القرن الإفريقى.. الخطة الأمريكية لمحاصرة العالم الإسلامى
8 صفر 1428

<font color="#0000FF"> مقدمة: </font><BR>منذ أن تفككت الخلافة الإسلامية وانقسمت أقطارها ـ عبر آليات وبحسابات وتوازنات قوى الغرب المسيطرة ـ إلى دول قومية "مستقلة"، ودول العالم الإسلامى تحمل فى عناصر بنائها ـ فى معظمها ـ أسباب وكوامن التوترات والصراعات والتدخلات الأجنبية، فهى دول بحكم بنيتها الشائهة، لا تستطيع أن تحقق لمواطنيها، أو الغالبية العظمى منهم، المتطلبات الأساسية.. الأمن.. ضروريات الحياة.. القبول العام للحكام.. القبول الإقليمى والدولى الضرورى.<BR>وافتقاد الدولة القومية فى العالم الإسلامى لبعض هذه العناصر أو معظمها، يجعل منها دولا مفككة، أو دول قابلة للتفكك، كما يعطى للتدخلات الخارجية تأشيرة دخول دائمة غير قابلة للإلغاء.<BR>وقد تغيرت أوزان القوى الخارجية عبر التطورات والأحداث التاريخية المتلاحقة، وعبر نتائج الحروب الكبرى بين قوى الهيمنة العالمية، كما تغيرت على المستوى الإقليمى، فشهدت هذه "الدولة" أو تلك تغيرات فى التحالفات والعداءات تصل فى انقلاباتها وتغيرها إلى حدود الملهاة والسخرية.<BR><font color="#ff0000">والمفهوم الأهم الذى نريد تثبيته فى هذه المقدمة التى فرضت نفسها علينا.. هو أن هذه الحالة المشوهة بنيويا للدولة القومية فى العالمين العربى والإسلامى، لم تنعكس فقط على علاقات الدولة مع الدول المماثلة إقليميا، ولم تقتصر على علاقات هذه الدولة بالمجتمع الدولى وقواه الرئيسة فحسب... بل أنها لعبت دورا أساسيا فى بناء وتحديد علاقات وانتماءات وصراعات القوى داخل مجتمعات الدولة القومية الواحدة، سواء اتخذت أشكالا مذهبية أو عقائدية أو عرقية أو قبلية أو سياسية.. والأمثلة على صحة ودقة هذا الاستنتاج لا تقع تحت حصر، بل لا يكاد يخرج من إطارها ظاهرة من ظواهر الصراعات فى المنطقة، أيا كان حجمها، أو إطار المشاركة فيها محليا أو إقليميا .. أو عالميا. </font><BR><BR><font color="#0000FF"> القرن الإفريقى تاريخ الصراع وتحولاته</font><BR><BR>القرن الإفريقى ونعنى به هنا الدول الواقعة والمطلة على ذلك النتوء الشرقى الاستراتيجى الموقع فى وسط شرق القارة الإفريقية وهى..الصومال .. جيبوتى.. إريتريا.. السودان.. إثيوبيا، هذه الرقعة الجغرافية التى شهدت طوال مئات السنين تواصل وتلاحم مع العرب والمسلمين، والذى أفرز جنسا من البشر يمثلون اختلاط الجنس السامى العربى بالجنس الحامى "الزنج"، عبر الهجرات من جزيرة العرب، ورحلات التجارة، ثم بعد رسالة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم أضيفت الرابطة الدينية.. شهدت أيضا باكورة الهجوم الغربى الاستعمارى على دولة الخلافة الإسلامية، كما شهدت تقسيما لا يعكس سوى توازنات القوى بين معسكر المنتصرين ومصالحهم فى القارة الإفريقية، بصرف النظر عن الروابط بين البشر على هذه الأرض، أو التكوينات القبلية والعرقية فيها.