عامان على سقوط بغداد.. تقسيم الغنائم
24 ربيع الأول 1426

المدة التي فصلت بين سقوط بغداد بقبضة الاحتلال في 9 أبريل 2003م وإنهاء تعيين جاي جارنر رئيساً لمكتب إعمار العراق في 5 مايو من ذلك العام، كانت قصيرة جداً في المقياس الزمني، إلا أنها كانت كافية لجارنر لكي يقوم بمهمته بشكل أرضى إسرائيل أكثر مما أرضى الولايات المتحدة التي كلفته بالمهمة، ففي تلك المدة المحدودة والتي لم تتجاوز 26 يوماً، تمكن جارنر المتزوج من عالمة الآثار الأميركية توني بليموث، والذي عُرف عنه ولاءه لإسرائيل وقادتها أكثر من ولائه للولايات المتحدة من الإجهاز على البنى التحتية للمجتمع العراقي.<BR><BR>وهو من أجل تحقيق ذلك، لم يكن في حينه بحاجة لأكثر من بضع مئات من "الرعاع" الذين جلبهم معه من الخارج، وبضع مئات آخرين من العراقيين ضعاف النفوس زوده بهم رموز الخيانة والعمالة الذين عادوا إلى العراق على ظهور الدبابات الأميركية والبريطانية التي غزت العراق بقرار أهوج أصدره الرئيس جورج بوش إرضاء لمشروعه الاستعماري الذي تقاطع مع المشروع الاستيطاني التوسعي الإسرائيلي في الوطن العربي، ففي عهد مكتب "إعماره"، أطاح جارنر بالوزارات والمؤسسات الحكومية والخاصة بما فيها المتاحف والمدارس والجامعات ودور العبادة نهباً وحرقاً وتهديماً.<BR><BR>أما المدة التي فصلت بين تعيين السفير في الخارجية الأميركية والمتخصص في مكافحة الإرهاب بول بريمر "حاكماً مدنياً" للعراق في 6 مايو 2003م وتعيين العميل متعدد الولاءات الاستخباراتية إياد علاوي رئيساً للحكومة العراقية المؤقتة، وفرار بريمر من العراق تحت جنح الظلام في 28 يونيو 2004م، فقد كانت هي الأخرى أكثر من كافية لبريمر لإنجاز ما لم يقدر لسلفه إنجازه، فإن كان السلف قد أتى على البنى التحتية للمجتمع العراقي، فإن الخلف أتى بدوره على البنى التحتية والفوقية لجميع مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية.<BR><BR>ولعل أول قرار اتخذه بريمر بعد أقل من أسبوع على تعيينه كان حل الجيش الوطني العراقي والأجهزة الأمنية ووزارتي الدفاع والإعلام ومنع 30 ألفاً من البعثيين العراقيين من ممارسة مهامهم الوظيفية في الجهاز الإداري للدولة العراقية، وتوالت قرارات بول بريمر، فمن قرار تشكيل مجلس الحكم الانتقائي الذي ضم 25 من رموز المعارضة، مروراً بكتابة الدستور المؤقت والتوقيع عليه في 8 مارس 2004م، وصولاً إلى تشكيل الحكومة المؤقتة برئاسة علاوي قبل الموعد المحدد لها في 30 يونيو من ذلك العام بيومين، وقد اتخذ بريمر جميع قراراته على أرضية من المحاصصة الطائفية والعرقية لاستبدال الملمح القومي والوطني للعراق بملمح طائفي وعرقي جديد يرضي تطلعات الطامعين في العراق. <BR><BR>واتُفق إبان عهد بريمر أن يعين (الرئيس الأميركي) جورج بوش مندوبه السامي جون نيغروبونتي - صاحب التاريخ الطويل من خرق وانتهاك حقوق الإنسان في العالم - سفيراً لواشنطن في العراق، وبعد خروج بول بريمر من العراق أوكلت مهمته لضابط أميركي كبير تولى قيادة قوات الاحتلال التي تم تحويلها إلى "قوات الائتلاف"، لإضفاء ملمح دولي عليها يخفف من حدة العداء التي خلفتها الممارسات اللاإنسانية واللاأخلاقية لتلك القوات بين العراقيين، لكن نيغروبونتي ظل الآمر الناهي والسيد الذي لم يستطع أن يعصي أوامره أي من رموز العراق الجديد، إلى أن عينه الرئيس بوش مديراً للاستخبارات القومية الأميركية، وحل في موقعه السفير السابق في أفغانستان خليل زادة.<BR><BR>بعد مضي 21 شهراً على سقوط بغداد، وتحديداً في الثلاثين من يناير الماضي، شهد العراق انتخابات عامة "مبتورة" قاطعها أهل السنة، ولعل أقل ما يمكن أن توصف به تلك الانتخابات، أنها كانت استفتاء مصطنعاً حول انتماء العراق الجديد، باعتبار أن العراقيين الذين أيدوا تلك الانتخابات وُضعوا أمام خياري انتماء العراق للولايات المتحدة في البعد الدولي وانتمائه لإيران في البعد الإقليمي، مع إسقاط انتمائه وبعده العربي الإسلامي.