الاحتلال الأمريكي و أموال العراق.. النهب المنظم
13 محرم 1426

تبقى عملية إدارة المقدرات المالية والعراقية واحدة من القضايا المحاطة بسرية تامة، ولولا الفضائح التي تتكشف بين الحين والآخر، لظل جدار الصمت مطبقاً من حولها.. آخر هذه الفضائح هو ما كشف في مطلع الشهر الحالي عندما انفجرت على نحو متزامن فضيحة سوء التصرف بحوالي 9 مليارات دولار من الأموال العراقية خلال المدة التي تولى فيها بول بريمر رئاسة سلطة التحالف، مع صدور التقرير المرحلي للجنة تقصي الحقائق في مزاعم الفساد في برنامج "النفط للغذاء" الذي أدارته الأمم المتحدة، وكشف عن تورط (رئيس البرنامج) بيدون سيفان، في انتقاء عقود النفط بصورة "وضعته في تعارض مصالح مع معايير الثقة والاستقامة".<BR><BR><font color="#0000FF"> احتيال وسرقة: </font><BR>أعد التقرير الأول (المفتش العام لإعادة الإعمار في العراق الحقوقي الأمريكي) ستيوارت باون، وقد انتهى العمل فيه أكتوبر 2004م، لكن صدوره تأخر لاعتبارات تتعلق بالانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2004م، ومن بعد بالانتخابات التشريعية العراقية في نهاية الشهر الماضي، وذلك خشية أن يؤثر سلباً على مساريهما، نظراً لما يحمله من معلومات حول الانتهاكات وسوء التصرف والتدبير في إدارة المال العراقي. <BR><BR>وقد أفاد تقرير نقلت مجلة "تايم" الأمريكية مقتطفات منه، أن سلطة التحالف "تركت مبالغ مالية كبيرة من أصل 8.8 مليارات دولار في الخزانة العراقية عرضة لعمليات احتيال ورشاوى واختلاس". وقال التقرير: "إن سلطة التحالف وضعت ضوابط أقل مما يكفي للمبلغ الذي كان قد أودع في صندوق تنمية العراق، الذي أنشئ بموجب قرار من مجلس الأمن الدولي". وأضاف: "نعتقد إن إدارة سلطة التحالف للموازنة في العراق والإشراف على الأموال العراقية شابتها أوجه قصور وسوء إدارة". وتضمن التقرير مثالاً صارخاً حين أشار إلى أن "سلطة التحالف سمحت لمسؤولين عراقيين بتأخير الإعلان عن 2.5 مليار دولار تلقتها الحكومة العراقية المؤقتة في الربيع الماضي من أموال برنامج النفط للغذاء".<BR><BR>وانتقد التقرير إدارة بريمر لإهمالها في قطاع المحاسبة والتقصير في الشفافية، وأكد باون أنه يمكن التأكد من أن مبالغ سددت لـ602 شخص على لائحة بالنفقات تضم 8206 أسماء، وفي غياب أية وثيقة تثبت دفع أجور الآخرين، وتابع أن السلطة سمحت أيضاً بصرف مبالغ عن 1471 حارساً، لكن تبين أن 642 من هؤلاء فقط موجودون، وفي مكان آخر تحدث عن "الموظفين الوهميين" الذين كانت تدفع رواتبهم، فأحصى حوالي 74 ألف حارس، لكن لم يتم التحقق في ما بعد من وجود سوى نفر قليل منهم.<BR><BR><font color="#0000FF"> غياب الحدود: </font><BR>لم يمر التقرير من دون رد فعل من طرف بريمر، الذي كتب للمجلة رداً قاسياً تحدث فيه عن أخطاء وافتقاد للدقة، وقال بريمر: "إن تقرير المفتش العام يؤكد أن سلطة التحالف كان عليها احترام معايير الشفافية في الموازنة، تلك المعايير التي لا يمكن حتى في الدول الغربية التي تعيش بسلام احترامها"، وأضاف: "إن هذه المعايير غير واقعية، نظراً للوضع الذي كانت فيه سلطة التحالف". يمكن الوقوف من كلام بريمر على وجود مصاعب ناجمة عن الفوضى التي أعقبت الحرب، وحاجة سلطة التحالف إلى التصرف ببعض المبالغ خارج إطار الحسابات المالية التي تخضع للتدقيق، إلا أن التصرف بنحو 9 مليارات دولار مسألة لا يمكن تبريرها على هذا النحو المبسط لقياس الأشياء، فلو لم تكن هنالك عملية سطو منظم، لما كان لهذا المبلغ الكبير أن يتبخر من الخزينة العراقية، من دون ضجة أو رد فعل مباشر من جانب الشركاء في حكم العراق.<BR><BR>والتفسير المنطقي، والذي تتداوله أوساط مختلفة، هو أن هذه المبالغ جرى التصرف فيها عن عمد وإصرار في أوجه عدة، منها الجانب الأمني، ففي مرات عدة جرى الإعلان عن تحويل مبالغ من أموال مخصصة لمشروعات إعادة الإعمار إلى تمويل تحسين الوضع الأمني، مثلما حصل في مطلع أكتوبر، حينما أعلن (وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية) مارك جروسمان إن إدارة بوش اقترحت تحويل مبلغ 3.46 ملياراً دولار من مصارف إعادة الإعمار، وقال: إنها ستقتطع من مشروعات الصرف الصحي والمياه والطاقة التي لن تنفذ لغاية العام المقبل، لتحول لمصلحة تحسين الوضع الأمني.