المسلمون في الغرب بين الاندماج والاستقلالية
15 صفر 1426

من الإشكاليّات الكبيرة التي تعترض حياة المسلمين في الغرب هو اندماجهم أو عدم اندماجهم في الواقع الجغرافي الجديد الذي هاجروا إليه، ويفضي الاندماج إلى ضرورة ترك المسلمين لمفردات شخصيتهم والتي قوامها المسلكيّة الحياتيّة التي رسم أبعادها الإسلام، فيما تفضي الاستقلالية إلى عزل المسلمين عن الواقع الجديد الذي يعيشون فيه وعندها قد يصونون شخصيتهم لكن ذلك يجعلهم يراوحون مكانهم في السلم الاجتماعي والثقافي وحتى السياسي في الواقع الغربي. <BR><BR>وإشكاليّة الاندماج أو الاستقلالية لم تصبّح همّاً خاصّاً للمسلمين، بل أصبحت همّاً سياسيّاً يؤرّق كافة الحكومات الغربيّة التي يوجد على أراضيها عشرات الآلاف من المسلمين إلى درجة أنّ العديد من الساسة الغربيين الأعضاء في الأحزاب الحاكمة في الغرب يرفضون تولّي وزارة الهجرة والاندماج لعقدة الملفات المطروحة في أجندة هذه الوزارة، وللإخفاقات الكثيرة التي منيّت بها سياسات الهجرة والاندماج في الغرب، علماً أنّ وزارات الهجرة والاندماج في الغرب تحظى بميزانيّات كبيرة جداً تفوق كل الوزارات الأخرى، ومردّ اهتمام الدوائر الغربيّة بسياسة الاندماج يعود إلى أنّ السبب الذي جعل الحكومات الغربيّة تستورد بشراً من القارات الخمس ومن العالم الثالث على وجه التحديد هو الحفاظ على التوازن السكّاني و بعث الحيويّة والروح في الواقع الاجتماعي و الاقتصادي الغربي، خصوصاً في ظل التضاؤل الرهيب للنسمة الغربيّة.<BR><BR>وإذا كانت العواصم الغربيّة قد أوجدت نوعاً من التوازن السكانّي واستطاعت أن تعبئّ المناطق الفارغة فيها بالقادمين من العالم العربي والإسلامي والثالث، فإنّ دوائر القرار في الغرب تولي أهميّة قصوى لأمنها المستقبلي، وذلك يقتضي قطع اللحمة بين الجيل المسلم الذي ولد معظمه في الغرب وانتمائه الحضاري حتى لا يكون الواقع الغربي واقعاً اثنيّا متعددّاً من الناحيّة الدينية، ويرى استراتيجيو الاندماج أنّه إذا لا يوجد أمل في تغيير ذهنيّات وشخصيات الآباء بما ينسجم مع مفردات الحياة الغربيّة، فيجب أن تخصصّ جهود جبّارة لتغريب الأبناء الذين فقد 95 بالمئة منهم اللغة الأمّ ، والذين هم أكثر من آبائهم اندماجاً بالحياة الغربيّة من خلال المدرسة والمنتديات الرياضيّة وغيرها، ويعترف هؤلاء الاستراتيجيون أنّ رهانهم الأساس هو على الأبناء دون الآباء؛ لأنّ الطفل المسلم ومنذ ولادته يخضع في الغرب للقواعد الغربيّة التي جعلت لتنظيم حياة الفرد من المهد وإلى اللحد، وهو الأمر الذي يجعل أطفال المسلمين أقرب إلى المعادلة الغربيّة في الحياة من الآباء الذين يعيش أكثر من 70 بالمئة منهم في بطالة كاملة ويتقاضون مساعدات من المؤسسّات الاجتماعية. <BR><BR>ومع تزايد جرائم الشرف في الغرب ولجوء مسلمين إلى قتل بناتهم بسبب السلوك الغربي لبناتهم ارتفعت الأصوات الغربيّة بضرورة إيجاد سياسة اندماجيّة ناجحة تجعل القادمين من الشرق جزءاً لا يتجزّأ من الواقع الغربي. <BR><BR>فقد استيقظت السويد على جريمة فظيعة يوم 22-01-2002م حركّت الرأي العام السويدي ومازالت تثير جدلاً سياسياً وإعلاميّاً بشكل لم يسبق له مثيل، وتتمثّل هذه الجريمة في إقدام أحد الآباء من أكراد تركيّا على قتل ابنته فاطمة التي تبلغ من العمر 26 سنة، وذلك بسبب سلوكها المشابه لسلوك السويديات المتحررات من القيود الأسريّة بشكل مطلق، والمجني عليها فاطمة كانت تعيش في كنف أسرتها قبل أن تتعرّف على شاب سويدي سنة 1998م وتقررّ أن تعيش معه عن طريق المعاشرة بدون زواج كما يحدث مع معظم السويديّات، ونظراً لسلوكها هذا فقد ظلّ أبوها يحاسبها على تصرفهّا هذا، فيما قررّت هي أن تقود حركة دعوة الشابات المسلمات إلى الثورة على التقاليد والعادات والمبادئ التي مازالت تتحكم في مسلكيّات كل الأسر القادمة من العالم الإسلامي إلى السويد ، ونظراً لدعوتها هذه فقد احتضنت سياسيّاً، وكانت دعوتها محلّ ترحيب وزيرة الاندماج السويديّة منى سالين المتهمة من قبل الصحف السويدية بعدم تسديد ضرائبها لمصلحة الضرائب.<BR>ورغم تحذير الأب والأقرباء لها فقد استمرّت تدعو المرأة الأجنبية إلى التحرر المطلق، ورغم وفاة عشيقها في حادث سيارة إلاّ أنّها استمرّت في نفس النهج ، وعندما كانت فاطمة تزور أختها الصغرى في بيتها في منطقة أوبسالا القديمة في مدينة أوبسالا الجامعيّة – تبعد مدينة أوبسالا عن العاصمة السويدية ستوكهولم بحدود 70 كيلومتراً - تسللّ أبوها إلى بيت أختها وأطلق عليها النار مهشمّا رأسها ومن ثمّ سلمّ نفسه للشرطة، وكانت فاطمة تنوي التوجّه إلى كينيا لإنجاز بحث ميداني له علاقة باختصاصها في العلوم الإنسانيّة، وبسبب الإرباكات التي يعيشها المسلمون في السويد بسب تبعات أحداث الحادي عشر من سبتمبر – أيلول وبسبب الاحتقان الغربي ضدّ المسلمين فقد تحولّت قضيّة فاطمة إلى موضوع للرأي العام وباتت الصحافة السويدية والإعلام المرئي والمسموع يهتم بهذه القضيّة وإخفاق موضوع الاندماج في السويد، وقد انطلقت تظاهرة كبيرة في مدينة أوبسالا 23- 01-2002م تنديداً بجرائم الشرف، وقد شاركت فيها وزيرة الاندماج منى سالين.<BR><BR>وتجدر الإشارة إلى أنّ جرائم من هذا القبيل قد انتشرت في السويد بشكل كبير ففي سنة 1994م قتل فلسطيني مسيحي ابنته التي تبلغ من العمر 18 سنة بعد أن قررّت أن تعيش مع شاب سويدي دون إذن أبيها، وفي سنة 1996م قتلت فتاة عربية تدعى ليلى وعمرها 15 سنة من قبل أخيها؛ لأنّها قررت أن تعيش كالسويديّات.<BR><BR>وفي سنة 1997م قتلت فتاة مسلمة عمرها 22 سنة عندما كانت تغادر مرقصاً، وقام أخوها الذي يبلغ من العمر 20 سنة بقتلها في الشارع، وفي نفس السنة أيضاً 1997م قتلت فتاة كرديّة عمرها 17 سنة من قبل أخيها البالغ من العمر 16 سنة.