القرن الأفريقي.. بوابة غزو إسرائيلي لمصر والسودان
24 محرم 1426

منذ اللحظة الأولى لإعلان الحكومة الإثيوبية نيتها إقامة سدود على بعض روافد نهر النيل، بدا للكثيرين أن "إسرائيل" تقف خلف هذا المشروع لضرب وإضعاف الاقتصادين المصري والسوداني، كما أن إعلان ست دول من دول الحوض عدم اعترافها بالمعاهدة الدولية التي تنظم توزيع مياه النيل أثار تخوفات قوية من هذا القبيل. والواقع أن هناك حقيقة ما في هذه المخاوف تعود إلى الدور الذي لعبته "إسرائيل" وما زالت تلعبه في هذه الدول من منطلق إضعاف علاقاتها مع العرب والمسلمين، وإشعال مصر بالدرجة الأولى.<BR><BR>تعود جذور هذه المخاوف إلى واحد من أقدم أعمدة الإستراتيجية "الإسرائيلية" التي رأت أن حصر المعركة مع العرب في الجبهة الحدودية الضيقة لا يخدم "إسرائيل" لأسباب كثيرة، ولذلك لا بد من توسيع هذه الجبهة، خصوصاً نحو ما يسمى دول المحيط العربي، وفي إطار هذا المبدأ، عملت "إسرائيل" على إقامة تحالفات إستراتيجية مع العديد من هذه الدول، مع تركيز خاص على كل من تركيا وإيران وأثيوبيا.<BR><BR>وإذا كانت العلاقة مع إيران وتركيا ترمي إلى إشغال كل من العراق وسوريا على وجه الخصوص، فإن العلاقة مع أثيوبيا تهدف إلى إشغال مصر والسودان وباقي الدول العربية المطلة على البحر الأحمر، وإضافة إلى العلاقات العسكرية والأمنية المميزة، التي أقامتها مع أثيوبيا عمدت إلى إقامة علاقة اقتصادية واستشارية مؤثرة بهدف إلحاق الضرر بمصر والسودان، ومن بين جوانب هذه العلاقة، السعي إلى إقناع أثيوبيا بأن أحد المخارج الأساسية للتنمية فيها إقامة السدود وتعديل المعاهدة التي تحكم توزيع مياه النيل. ورغم التطورات الهائلة التي حدثت في أثيوبيا، فإن "إسرائيل" سعت للتكيف معها من أجل المحافظة على هذه العلاقة الاستراتيجية.<BR><BR> ففي عهد النضال الوطني الأرتيري ضد نظام هيلا سيلاسي وقفت بقوة إلى جانب الجيش الإثيوبي، وعندما انقلب اليساريون على النظام الإمبراطوري أقامت علاقات مع بعض أجنحة الثورة الأرتيرية، وعندما توازنت قوى الصراع بين الطرفين أعادت ترسيخ العلاقة مع الجانبين بشكل أو بآخر، وما إن حظيت أرتيريا بالاستقلال حتى كانت أولى الدول التي تقيم علاقات عسكرية وأمنية واقتصادية معها، وتدخلت في الصراع الأثيوبي الداخلي، حيث أقامت أيضاً علاقات جيدة مع النظام الجديد بقيادة مليس زيناوي. ولم يعد هناك ريب في أن "إسرائيل" تحتفظ بقواعد عسكرية واستخبارية في كل من أثيوبيا وأرتيريا بحجة تدريب قوات الجيش والشرطة في البلدين.<BR><BR>وكان الدافع "الإسرائيلي" في كل ذلك، الإبقاء على علاقة جيدة مع تلك القوى التي تمسك بخناق كبرى الدول العربية مائياً، ورغم أن هذا الدافع قديم، ولم يتغير جوهرياً مع مرور الوقت، إلا أنه كان يتأثر بتطورات العلاقة مع مصر.<BR><BR>فما أن جرى التوقيع على معاهدة كامب ديفيد حتى طالبت "إسرائيل" مصر بوجوب التعاون من أجل تحقيق الحلم الصهيوني بجر مياه النيل لري أراضي النقب، ويمكن القول إنه في مدة مناقشة هذا الموضوع مع (الرئيس المصري) أنور السادات، بلغت العلاقات الإسرائيلية - المصرية ذروتها. غير أن اعتراض استراتيجيين وفنيين مصريين على هذا المشروع عاد وخلق توتراً في العلاقات، في مدة كثر فيها الحديث عن "حروب المياه" في الشرق الأوسط، وأياً يكن الحال، فإنه ليس مصادفة أن الحديث عن مشروعات أفريقية لتعديل أو تغيير معاهدة توزيع مياه النيل جاء هذه المرة في ظل توتر إسرائيلي - مصري شديد، فحكومة شارون عمدت في الأعوام الثلاثة الأخيرة، بخاصة في العامين الأوليين للانتفاضة