<BR>ففرنسا حطت رحلها على أرضه الصومال عام1872واحتلت ما يسمى اليوم بـ "جيبوتي"،ولحقتها بريطانيا فاحتلت ما أطلق عليه الصومال البريطاني،واستولت إيطاليا على البقية المتبقية، <font color="#ff0000">وبعد مدة من الزمان أهدت إنجلترا إلى إثيوبيا إقليم"أوجادين"الذى يبلغ عدد سكانه خمسة ملايين جميعهم مسلمون ، كما تركت الإقليم الشرقى لكينيا رغم أن سكانه عبروا عن رغبتهم بالانضمام إلى الصومال في الاستفتاء الذي أجري قبل استقلال كينيا (إعمالا لمبدأ حق تقرير المصير) إلا أنها لم تستجب لنتائجه وسلمته لكينيا،وما تزال النجمة الخماسية فى العلم الصومالى ترمز لهذه الأقاليم الخمسة. </font><BR>وقد أنتجت عمليات البتر واللصق الاصطناعية الاستعمارية تشكيلات متنافرة فى الدول "القومية" التى أنشأتها على أنقاض دولة الخلافة الإسلامية، والتى خرجت فيما بعد الحرب الاستعمارية العالمية الثانية من حالة الاحتلال المباشر، إلى حالة ما سمى بالاستقلال الوطنى للدول القومية فى العالمين العربى والإسلامى، والتى بدأت معها فى ذات الوقت، حالة التناحر بين الدول القومية حديثة "التحرر" على السيادة الإقليمية <font color="#ff0000">من جهة، ومن جهة ثانية</font> بدأت التناحرات الداخلية فى معظم هذه الدول بين الأعراق والقبائل والمناطق للهيمنة على مقاليد السلطة فيها.. والتى كان جاهزا للوثوب عليها الفئات المتميزة فى الحقبة الاستعمارية.. <font color="#ff0000">ومن جهة ثالثة</font> بدأت الاستقطابات الإقليمية والدولية لهذه الدول وقواها الاجتماعية الداخلية من قبل قطبى الصراع فى الحرب الباردة، وكذلك من الدول الإقليمية الكبيرة والمحورية.<BR>ومنذ سقوط الاتحاد السوفييتى، ونهاية الحرب الباردة بين القطبين، بدأت أمريكا تولى عناية متزايدة بمنطقة القرن الإفريقى، والتى سبق وأن قدم لها فيها التغلغل الصهيونى، وشهدت المنطقة العديد من عمليات خلخلة النفوذ التقليدى للدول الأوروبية، لإحلال النفوذ الأمريكى بمشاركة نشطة صهيونية محل النفوذ الروسى السابق، وكذلك النفوذ الأوروبى، وأيضا مناطق النفوذ التاريخى لبعض الدول العربية والأمثلة على الحالات الثلاث كثيرة.. من أثيوبيا منجستو.. إلى اليمن الجنوبى عبد الفتاح إسماعيل.. إلى صومال سياد برى.<BR>وهكذا يصبح القول بأن العامل الدولى يمثل المفتاح الرئيسى لفهم مجريات وتطورات كثير من الأحداث التى شهدتها منطقة القرن الإفريقى قولا صحيحا سواء فى التاريخ القديم أو المعاصر، أو حاضر ما بعد أحداث 11 سبتمبر، والتى مثلت بداية انتقال الاستراتيجية الأمريكية إلى اعتماد القوة الصلبة وسيلة رئيسة وأساسية لحسم سيطرتها على مقدرات العالم، من جهة، ولمنع أى من القوى الصاعدة من الوصول إلى مرتبة القطب المتساوى واستمرار العالم الأحادى القطب، عملا بمقولات مخططيها ومنظريها الاستراتيجيين عن نهاية التاريخ ونهاية الأيديولوجيا من جهة أخرى.<BR><BR><font color="#0000FF"> القرن الإفريقي .. الموقع والنفط والصراع الدينى</font><BR><BR> يقع القرن الإفريقي على النتوء الشرقى لساحل وسط إفريقيا، ذو الأهمية البالغة لشركات النفط العالمية لقربه من منابع بترول الخليج، ولتحكمه فى المدخل الجنوبي للبحر الأحمر ، إضافة لثرواته الدفينة وغير المستغلة من المعادن النفيسة والاستراتيجية، ومنها النفط المكتشف بكميات إقتصادية، ويبلغ حده البحري10.320كم شرق الصومال،وجيبوتي. <BR>ويسكن القرن الإفريقى شعوبا جلها من المسلمين، وفيه تقع الدولة المركز للمسيحية الإفريقية "إثيوبيا" ويحدثنا التاريخ عن انتصار الصومال على الأحباش عام 1515 ميلادية، ولجوء الأحباش للأوروبيين لنصرتهم، حيث خف لمساعدة الأحباش البرتغال التى بعثت بقواتها إلى السواحل الصومالية على الفور وأنهت التوغل الصومالى فى الحبشة..