<BR><BR>وتجدر الإشارة هنا إلى مسألة مهمة وهي غياب الحدود بين الأموال العراقية التي كانت موجودة في حساب "النفط للغذاء" بإشراف الأمم المتحدة وتم تحويلها إلى "صندوق إعمار العراق". وبين التبرعات التي تقدمت بها الدول المانحة في عديد من المؤتمرات التي خصصت لهذا الغرض، وكانت حصيلتها 32 مليار دولار، منها ما يزيد على 18 ملياراً تعهدت بها الولايات المتحدة لكن لم يدفع منها حتى نهاية أغسطس الماضي سوى 950 مليوناً فقط.<BR><BR>إن الاختلاط بين موجودات الحساب السابق "النفط للغذاء" و"صندوق إعادة الإعمار" أوجد ثغرة سهلت عملية سوء التصرف بالمال العراقي، وقد أشارت الكثير من التقارير الأمريكية إلى هذا الأمر، منها ذلك الذي صدر عن مكتب المحاسبة في الكونغرس في سبتمبر 2004م، فقد كشف أن واشنطن أنفقت من أموالها على إعادة بناء البلاد في العام الأول، وأوضح المكتب أن الإدارة أنفقت 13 مليار دولار من أموال العراق مقابل 8 مليارات من أموالها، وهناك بعض الأوساط التي تشكك بالرقم الثاني وتعده أقل من ذلك بكثير.<BR><BR><font color="#0000FF"> مخالفات بالجملة: </font><BR>لا تتوقف المخالفات والتجاوزات الأمريكية عند هذا الحد، فهناك ما يتجاوز سوء إدارة الأموال العراقية، إلى ارتكاب مخالفات كثيرة في عمليات بيع النفط وشروط منح العقود، لا سيما لشركات تابعة لشركة "هاليبرتون" القريبة من ديك تشيني (نائب الرئيس الأمريكي)، وتم تحويلها من صناديق عراقية.<BR><BR>وفي تقرير أصدره مجلس المراقبة الدولي حول العراق، في ديسمبر 2004م، تم توجيه التهمة للولايات المتحدة بسوء إدارة المال العراقي، واعتبر المجلس أن الصندوق الذي ترأسه بريمر قد أساء إدارة أموال العراق وعجز عن وقف الفساد، وركز التقرير انتقاداته على الطريقة التي منحت بها عقود بقيمة 1.8 مليار دولار إلى شركة هاليبرتون للخدمات النفطية وانتقد تقصير الرقابة وعدم قدرتها على إبداء الشفافية في عمليات البيع والتصدير وتخصيص الأموال التي دفعها الصندوق لمشروعات حددت عمليات الصرف من أجلها، وتضمنت وثائق رفعها المجلس إلى وكالة مراقبة العقود الدفاعية الأمريكية في أكتوبر الماضي كماً كبيراً من مخالفات عقود تبلغ قيمتها الإجمالية812 مليون دولار.<BR><BR><font color="#0000FF"> تقرير "فولكر": </font><BR>أما بصدد التقرير الثاني الذي أعده (الرئيس الأسبق للاحتياط الفدرالي الأمريكي) بول فولكر، وسلم مؤخراً إلى (الأمين العام للأمم المتحدة) كوفي أنان، فإن الأمر لا يزال في البداية، وإذا لم تتدخل جهات دولية متضررة من نشره على الملأ، فإنه سوف يتجاوز نطاق الفضيحة السياسية والأخلاقية إلى عملية نهب مدروسة لثروات العراق النفطية خلال مدة العمل ببرنامج "النفط مقابل الغذاء"، الذي بدأ سنة 1996م، واستمر إلى حين وقوع الحرب في مارس عام 2003م، فالمعلومات الأولية تشير إلى أن البرنامج لم يخضع لأي مراقبة خارجية، فالأمم المتحدة كانت تدقق الحسابات الداخلية، لكنها لم تكن تحظى بآلية تسمح بإجراء مراقبة خارجية، وحسب التقديرات، فإن العراق صدّر نحو 4.3 مليارات برميل من النفط بقيمة 64 مليار دولار، وفي إطار المساعدات الإنسانية تم التوقيع على عقود بقيمة 44 مليار دولار، ولكن نصف المواد والتجهيزات المطلوبة فقط سلم للعراق.<BR><BR>الملاحظ في تقرير "فولكر" أنه "مرحلي" وليس نهائياً، فهناك تحقيقات أخرى تجري حول ملابسات تشكل جوانب الغموض في عملية السطو على النفط العراقي خلال المدة المذكورة، وحسب مصدر فرنسي مطّلع، فإن تقرير "فولكر" يعكس جانباً فقط من عملية السطو على الثروات العراقية التي شاركت فيها أطراف عدة، من بينها النظام العراقي السابق. <BR><br>