<BR>وفي سنة 1999م قتلت فتاة كرديّة لدى زيارة كردستان في العراق من قبل أعمامها الذين اكتشفوا سلوكها السويدي، وجرى إبلاغ السلطات السويدية من قبل بعض ذويها. <BR>وفي سنة 2001م قتلت فتاة مسلمة من قبل أخيها. <BR>هذا بالإضافة إلى مئات قضايا الاعتداء والضرب ومحاولة القتل المعروضة أمام المحاكم و عشرات الجرائم الأخرى في مختلف المحافظات السويدية. <BR><BR>وسعت بعض الجهات السياسية والاجتماعية في السويد إلى تسييس قضيّة فاطمة وغيرها واتهّام العرب والمسلمين بأنّهم غير قابلين للاندماج في المجتمع السويدي، وغير مؤهليّن ليصبحوا جزءاً من المجتمع السويدي علماً أن بعض التيارات السيّاسية تعد أنّ الاندماج لا يعني التخلي عن الدين والثقافة والخلفية الفكريّة للمهاجر العربي والمسلم، ومع ذلك يبدو أنّ أصحاب هذا الطرح تضاءل حجمهم وخصوصاً بعد الحادي عشر من أيلول الأسود في سنة 2001م في الولايات المتحدة الأمريكيّة .<BR><BR>ومهما كانت الأهداف الإستراتيجيّة لسياسة الاندماج في الغرب، فإنّ المسلمين انقسموا تجاه هذه السياسة إلى ثلاث فئات، الفئة الأولى وهي التي ذابت بشكل كامل في المجتمع الغربي وباتت تزايد على الغربيين نسيانهم المطلق للقيّم والمبادئ والمفاهيم الروحيّة، وأصبح هؤلاء لا يعترفون بالإسلام كشريعة متكاملة، بل راحوا يذمّون الإسلام من خلال تصرفاتهم وتصريحاتهم ، وأصبح لحم الخنزير في عرفهم الجديد لحماً لذيذاً ، والأفلام الإباحيّة جزءاً لا يتجزّء من التمتّع بالحياة، والعديد من المحلات التي فتحها المنتمون إلى هذه الفئة أصبحت وكراً لكل أنواع الفساد، والكثير من المنتمين إلى هذه الشريحة إمّا لم يكن لديهم التزام بالإسلام في بلادهم أو أصبحت لديهم ردّة فعل كبيرة تجاه بعض الممارسات الإسلامية في بلادهم وأخصّ بالذكر هنا الإيرانيين والأتراك والأكراد.<BR><BR>والفئة الثانيّة هي تلك الفئة الشديدة الالتزام وتعد وجودها في الغرب اضطراريّاً لأسباب سيّاسية أو اقتصاديّة وبمجرّد زوال مسببات الإقامة في الغرب سيعودون إلى ديّار الإسلام، وتعيش هذه الفئة خارج المعادلة الاجتماعيّة والسياسيّة في الغرب ، لكنّها في المقابل حافظت على التزامها وتدينّها وعقيدتها، ولا شكّ أنّ هذه الفئة تجابه صعوبات متعددّة في دنيّا الاغتراب وتحتسب ذلك عند الله.<BR><BR>والفئة الثالثة هي الفئة المتمسكة بدينها والمنفتحة على محاسن الحضارة الغربيّة من قبيل النظام والانضباط والحثّ على طلب العلم وتقديس قيمة العمل والعمل الدؤوب، وتعد هذه الفئة انفتاحها على محاسن الحضارة الغربية وإقامة جسور تواصل مع الغربيين مدخلاً ضروريّاً للتعريف بالحضارة العربيّة والإسلاميّة، وبدون ذلك سيبقى الغربيون جاهلين بمقاصد الشريعة الإسلاميّة خصوصاً، وأنّهم يستقون معلوماتهم عن الإسلام إمّا من المستشرقين الغربيين الذين درسوا الحضارة العربيّة والإسلاميّة أو من المستغربين العرب الذين كتبوا عن الإسلام بما يرضي العقل الغربي طمعاً في الجوائز والمخصصّات الماليّة التي تخصصّ لهذا الغرض وهي تقدّر بملايين الدولارات، وإلى هذه الفئة ينتمي المثقفون وحملة الشهادات العليا من المسلمين، والذين بدؤوا يلعبون أدواراً مهمّة في الواقع الغربي.<BR><br>