الإنجيليون:الشق الديني من المشروع الأمريكي في المنطقة
5 ذو القعدة 1426

منذ سنوات قليلة، أضحت منطقة الشرق الأوسط -على وجه الخصوص- الإقليم المفضل لكل النشاطات التي تكتسي طابعا دينيا في واقع الصراعات السياسية العالمية أي ما يعني أن توظيف الوسائل الدينية صار أحد أهم المعطيات الجيوسياسية في المنطقة. <BR>إنه وفي الوقت الذي أضحى الإسلام العدو المفضل الذي لا تتردد كثير من الوجوه السياسية والوسائل الإعلامية في توجيه كل تهم الإرهاب نحوه، لا نكاد نلحظ أن أي واحد من هؤلاء السياسيين ولا أي عنوان من بين تلك العناوين الإعلامية الكثيرة التي يقال أنها تلبس رداء الحداثة، يتشجع على توجيه أي تهمة أو أن ينبس ببنت شفة بخصوص ضلوع تلك الطوائف البروتستانتية الجديدة "الإنجيليون" التي تلعب أدوارا رئيسية في تأجيج هذه الصراعات وجعلها تأخذ طوابع أكثر راديكالية.<BR>الإنجيليون، الذين ينتمون إلى التيار المسيحي المتصهين الذي بدأ الحديث عنه أول مرة منذ نهاية القرن التاسع عشر والذي يعتقد أن قيام دولة يهودية على أرض فلسطين هو ضرورة تمليها نبوءة الإنجيل، لا يساندون دولة الاحتلال بطريقة أخلاقية فقط لأن أموال المنتسبين إليها تساعد على ترحيل يهود روسيا وأوكرانيا نحو "أرض الميعاد" إذ على حسب الحاخام يشيل إكشتاين الذي يدير شئون إحدى أكبر وكالات جمع هذه "التبرعات" من قبل الإنجيليين الأمريكان فإن وكالته استطاعت أن تجمع في فترة سبع سنوات ما يزيد عن مبلغ 100 مليون دولار كهبات لصالح هذه الوكالة لوحدها مما يعني أن هذا المبلغ هين جدا بالنظر للعدد الذي لا يمكننا حصره من الجمعيات التي هي من شاكلة وكالة إكشتاين.<BR>في أكتوبر 2003، احتضن فندق الملك داوود في القدس -الغربية- اجتماعا ضم عددا من بين أكثر المتحمسين للمشاريع المتصهينة من الديانتين المسيحية واليهودية في حضور المسمى: رتشارد بيرل الذي كان يشغل خلال الفترة التي سبقت غزو العراق والأيام الأولى من تلك الحرب منصب رئيس مجلس سياسات الدفاع لدى البنتاغون إلى جانب منصب المستشار المقرب جدا من الرئيس بوش بالإضافة إلى عدد كبير من أكثر وزراء حكومة أرييل شارون نفوذا ولقد كانت مناسبة هذا اللقاء: "انتظار هبوط أورشليم السماوية الذي سوف يعقب اندحار الإسلام".<BR>هذا التيار يضم من الأعضاء ما يناهز رقم السبعين مليون منتسب في الولايات المتحدة لوحدها ويعتمد على مئات من القساوسة المبشرين المتفرغين لهذه المهمة، ولقد بدأ الآن في الانتشار المقلق في كامل القارة الأمريكية الجنوبية من خلال منظمة "اتحاد الإنجيليين في أمريكا اللاتينية" حتى أن الأخبار الواردة من ذلك الجزء من العالم تتحدث عن بلوغ المنتسبين لهذه النزعة الدينية الجديدة سقف الثلاثين مليون عضو في البرازيل لوحدها من غير أن ننسى سفر هذه "البشارة" عبر الباسيفيكي إلى اليابان وحتى إلى أفريقيا التي تجلت أوضح أمارات بلوغ هذه الموضة الدينية ترابها خلال النزاعات التي حدثت في دولة ساحل العاج في غرب القارة حين ظهر للعيان أن أنصار الرئيس غباغبو كانوا من بين هؤلاء وهذا ما يجعل في مقدورنا تفهم سبب معارضة فرنسا لهذا الرئيس بما أن فرنسا هذه تعتبر نفسها حامية العقيدة الكاثوليكية في العالم.