحاول الإدارة الأميركية – حتى لو تغيرت الإدارة الحالية- المحافظة على الهيمنة الأميركية على قطاعات النفط.<BR>- - العراق في المخطط الأميركي سيكون أكبر نقطة للنفوذ الأميركي في المرحلة القادمة، وما استحضار الممثل السابق للولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيغروبونتي سفاح خصوم الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، ليكون سفيراً جديداً لها في العراق، ثم الحديث عن سفارة أميركية جديدة بمواصفات قاعدة عسكرية هائلة الحجم وبمئات الموظفين، ما هذه الإشارات إلا دلالة على التوجه الأميركي الجديد.<BR><BR>- بعد التغيير السياسي- إذا تم أصلا- ستمتد أيادي الغزاة وألسنتهم إلى المناهج التربوية وهذه أصبحت ميزة هذه الأيام حيث تطاولوا على المبادئ والقيم الراسخة للشعوب المنطقة، وهم يتطلعون إلى المزيد من التغيير في ظل عدم وجود أي مقاومة من الأنظمة القائمة، فطالما يوجد زعماء يقولون بحلق الرؤوس ذاتياً قبل حلقها بيد الأغيار، لن يتوقف التطاول على المبادئ والأفكار مهما عظمت لدى أهلها.<BR><BR>- بالتالي العراق مخطط له أن يكون النموذج الأميركي الجديد في المنطقة من حيث النظام السياسي والفكري والاجتماعي، وفي نفس الوقت سيكون الفزاعة الأميركية لدول الجوار ودول المنطقة بشكل عام، خاصة بعد صور الإذلال التي تعرض لها الرئيس العراقي السابق، وتصاعد التهديدات والتنديدات بدول الجوار التي يزعم المسؤولون الأميركيون والعراقيون الجدد أنهم لا يضبطون الحدود المشتركة مع العراق مما يتسبب في تدفق المتطوعين الأجانب إليه.<BR><BR>- القضية الكردية ستبقى كذلك فزاعة لدول الجوار، لا سيما مع تصاعد المطالب لدى بعض الأكراد القوميين بمنح الحكم الذاتي، ولا شك أنها قضية مصيرية بالنسبة لإيران وتركيا وسوريا، وأن أي لعب على حبال الانفصال الكردي في أي من الدول الثلاث له مخاطر عظيمة على أمنها القومي، على أن جمهور الشعب الكردي بشكل عام لا يميل إلى هذه الطروح المغالية، ولديه من الوعي ما يجعله ينفر من الاستقواء بالأجنبي على الوطن، أما ما يجري من الساحة العراقية من ميل البعض الى طروح الحكم الذاتي، فلا يقاس عليها؛ لأنها تتقاطع مع مصالح فئوية وإقليمية معقدة.<BR><BR>في الختام لا ندعي العلم بغيب المستقبل، لكنها محاولة لاستشرافه مبنية على مقدمات ونتائج مرتبطة بها، على أن الأمور مرتبطة كذلك بعوامل أهمها ردة فعل الشعب العراقي والتفافه حول مقاومة الاحتلال، الأمر الذي يزداد يوماً فيوماً، رغم الكثير من الممارسات التي تحاول تشويه صورة تلك المقاومة محلياً وعالمياً. <BR><br>