الإسلام في دار العلمانية قبول وإدماج أم رفض وإخراج
22 رجب 1425

لم يكن يخطر ببال الغربيين عامة، والفرنسيين خاصة، وهم يغزون ديار الإسلام بالحديد والنار وجيوش الاستعمار، نهباً للخيرات وتوسيعاً للمستعمرات وتوطيناً للعلمانية في القرنين التاسع عشر والعشرين، أن الزمان سيدور دورة عجيبة مثل دورته في الثلث الأخير من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، فلم تكد تنقضي بضعة عقود على رحيل الاستعمار المباشر، حتى كانت أفواج من المهاجرين المسلمين "أهالي" المستعمرات القديمة قد وصلت إلى المدن والعواصم الأوروبية متخطية بلاط الشهداء. لم يكونوا هذه المرة غزاة فاتحين على صهوات الخيول وركابها، لكن -وياللقدر العجيب- كان معظمهم هاربين لاجئين يطلبون إطعاماً من جوع، وأمناً من خوف، وتشغيلاً من بطالة، وتعليماً من جهل، وفي خمسة عقود من الزمن تزيد أو تنقص، كان الإسلام قد استوطن بلاد العلمانية، محتلاً المراتب المتقدمة بين أديان أوروبا وطوائفها العتيقة والحديثة. لم يعد ديناً مهاجراً، بل أصبح مستقراً يتجذر ببطء لكن بفعالية، وسط تحولات دولية عالية التقلب، وصحوة دينية كبيرة المدى، وتدخلات كثيرة أطرافها وجهاتها تريد التأثير في انبعاثه واستقراره، بمن فيها الدول الأصلية التي خرج منها مهاجراً في أرض الله الواسعة.<BR>فهل يلقى هذا الإسلام ترحيباً وإدماجاً في بلاد العلمانية وفصل الكنائس عن الدولة، أم يعاني من رفض ظاهر وخفي ورغبة في طرده وإخراجه؟ وهل تريد هذه العلمانية إدماج مسلمين من دون دين، أم تشترط عليهم إجراء بعض التعديلات في الفهم والسلوك حتى يكونوا مواطنين كاملي الحقوق والواجبات؟ وهل الإسلام الأوروبي -والفرنسي على وجه الخصوص- قضية سياسية أم اجتماعية أم دينية أم جيواستراتيجية؟ وأي سبيل تسلكه الدولة الراعية مع الإسلام، هل تنهج الأسلوب الأمني كما تفعل كثير من الدول العربية والإسلامية مع شعوبها عامة، ومع الحركات الإسلامية خاصة؟ أم تختار الأسلوب الثقافي والتربوي؟ والفصل بين الكنائس والدولة، هل يسري على الإسلام؟ وهل يمكن تطبيقه عليه رغم تأخره في الحضور داخل المشهد الديني؟ ألا يمكن تصريف الجانب السياسي للمسلمين ليندمجوا في الحياة السياسية كمواطنين غربيين لا فرق بينهم وبين الآخرين، مع تصريف الجانب الديني في مجاله الخاص كما هو الحال مع الكنائس؟ هل يتم التعامل مع الحضور الإسلامي -بفرنسا نموذجاً- وفقاً للأحكام القانونية والدستورية أم وفقاً للمواريث التاريخية والرصيد الانفعالي المكنون في الصدور؟<BR>الأسئلة كثيرة، والقضية ذات فصول مثيرة، لكننا نقدم بعض الأجوبة عن هذه الأسئلة المطروحة. أجوبة لم يسطرها مسلمون غربيون، ولكنها كتبت بيد بأقلام كتاب ومفكرين فرنسيين أنفسهم. من الشواهد على ذلك ما كتبه الأستاذ ميشيل مورينو في مقاله "الإسلام بفرنسا والجمهورية: الخروج من الأحكام المسبقة"، وهو مساهمة منه في أشغال "لجنة الإسلام والعلمانية"(لجنة فرنسية حرة تجمع عدة تيارات ومفكرين وتنظمها كل من رابطة المدرسين وفرع لجنة حقوق الإنسان وصحيفة لوموند ديبلوماتيك، وتشتغل منذ أكثر من عقد من الزمن، وتدور أشغالها حول سبل الحضور الإسلامي في العلمانية.<BR>وإليكم ترجمة لمقاله:<BR><BR><font color="#800000"> من أشغال لجنة "الإسلام والعلمانية" </br> الإسلام بفرنسا والجمهورية: الخروج من الأحكام المسبقة </br> ميشيل مورينو - ترجمة حسن السرات </font><BR><BR>يشكل الاستقرار الدائم للدين الإسلامي في بلادنا العتيقة، والوعي الناتج عن ذلك، سواء عند المسلمين المنحدرين من الهجرة أم عند الفرنسيين الآخرين، تحولاً في المجتمع الفرنسي. تلك ظاهرة تعد منبع مناقشات غير مؤسسة ولا يمكن أن تنسى، عندما حملت إلى صدارة المشهد العام من لدن وسائل الإعلام، ابتداء من سنوات 1970م.