<BR>وكما قلنا فقد أعد الاستعمار مسرح منطقة القرن الإفريقى، لحالة من التوتر الدائم، حين اقتطع "أوجادين" من الصومال لأثيوبيا، وقد أنتج هذا العديد من الحروب بينهما.. وكذلك إقليم "النفد" الذى اقتطع من الصومال لصالح كينيا، كما اقتطعت جيبوتى لتصبح قاعدة معزولة عن الوطن لخدمة القوات الغربية المتمركزة لخدمة المخططات الغربية فى إفريقيا ومنابع البترول. <BR>فالمصالح الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية، والبعد التاريخى للصراع بين الكنيسة الغربية والإسلام فى إفريقيا، والتكوينة المشوهة للدول القومية فى القرن الإفريقى والدول المجاورة، كل هذا يتجمع فى تلك المساحة من القارة السمراء، ليوجد ظرفا نوذجيا للصراعات والتمزق والتدخلات .. بل التحكمات الخارجية. <BR><BR><font color="#0000FF"> سياسة أمريكا فى القرن الإفريقى</font><BR><BR><font color="#ff0000">منذ أحداث 11 سبتمبر، وما أعقبها من إعلان أمريكا ما أسمته الحملة العالمية على الإرهاب، احتلت منطقة القرن الإفريقى مكانة متقدمة فى أولويات السياسة الأمريكية بشأن المناطق المطلوب السيطرة عليها كمواقع ومراكز حشد ومراقبة، فى إطار خطة تطويق العالم الإسلامى.. </font> والذى يمثل وفقا لـ"هانتنجتون" العدو في القرن الواحد والعشرين، تلك الخطة التى اتخذت أشكالا متعددة.. إعلامية وسياسية واقتصادية.. قبل أن تتخذ شكلها العسكرى بدءا بالحملة العسكرية التى قادتها على أفغانستان، أو لحصار المناطق المتصور وجود قواعد وأنصار لتنظيم القاعدة بها، والتى أشارت كثير من التصريحات والتحليلات الغربية إلى تركزها فى دول شرق أفريقيا.<BR>وقد وجدت أمريكا فى الاتفاقات الثنائية الموقعة سابقاً مع كل من كينيا وأثيوبيا وأوغندا بشأن التعاون الأمني والعسكري، المدخل لتكثيف الوجود الأمريكي في تلك البلدان، علاوة على اختيار جيبوتى لتكون مركز دائرة تغطي جانبي البحر الأحمر الإفريقى منه والآسيوى، وقد أعلن الأسبوع الماضي (19/2/2007 تحديداً) رئيس وزراء جيبوتي ديليتا محمد ديليتا استعداد بلاده لاستضافة مقر القيادة العسكرية الأمريكية الخاصة بإفريقيا والتي كان البنتاجون قد كشف عن إنشائها في وقت سابق.<BR>وكانت وزارة الحرب الأمريكية قد أعلنت قبل أقل من شهر إنشاء قيادة إقليمية خاصة بإفريقيا على غرار القيادة الوسطى الخاصة في الشرق الأوسط وقيادة المحيط الهادئ وقيادة أوروبا، وقال: إنه يجري مشاورات لاختيار مكان إقامتها.<BR>واختيار جيبوتي لإقامة هذه القاعدة يمثل تغيرا استراتيجيا فى الأمن القومى العربى ( أمن البحر الأحمر ) ، بعد تغير أكثر خطرا حدث فى أمن الخليج العربى، وكلاهما يأتى فى إطار خطة حصار العالم الإسلامى حيث يشكل تقويضا للخصوصية العربية والإسلامية لهذا البحر وذلك الخليج. <BR>كما يمثل إقامة هذه القاعدة فى جيبوتى.. التى توجد فيها أكبر قاعدة فرنسية في الخارج.. مؤشرا جديدا على مدى الاتفاق الأمريكى الأوروبى فى لعبة تقسيم الأوراق فى مواجهة العالم الإسلامى، ودليلا على التراجع الشديد فى الدور الأوروبى، حتى فى مناطق نفوذه التقليدية، وخاصة بعد تراجع السياسة الخارجية الفرنسية والألمانية عن مناوأة التوجهات الأمريكية للسيطرة على القرار فى الشؤن العالمية والانفراد به.