<BR>لا يجدر بنا الاكتفاء بهذا لأن عقيدة الصهاينة الجدد تعرف حاليا انتشارا مريعا سريعا في أوروبا أيضا وحتى في الهند بواسطة "جمعية المبشرين الهنود" بل وحتى في الصين الشيوعية التي ظل الاعتقاد سائدا بأنها كانت حتى وقت قريب في مأمن من هذه الأمواج الروحية الطارئة.<BR>في المنطقة الإسلامية بوجه عام، يرتكز نشاط الإنجيليين على ثلاثة مظاهر:<BR>- الدعاية المعادية للإسلام والتي تتوفر على مقدرات ووسائل هائلة وهدفها: إلصاق كل الشرور التي يعرفها العالم بهذا الدين والمؤمنين به ومن هنا يمكننا أن نفهم سبب إصرار هؤلاء وحلفائهم من المحافظين الجدد على ربط الإسلام بالمفهوم الجغرافي بمعنى جعله في الحقيقة ما في مقدرونا نعته "منحًى" لمحور الشر ويكفي هنا قولنا بأن أحد أفضل أهدافهم حاليا هي المملكة العربية السعودية التي يشنون ضدها حملة شرسة أبرز ملامحها قيامهم بتشجيع جهات محددة لغرض إيقاع الشقاق الديني داخل النخب السياسية والاقتصادية والدينية في بلاد الحرمين الطاهرة.<BR>- استعمال الطوائف المسيحية العربية في المنطقة وتوظيفها في فلسطين وسورية والعراق وأما في لبنان الذي بات يمثل أشهى طبق يمكن البدء به فلقد صار تقليدا أن يزروه سنويا في فصل الصيف، مبشرون إنجيليون يجوبون أرجاءه وفق خط سير يتم رسمه بالتنسيق مع سفارة الولايات المتحد هناك حيث تقوم مجموعات من الشباب بتنظيم حفلات ومهرجانات ولقاءات على الشواطئ اللبنانية لتشجيع الشباب المسيحي اللبناني الماروني بوجه خاص على الانتماء إلى الطائفة الإنجيلية بواسطة تمنيتهم بأنه سوف يتم التكفل بهم وبدراساتهم وحتى منحهم تأشيرات السفر إلى الولايات المتحدة وكل ما يمكننا تصوره من خدمات ومغريات أخرى. إن هذه الإرساليات تمارس أيضا نفس النشاط في سورية ولكن بطريقة أكثر إثارة هناك بالنظر للوسائل الحازمة التي تمارسها السلطات السورية وأما في العراق فإن المبشرين الإنجيليين وصلوا، مثلهم مثل سادة العراق الجدد، فوق المدرعات والدبابات الأمريكية الغازية وصاروا يمثلون هم أيضا تروسا يمكننا مصادفتها في الشوارع العراقية بشكل ملفت ويعملون على إيجاد تحالف بين الغزاة والمسيحيين من أهل البلد وتحويلهم من عقيدتهم الشرقية التقليدية وضمهم إليهم مما يعني حملهم على تشكيل طوائف تعمل على الانفصال مستقبلا وأما الوسائل فهي دائما نفسها: التكفل بهم وبأبنائهم أي خلق وظائف لهم ورعاية أسرهم. لا يجب أن ننسى هنا التطورات الأخيرة التي عرفتها أرض الكنانة مصر من خلال ما تناقلته وسائل الإعلام عما اصطلح على تسميته "أحداث الإسكندرية" التي لا يجب علينا أن نظن أنها حدثت هكذا عرضا.<BR>- أما المظهر الأهم من بين هذه فيتعلق بنشاطات تحويل المسلمين أنفسهم عن دينهم فإستراتيجية التنصير التي تنتهجها الولايات المتحدة والتي تستهدف الشعوب الإسلامية بلا استثناء ترتكز على شبكات عالمية منظمة ولكنها أيضا تعتمد على خطاب إنجيلي خاص بمعنى أنها لا تجنح كثير إلى معارضة القرآن الكريم إدراكا منها بأن المسلمين يعتقدون أن قرآنهم أكبر من أن تدحضه خرافات تنسجها عقول هؤلاء. إن هذا معناه أن المبشرين الإنجيليين في البلاد الإسلامية لا يهدفون كمرحلة أولى سوى إلى إحداث فجوات الشك العقلي لدى بسطاء المسلمين ولا يتطرقون إلى نقد النص القرآني إلا في مراحل متأخرة من عمليتهم. وهنا أيضا ينبغي التذكير بأن هذه الحملات تستهدف حاليا بعض تلك الإثنيات التي تعيش في المجتمعات الإسلامية والتي تنتمي إلى جذور مغايرة للعنصر العربي الذي هو عماد الإسلام بغية العمل على خلق حركات ستكون مطالبها من نفس مطالب باقي "المهتدين الجدد": الانفصال والاستقلال. هذه هي الحالة مع الأكراد في العراق وسورية وهي أيضا نفس الحالة مع البربر في كل من الجزائر والمغرب الأقصى.