<BR>هؤلاء القادمون من المغرب العربي وأفريقيا، لن يعودوا في أغلبهم إلى "البلاد"، وأصبح مصيرهم مرتبطاً بالبلد الذي تجذروا فيه شيئاً فشيئاً. تحول اتخذ شكلاً آخر ليصبح "قضية مجتمع"! "الإسلام" في "فرنسا" ـ اسم تطور تدريجياً ليصير "إسلام فرنسا" ـ يستدعي مخاوف وأسئلة. إنه يسائل ثقافتنا السياسية، ويلزمنا بالنظر الثاقب إلى حقيقته.<BR>القضية معقدة، وتتخذ مظاهر متعددة: تاريخية واجتماعية ودينية أيضاً، وما يهمنا هنا هو المظهر السياسي. شروط التوطين الدائم للإسلام في فرنسا ينبغي أن تفحص على ضوء العلاقات الفوضوية لفرنسا مع العالم العربي منذ ألف عام، وعلى ضوء تاريخ استعماري موجع. التوطين يتحقق في وقت يتصاعد فيه التهميش الاجتماعي والاقتصادي، مصحوباً برهاب وعنصرية يعبران عن نفسيهما جهراً، وهذا التوطين الدائم الظاهر يطرح سؤال حرية التعبير والتدين في المجال الخاص، ويسائل مؤسساتنا وتقليدنا المستقر والقاضي بفصل الكنائس عن الدولة.<BR>الإسلام يمثل تحدياً كبيراً لفرنسا المعاصرة. أولاً، هو يخيف، فالرأي المنتشر بين الناس يردد أن هذه الديانة ـ على خلاف الديانات الأخرى، لا تتوافق الديمقراطية والتقدم والحريات، خاصة حرية النساء... إلخ، والإسلام يخيف أيضاً؛ لأنه يندرج في سياق دولي لم تعد الحدود تحول فيه دون انتقال الأفكار والتأثير. والسياسة الدولية، مثل: استراتيجيات الولايات المتحدة، تخضع لحسابات أو مصالح غامضة (مجهولة في غالب الأحيان)، حيث يستخدم الإسلام كعملة للصرف (انظر تاريخ الصراع الأفغاني مثلاً، ولعبة الولايات المتحدة مع الإسلام).<BR>وفي سياق الضغوط الدينية والانتشار بدأ التخوف من "إسلام سياسي راديكالي"، ولا أحد ينسى سنوات 1990م في باريس وغيرها. في هذا السياق تصبح كل أشكال اللبس والتدليس ممكنة. وكذلك الانزلاقات الأكثر جنوناً، وتصبح النفوس ناضجة للاشتعال.<BR><BR> <font color="#0000FF"> خوف خيالي فرونكو - فرنسي: </font><BR>على العكس مما هو مروج، الأغلبية الساحقة من المواطنين الفرنسيين ذوي الدين الإسلامي ـ هكذا ينبغي أن يسموا ـ لا علاقة لهم بالظلاميين (الطالبان أو السودانيين)، بل هم منشغلون بالاندماج المتناسق للإسلام داخل مؤسساتنا وهم بعيدون عن الطائفية، ويكفي النزول إلى الميدان والاقتراب، والالتقاء مع الشباب خاصة، ومراقبة الجهود الهامة التي يتزعمها أغلبية من المثقفين المسلمين منذ مدة دون أن تكون على علم حقيقي، للتفكير في إصلاح وتكييف العقيدة في شروط الديمقراطية السياسية الطائفية باعتبارها هيئة قانونية وسياسية للمجتمع نوع من الخوف الخيالي الفرنكوـ فرنسي، وليست أبدا تهديدا عند المسلمين على الأقل، وفي المقابل فإن الإجراءات والبنيات الجماعية ـ التي لا صلة لها بالطائفية ـ ضرورية باعتبارها شبكات للتضامن الاجتماعي بين الأشخاص ذوي الانتماءات المشتركة، وفي غالب الأحيان تقوم تلك الإجراءات بدور حاسم في مسلسل الاندماج في الأمة (كما يشهد لذلك تاريخ جمعيات المهاجرين البرتغاليين أو البولونيين مثلاً).<BR>ففي سياق الاندماج في المؤسسات الجمهورية ـ إذن ينبغي أن تتوجه الجهود- إلا أن الذهنيات المتأثرة بتمثلاتها التاريخية تميل دوماً إلى التشكيك في النية الحسنة للفرنسيين ذوي الديانة المسلمة (بمساواتها بين الاعتقاد الإسلامي والتطرف الأفغاني)، في حين أنه لا يتبادر إلى ذهن أحد ـ لحسن الحظ ـ أن يحمل المسيحيين الأرثوذكس الفرنسيين مسؤولية الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الأرثوذكسيون الصرب، أو أن يفعل الشيء ذاته مع البروتستانت الفرنسيين لما يقوم به الأصوليون البروتستانت كما يفعل كينيت ستار كنموذج جيد في الولايات المتحدة الأمريكية.