حرب وقائية سياسية على سوريا
25 رمضان 1426

قام (المحقق الألماني) ديتلف ميليس في فجر يوم الجمعة 21/10/2005 بتسليم نسخة من تقريره إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ورغم أن وسائل الإعلام انتقت ما يناسبها من الإثارة والتشويق وفلان متهم، وميليس يقول هناك أدلة على تورط سوريا وهكذا شعارات من هذا النوع.<BR><BR>إلاّ أن التقرير نفسه كان رماديا وهناك مقاطع مهمة جداً ومفصلية لم يلتفت إليها أحد ونتساءل لماذا؟! هل لأنها لا تقطع بأنّ سوريا هي الفاعلة؟! هل لأنها لا تتناسب مع من قام بتسريب النسخة الثانية من التقرير والتي تحتوي على الأسماء؟! ومن هذه المقاطع الذي ذكرها ميليس في تقريره:<BR>"التحقيق يحتاج إلى أشهر أو سنوات للحصول على أدلة قاطعة..."، "لا يمكن معرفة القصّة الكاملة..ومن هم وراءها..ومن الذي قتل الحريري بشكل مباشر هكذا بسهولة... ولذلك فان البراءة مازالت ممكنة..."، "أن الصورة الكاملة للاغتيال يمكن رسمها فقط من خلال تحقيق موسّع وذي مصداقية يجري بطريقة مفتوحة وشفافة ترضي الدقة الدولية".<BR><BR>إذا المسألة لم تنته بعد، ومازالت الأمور في بداياتها ولكن على الرغم من ذلك فلم يرد أحد الانتباه إلى هذه الأمور المهمة.<BR>ويجب أن ننبه للجميع هنا أن التقرير ليس من مهمته اتّهام احد وليس من صلاحيته ذلك قانونيا وكل ما عليه فعله هو نقل الوقائع التي حصلت وتقديم الأدلة على الجهة التي يظن أنها متورطة، وبعدها تنشا محكمة تقول بالاتهام لجهات معينة غالبا تلك التي تكون واردة في التقرير ثم تبحث بالأدلة فيما إذا كانت صحيحة أو كاذبة أم غير كافية لإدانة المتهمين وما إذا كان المتهمون أبرياء أم تثبت عليهم الإدانة.<BR><BR>ولكن الذي حصل هو أن جهة ما (أمريكا وفرنسا بالتعاون مع لبنان) كان لديها تصورات مسبقة قامت بتسريب النسخة التي تحتوي على الأسماء والمعلومات، مع العلم أنه قد كتب عليه "سري للغاية" وسربوها عبر البعثة البريطانية لعدم إثارة الشبهات حول الجهة التي سربت الوثيقة ولإبعاد الاتهام عن أنفسهم وبذلك تكون قد حقّقت عدّة أمور من وراء ذلك من بينها أنّها أوهمت الناس ووسائل الإعلام بوجود أدلة قاطعة عن المتهمين طالما أن أسماءهم وردت في التقرير كما أنّها والأهم قد أوهمت الناس أن التقرير أدان السوريين وحكمهم، مع العلم أنّه وكما سبق وشرحنا أنّه ليس من مهمة اللجنة قانونياً إدانة أي أحد، وليس من مهمتها الحكم على أي أحد فهذه الأمور تكون في المرحلة الثانية، والتي يتم فيها تشكيل المحكمة سواء محلية أو دولية، ولكن الجميع راح يقول ثبتت على سوريا، وكنا نعلم أنها سوريا وإلى آخره من هذا الكلام.<BR><BR>نعم قد تكون هي الفاعلة ولكن ليس التقرير من يحق له أن يكون ذلك ولا يجوز تكوين صورة مسبقة وحكم مسبق عن الموضوع، فيما أصرت أمريكا على شنّ الحرب الوقائية الدبلوماسية ومن معالمها:<BR>1- التحضير المشترك الأمريكي الفرنسي لمشروعي قرارا في الأمم المتحدة لفرض عقوبات على سوريا فيما بعد، وهو ما يشير إلى وجود حكم مسبق لدى الطرفين.