<BR>كتبت اليومية الجزائرية الصادرة باللغة الفرنسية "الوطن" في أحد أعدادها المتأخرة ما ترجمته: "إن التنصير -التبشير الإنجيلي في هذه الحالة- في منطقة القبائل هو جزء من إستراتيجية منظمة وممولة أمريكياً هدفها الشعوب الإسلامية على وجه عام، ففي الجزائر يستثمر الإنجيليون الميادين الإنسانية ويختارون طرائدهم من بين الأشخاص الأكثر حرمانا فلقد أفادتنا الأخبار أن كل متنصر هناك يتلقى "علاوة" قدرها 2000 دينار جزائري -ما يعادل 30 دولار أمريكي-". هذا ما يتعلق بمنطقة القبائل وأما منطقة قسنطينة تلك المدينة المليونية حاضرة الشرق الجزائري فآخر الأخبار تتحدث عن قيام الكنيسة البروتستانتية فيها باستهداف تلامذة الثانويات لأنها أعلنت أنها قررت منحهم رعاية تعليمية مجانية وزيادة على تلك الدروس، تلقى هؤلاء التلاميذ أقراصا مضغوطة وكتبا تحوي نصوصا تبشيرية إنجيلية بطبيعة الحال. <BR>هذا حال الجزائر وأما حال المغرب فلقد تواترت الأخبار الآن على أن أعدادا غير معروفة من المنظمات الأمريكية صارت تنشط بشكل سري أو علني، حسب الظروف، في المناطق الفقيرة المحرومة داخل تراب المملكة المغربية وحتى في بعض المدن الداخلية الهامة كما هو الحال مع مراكش العريقة فمنظمة كتلك التي تسمى "إرساليات العالم العربي" تعلن أن شعارها هو: "إعلام المسلمين في العالم العربي بالبشارة المتعلقة بقرب وصول منقذهم" ولقد تضاعف عدد أعضائها حاليا ثلاثة مرات منذ العام 2002 وصار يبلغ رقم الثمانمائة ناشط تتعدد صورهم إذ يمكن أن تجد من بينهم: الطبيب والممرضة والمهندس ومناضل حقوق الإنسان والمدرس وحتى المقاول المستثمر.<BR>في بداية العام الحالي، 2005، زار المغرب المبشر التلفزيوني جوش ماكدويل ممثلا عن التنظيم الذي يسمى: "الحملة الصليبية الدولية من أجل المسيح" والتي تضم عبر العالم أكثر من 7000 ناشط مما حدا بالأسبوعية المغربية الصادرة باللغة الفرنسية "ماروك إيبدو" إلى التعليق على تلك الزيارة بالقول: "البروتستانت الأمريكان الجدد يغزون المغرب".<BR>إن هذا النشاط الذي يزعم أن هدفه تنصيري هو في الواقع بعيد كل البعد عن المرامي الدينية التي من عادتها ألا تحمل برامج سياسية بين جنباتها أو هكذا يفترض، تموله حكومة الولايات المتحدة من غير الحاجة إلى قولنا أن هذه الأخيرة لا تحركها مشاعر وأحاسيس دينية صادقة لأن الهدف غير المعلن من وراء كل هذا لا يعدو أن يكون خلق مناطق صدع داخل البلدان العربية والإسلامية -أعتذر هنا عن عدم إيراد أمثلة عن النشاطات في غير البلاد العربية حتى لا تتشعب الحكاية- وأما هدفها اللحظي فهو تأجيج مفهوم صراع الحضارات الذي طورته مراكز الفكر الأمريكية -ثينك تانكس- وفق مفاهيم واقع عالم ما بعد 11/9 وكل هذه الأعمال تصب ببساطة شديدة ضمن إناء واحد: سعي الولايات المتحدة إلى إعادة تشكيل المنطقة وجعل الهيمنة الأمريكية واقعا يرادف لغويا مصطلحي الحداثة والحرية. <BR><BR><BR> <br>