إلى إدارة حرب سياسية شاملة ضد مصر في الولايات المتحدة. <BR><BR>وكانت "إسرائيل" تتهم الحكومة المصرية بأنها تلعب دوراً تشجيعياً للفلسطينيين في انتفاضتهم، وأنها لا تقوم بما يلزم لتهدئة الأوضاع، وقبيل قمة شرم الشيخ الأخيرة بلغ التوتر ذروته، خصوصاً جراء السعي "الإسرائيلي" في الكونغرس لحرمان مصر من المساعدات الأميركية أو اشتراطها بإجراءات مصرية لمصلحة "إسرائيل"! وهناك من يعتقد أن التقارب المصري - الإسرائيلي الأخير سواء بإقرار اتفاقات "كويز" أو بتحسين العلاقات السياسية بين الطرفين سيؤثر أيضاً في الدور "الإسرائيلي" في أثيوبيا.<BR><BR>ومع ذلك، فإن من الضروري القول: إن "إسرائيل" ترى في مصر الدولة العربية الواجب إضعافها دائماً، كونها الدولة الأبرز من دول الطوق القادرة على مجابهة "إسرائيل" سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. لذلك ثمة من يعتقد أن القاعدة الأولى في العلاقة بين الطرفين ورغم المظاهر الأخرى هي الصراع، ولهذا يصعب القول: إن الهدنة الراهنة بينهما، ستحمل "إسرائيل" إلى تغيير استراتيجيتها بشأن منابع النيل.<BR><BR>وهناك من يرى أن الجديد على هذا الصعيد هو أن "إسرائيل" تلعب اليوم دوراً بين دول حوض النيل ضمن مخطط أمريكي، يسعى لانتزاع النفوذ في تلك الدول من أوروبا عموماً، وفرنسا على وجه الخصوص، ولذلك فإن الإدارة الأمريكية توفر لـ"إسرائيل" كل سبل التأثير على دول مثل أثيوبيا وكينيا ورواندا وأوغندا والكونغو، وفي هذا الإطار أقامت "إسرائيل" علاقات متميزة ومتنوعة مع جيل من القادة الأفارقة الذين يرتبطون بوشائج قوية مع الولايات المتحدة وفي مقدمتهم ميليس زيناوي في أثيوبيا، وأسياس أفورقي في أرتيريا، وجون قرنق في جنوب السودان، ويوري موسيفيني في أوغندا، وبول كاجامي في رواندا.<BR><BR>وهي ترمي من وراء ذلك إلى تخليد الدور "الإسرائيلي" في هذه الدول وإبقاء مصر والسودان في حالة توتر وانشغال دائمين، ربما لهذا السبب تكثر "إسرائيل" من زيارة مسؤوليها إلى أثيوبيا وتكثر من دعوة المسؤولين الإثيوبيين لزيارتها، وتحاول التستر خلف قضية "الفلاشا" الذين ترحلهم إلى الأرض التي تحتلها لتأكيد علاقتها مع أثيوبيا، غير أن هذه واحدة من أشد القضايا هامشية في العلاقات بين البلدين.<BR><BR>وفي الشهور الأخيرة، زار (رئيس الحكومة الأثيوبي) زيناوي تل أبيب، وأبرم عدة اتفاقيات اقتصادية وأمنية، وكان (وزير الخارجية الإسرائيلي) سيلفان شالوم قد زار أديس أبابا على رأس وفد كبير وأبرم عدداً من الاتفاقات، وقد جرى الإعلان عن أن هدف هذه الزيارات هو تطوير العلاقات الثنائية، وتفعيل التعاون المشترك في المجالات التجارية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، وتطوير إمكانات عمل البلدين معاً من أجل محاربة "الإرهاب الدولي"، ومن بين الاتفاقات ما يوحي بتعهد "إسرائيل" بتطوير الصناعة وإدخال التكنولوجيا الزراعية وتبادل الخبرات في مجالات الصناعة والزراعة والاستفادة من الخبرة "الإسرائيلية" في هذا الجانب.<BR> <BR>رغم ذلك، لا بد من الإشارة إلى أنه وبصرف النظر عن الدور "الإسرائيلي"، فإن من واجب مصر تجاه دول حوض النيل التعاون معها لتطوير مشاريع اقتصادية مشتركة، وكانت هذه سياسية مصرية قديمة، ربما تراجعت في مدة الانكفاء السياسي المصري، ولكنها عادت إلى النشاط بعد تزايد المخاطر على حصة مصر المائية، وفي هذا السياق ثمة أهمية للتغير في الموقف المصري من المشروعات الأثيوبية من التهديد إلى إبداء الاستعداد للتعاون، ومنذ أعوام قدمت مصر مبادرة للتعاون بين دول حوض النيل.<BR><br>