<BR>2- استغلال الأمريكيين للوضع واستخدام التقرير أداة للضغط على سوريا في مسائل ومطالب بعيدة عن موضوع التوصل إلى الحقيقة حول مقتل الحريري، حيث قال بوش للصحفيين: إنه طلب من (وزيرة خارجيته) كوندوليزا رايس الدعوة إلى عقد جلسة مجلس الأمن، مشيرا إلى أن التقرير أكد التورط السوري في اغتيال الحريري. (مع العلم كما شرحنا أن التقرير ليس حكما)<BR>3- خلق جو عام مشحون ضدّ سوريا لتهيئة الأجواء لتمرير ما يشاءون وقد تمّ ذلك عبر تسريب التقرير بواسطة البعثة البريطانية على الرغم من أن ّالتقرير وكما هو معروف للجميع وكما قال ميليس لم يكتمل بعد وهو ناقص ويحتاج كما قال بالحرف الواحد إلى أدلة قاطعة قد تأخذ "شهورا أو سنوات".<BR>4- عدم انتظار الرد السوري على الموضوع وعدم إعطاء الحق على الأقل لمن يٌعتقد انّه متّهم بالرد والتعليق على تقرير يمسّه ذاتيا قبل غيره، وفي ذلك نيّة واضحة لاستغلال التقرير إلى ابعد الحدود في حشر سوريا في الزاوية.<BR><BR>ونتصوّر أن استراتيجية الحرب الوقائية السياسية الأمريكية، ووفقا للنماذج التاريخية السابقة التي قامت بها، ستكون على الشكل التالي:<BR>أولا: الضغط الشديد سياسيا وإعلاميا على الخصم (في هذه الحالة سوريا) لدفعه للانصياع وتنفيذ ما يطلب منه دون تلكّؤ، وهذا ما حصل عبر القرار 1559.<BR><BR>ثانيا: توريط الخصم فيما بعد وإذا لم يستجب بالشكل المطلوب في ناحية قضائية (لجان دولية، قرارات دولية، اتهامات دولية) لتدويل الموضوع لكي يبدو وأنه حالة دولية وليست مسألة تتعلق بأمريكا وحدها، وهذا ما حصل في مسألة لجنة التحقيق.<BR><BR>ثالثا: إبقاء الباب مفتوحا لأية صفقات أو خدمات بالأحرى وبالتجاوب الكلي غير المشروط، وهنا في هذه الحالة نقول انّه قد تمّ تسريب الأسماء في تقرير ميليس للضغط على سوريا من اجل عقد صفقة، فإذا رفضت سوريا ذلك، فانّه قد يتم توسيع صلاحيات لجنة التحقيق الدولية لتشمل سوريا أيضا وقد يصار إلى استجواب مسؤولين سوريين في الخارج.<BR>وهنا يأتي دور مجلس الأمن في اجتماعه المقبل، حيث يتوقع أن يطلب من سوريا تجاوبا كليا وغير مشروطا وواضحا مع اللجنة الدولية في صلاحياتها الجديدة، فإذا استجابت سيطلب منها المزيد وإذا شعروا أن سوريا حسب رأيهم لا تتعاون سيتم الانتقال إلى الخطوة اللاحقة.<BR><BR>رابعا: في هذه الخطوة سيرجع إلى مجلس الأمن مرة أخرى وسيتم استصدار عقوبات أكثر صرامة ضدّ سوريا والعمل على عزلها دوليا.<BR><BR>خامسا: في هذه الأثناء تكون سوريا ضعيفة جداً، فإذا كانت الأجواء مهيأة لشن حرب أو استبدال نظام فسيتم فعل ذلك (وإن كنا نستبعد الوصول إلى هذه المرحلة) وإذا لم تكن الأجواء مواتية فسيتم الانتظار وفي هذا الوقت يكون النظام قد ضعف جدا بانتظار حلول أي بديل مكانه.<BR><BR>خلاصة القول في هذا الإطار، أن معرفة الحقيقة مفيد للجميع، لكنّ الولايات المتّحدة تأبى حتى الوصول إلى الحقيقة أو بالأحرى لا يهمها موضوع الحقيقة بقدر ما يهمها كيفية استغلال الحدث للحصول إلى المكاسب وتسجيل النقاط والضغط على هذه الجهة أو تلك لتحقيق مآربها، فالحذر كل الحذر من خلط الأوراق وفي النهاية تضيع الحقيقة ويتغير الواقع.<BR><BR><br>