<BR><BR>وبنتيجة تلك الانتخابات، انتصر عملاء إيران على عملاء الولايات المتحدة فاحتلت القائمة الشيعية المرتبة الأولى في الجمعية الوطنية العراقية تلتها القائمة الكردية ثم قائمة إياد علاوي ، وبذلك أحكم الشيعة والأكراد قبضتهم على الجمعية الوطنية بحيث أمكنهم ذلك من الاستيلاء على المناصب السيادية للدولة بما في ذلك رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، وتقسيم "المغانم" فيما بينهم وإقصاء أهل السنة بذريعة مقاطعتهم للانتخابات، وإلا فما معنى أن يُفرض على (رئيس الجمهورية المؤقت السابق) غازي الياور التخلي عن منصب الرئاسة لكردي ويقبل أن يكون نائباً ثانياً له؟! وما معنى أن تضع القائمة الشيعية والأكراد فيتو على هذا المرشح السني أو ذاك، بغض النظر عن السلطة الرئاسية التي ترشح لرئاستها، فيما تقبل بمرشح أو مرشحين آخرين؟!<BR><BR>في مطلع الشهر الجاري، اختارت الجمعية الوطنية في إطار المحاصصة الطائفية والعرقية حاجم الحسني رئيساً لها، وجاء اختيار الحسني السني المحسوب على الياور وقبله علاوي، والذي تلقى دراساته العليا في الولايات المتحدة لهذا المنصب، في إطار صفقة شيعية كردية اقتضت إبعاد مشعان الجبوري عنه، وقد تم تكبيله بنائبين، الأول هو حسين شهرستاني (الشيعي المحسوب على إيران)، والذي تحول بين ليلة وضحاها من عالم نووي إلى واحد من "الملالي"، والثاني هو الكردي عارف طيفور (المعروف بتطرفه وكراهيته للعرب والعروبة ونزعته الانفصالية الفيدرالية).<BR><BR>بعد يومين فقط ، وتحديداً في السادس من الشهر الجاري، اختارت الجمعية الوطنية في إطار ذات المحاصصة وسياق ذات الصفقة وبمباركة أميركية إيرانية، جلال الطالباني (زعيم حزب الاتحاد الكردستاني) رئيساً لجمهورية العراق المحتل، ولأول مرة في تاريخ العراق يتم اختيار كردي لهذا المنصب، وقد تم اختيار الشيعي عادل عبد المهدي، والسني غازي الياور نائبين له بالتتالي، علماً أن الياور كان رئيساً مؤقتاً للعراق في ظل حكومة علاوي المستقيلة، ورفض منصب رئاسة الجمعية الوطنية قبل أن يستقر الرأي على حاجم السني.<BR><BR>فور اختياره لملء أعلى منصب في السلطة العراقية المتجلببة بالعباءة الأميركية الإيرانية المشتركة، كلف الطالباني شريكه في سياسة المحاصصة الطائفية والعرقية إبراهيم الجعفري بتشكيل الحكومة المؤقتة الجديدة، التي يفترض أن يتم الإعلان عنها في الأيام القلائل القادمة بعد أن يستكمل الشريكان تقاسم الغنائم السياسية بشكل يرضي الأميركيين والإيرانيين قبل إرضاء الشيعة والأكراد، وبالطبع ستكون الفيدرالية وكركوك والنفط من أهم هذه الغنائم، ومن البديهي أن تتشكل الحكومة الجديدة في إطار المحاصصة وسياق ذات الصفقة وبمباركة أميركية إيرانية أيضاً، ومن المنتظر أن تعكس صورة جديدة من "العقاب" لأهل السنة، الذي تحول إلى عرف شيعي وكردي منذ انتخابات 30 يناير التي افتقدت أدنى درجات الشرعية.<BR><BR>الآن ومع حلول الذكرى الثانية لسقوط بغداد بقبضة الاحتلال وترتيب البيت العراقي وفق التوليفة الأميركية الإيرانية الجديدة، يمكن القول بأن الإدارة الإميركية تمكنت من ترسيخ ديمقراطيتها المزعومة في العراق، التي أرادت لها أن تكون نموذجاً يحتذى به في جميع الأقطار العربية! لكن واقع الحال يقول: إن هذه الديمقراطية لم ولن تجلب إلا الدمار والموت للعراقيين، وأنها ما تزال قصراً على منطقة صغيرة من العاصمة بغداد لا تتجاوز مساحتها بضعة كيلو مترات مربعة حلا لقوات الاحتلال الغاشمة أن تسميها "المنطقة الخضراء".<BR>ففي هذه المنطقة التي دنسها هذا الاحتلال في 9 أبريل 2003م، جرت انتخابات الجمعية الوطنية والرئاسية! فسلطة الاحتلال ورموزها درجوا على إجراء اجتماعاتهم داخل هذه المنطقة "الأكثر أمناً" في العراق وفق "شيفرات" معينة تفترض تغيير الأمكنة والأزمنة بأشكال مستمرة ووفق احتياطات من السرية التامة خوفاً من وصول ذراع المقاومة إليهم، وهو ما أكدته الصحافة العراقية المحلية التي جعلت من موضوع الأمن في "المنطقة الخضراء" موضوعاً للتندر والتهكم.<BR><BR>بترتيب البيت العراقي وفق التوليفة الأميركية الإيرانية مع دخول الاحتلال عامه الثالث، يتأكد أكثر فأكثر أن الإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش لم تكن في لحظة من اللحظات تسعى من خلال العدوان على العراق واحتلاله لنشر ألوية الحرية والديمقراطية والعدالة التي لطالما تبجحت بها ولم تزل، إنما لتحقيق الاستراتيجية الأميركية في الهيمنة والسيطرة على الوطن العربي انطلاقاً منه.<BR><BR>لكن رسوخ إيمان أهل السنة والوطنيين العراقيين يؤكد ما بُني على باطل هو باطل وإصرار المقاومة على تصعيد الكفاح والنضال حتى التحرير والاستقلال، كفيلان بدحر الإستراتيجية الأميركية وإفشال مخططاتها في الوطن العربي انطلاقاً من العراق.<BR><br>