<BR>وفي هذا السياق، فإن التحديد الأساسي بالنسبة للجمهورية الفرنسية يكمن في قدرتها على إدماج "المخالفين"، دون المساس بنموذجها في التفريق بين الكنائس والدولة، أي العلمانية ذلك راجع لأمرين اثنين:<BR>من جهة يتعلق الأمر بالتفكير في "الاستيعاب السياسي" في الديمقراطية الفرنسية، لمواطنين فرنسيين ـ أو من هم مدعوون ليصبحوا كذلك ـ ذوي الديانة الإسلامية، وأغلبهم ينحدرون من الهجرة المغاربية والأفريقية، على قدم المساواة في الحقوق والواجبات مع كافة المواطنين الآخرين، وتبعاً لذلك، فهم أحرار في ممارسة ديانتهم في جو من الكرامة، وفي الإطار المعلوم والمحترم للعلمانية.<BR>ومن جهة ثانية، يتعلق الأمر أيضاً بإدماج الديانة الإسلامية في مجموع المساطر الموجودة في فرنسا منذ 1905م، والتي تنظم العلاقات بين الكنائس والدولة، وهنا أيضاً نتحدث عن قضية سياسية ـ وليس عن قضية دينيةـ؛ لأن الدولة إن كانت لا "تعترف بأي دين"، فإنها بالمقابل ضامنة للحريات، والنظام العام، والإجراءات الدستورية والقانونية المنظمة للفصل.<BR>لكن ما يوضع موضع الإظهار هو أن إرادة المسلمين في الاندماج في هذا النظام هو الذي يثير المتاعب!<BR>الاندماج يقتضي "اعتراف اجتماعياً" بالدين الإسلامي وحضوره، وتطبيقه باعتباره ديانة وثقافة على التراب الفرنسي.<BR>في حين أننا بعيدون عن هذا الأمر، سواء على صعيد الحريات الدينية (المقابر، الذبح الحلال، المساجد، احترام الأعياد الدينية... إلخ) أو على صعيد أماكن العبادة (عقبات كثيرة أمام تسليم رخص بناء المساجد حتى في الحالات التي يكون فيها كل شيء قانونياً). جميع طلبات التطبيق الحرفي للقوانين العلمانية الفرنسية تبقى معلقة أو ترفض، أو يتحايل عليها بأعذار واهية، وتوضع أمامها مصاعب من كل نوع وكثير من الجهل ـ بما فيها الجهل بالقانون نفسه ـ من قبل المكلفين بالسهر على تطبيقه.<BR>وهذه المطالب تتم الاستجابة لها في غالب الأحيان على الطريقة الأمنية، وعلى الصعيد المحلي بدأت ملامح بعض التطورات تظهر، وصورة الجمهورية لا تبدو من خلال كل هذا كبيرة حقاً، ومسلسل الاندماج يعاني من تأخر كبير. إننا لم نتجاوز بعد آثار تمثلات الميراث التاريخي الجمهوري ـ 2000 عام من التاريخ ـ تأسست فيها الوحدة السياسية للأمة حول مؤسساتها وسلطة الشعب، انطلاقاً من توحيد ثقافي، يضمن لكل فرد الانخراط في "ثقافة مشتركة" وطنية، وبهذه الطريقة يؤخذ الحق في أن يعد الفرد نفسه "وطنياً فرنسياً."<BR>الأمة ـ مفهوم سياسي بشكل ـ أصبح مفهوماً ثقافياً في زمن قضية دريفوس، المواطنة إذن تأتي من تقمص لهذه الثقافة (دور هام للمدرسة في هذا المجال)، وليس كما كان يقول "رينان" من استفتاء لكل الأيام من أجل مصير المجتمع"، سمعت أحياناً كثيرة مهاجرين يترجمون هذا بقوله: "نحن معتبرون بمثابة مندمجين حينما نشبه ثقافياً بما فيه الكفاية المجتمع الذي يستقبلنا، والإسلام لا يوجد بطبيعة الحال ضمن الخصائص."<BR>الحضور الإسلامي في فرنسا يفرض علينا إذن ـ أكثر من كل موجات الهجرة الأخرى التي استقرت بهذا البلد في الماضي ـ أن نقلب سؤال الإدماج.<BR>من الأفضل ألا نتساءل كما كنا نفعل من قبل "من ندمج وكيف"، ولكن علينا أن نتساءل "ندمج في ماذا؟" سؤال أساسي من أجل تطور ومستقبل المجتمع الذي يستقبل ويزعم أنه يدمج. سؤال جوهري للجمهورية على الخصوص!<BR><br>