<BR>وبالمقابل فقد منحت أمريكا للحليف الأصغر "أوروبا" أدوارا فى مناطق أخرى ـ فى إطار خطة التطويق، حيث منحت ألمانيا القيادة العامة لقوات التحالف المسئولة عن مراقبة الأوضاع فى تلك المنطقة، وأقامت ألمانيا قاعدة عسكرية لها فى جيبوتى إلى جوار القاعدة الفرنسية القائمة هناك منذ "استقلال" جيبوتى. وكذلك انضمت قوات أسبانية إلى القوات الألمانية فى جهود المراقبة فى تلك المنطقة التى تتبع تقليدياً النفوذ الفرنسى، ولم تبد فرنسا اعتراضاً على ذلك باعتبارها شريكا "فى الحملة العالمية ضد الإرهاب"، وقد تلا ذلك قيام الولايات المتحدة الأمريكية بإرسال قواتها إلى جيبوتى لتكون مقراً لرئاسة أركان التحالف الدولى فى المنطقة والتى يقع عليها مسئولية مراقبة دول جانبى البحر الأحمر، حيث بلغت القوات الأمريكية مع مطلع عام 2003 فى جيبوتى نحو تسعة آلاف فرد، بالإضافة إلى ألف فرد من (المارينز) وذلك قبل الحرب ضد العراق، فى حين لم يزد عدد القوات الفرنسية عن ألفى فرد والألمانية عن ألف فرد، علاوة على بعض القوات البريطانية والأسبانية بأعداد ضئيلة، وتعتبر تلك القوات الدولية على أرض جيبوتى الأكبر من نوعها التى شهدتها دولة أفريقية منذ "الاستقلال". وتجدر الإشارة إلى أن تعاون جيبوتى لم يتوقف عند حد استقبال القوات الأمريكية والدولية حيث وافقت على افتتاح محطة إرسال إذاعة صوت أمريكا فى أراضيها، كما تدفقت عليها أنظمة تسليحية متقدمة.<BR>ومن جانبها، حددت الولايات المتحدة الأمريكية أن هدف قواتها الموجودة بالمنطقة إجراء مسح منتظم للسواحل لضمان عدم تسلل أى من العناصر "الإرهابية" والحيلولة دون حصولهم على ملاذ آمن.<BR><BR>أما إريتريا فقد شهدت فى عام 2002 سلسلة من الزيارات العسكرية الأمريكية، كان أبرزها زيارة تومى فرانكس قائد القيادة المركزية وقتها فى مارس، وزيارة وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد فى ديسمبر، والتى التقى خلالها بالرئيس الإريترى أفورقى، وبحثا خلالها السماح للقوات الأمريكية باستخدام المنشآت العسكرية والموانئ والمطارات الإريترية، وتبادل المعلومات "فى مجال مكافحة الإرهاب"، وجاءت تلك الزيارة فى إطار الجولات التى قامت بها الوفود الأمريكية لدول المنطقة المختلفة التى شملت كينيا وأوغندا وإثيوبيا، تحت عنوان تنسيق الجهود لمكافحة الإرهاب فى شرق أفريقيا. وقد اجتمع الرئيس جورج بوش بكل من الرئيس الكينى دانييل أراب موى ورئيس الوزراء الإثيوبى ميليس زيناوى أثناء زيارتهما لواشنطن فى ديسمبر 2002 فى لقاء ثلاثى تناول سبل تدعيم التعاون ، حيث أعلنت الإدارة الأمريكية أنها سوف تقوم بتغطية التكاليف المادية والمالية اللازمة لمكافحة الإرهاب لهاتين الدولتين باعتبارهما لا تملكان الموارد اللازمة لهذا الغرض. وقد شهدنا تطبيقا عمليا لهذه التفاهمات فى الهجوم الأثيوبى الأخير على الصومال لمساندة سلطة أمراء الحرب، جنبا إلى جنب مع القوات والطائرات الأمريكية.<BR>وكما قلنا من قبل فى مقدمة هذه الإطلالة .. فإن التكوين الشائه للدولة القومية في منطقة القرن الإفريقى، هو تكوين جاهز دائما للتوظيف من الخارج، ففى الوقت الذى تمت فيه زيارة الرئيس الكينى والأثيوبى لواشنطن، كانت مناورات مشتركة أمريكية ـ كينية فى البر والبحر فى شرق أفريقيا تجرى على قدم وساق، بينما كانت أمريكا تضغت على أراب موى، بإعلان رفضها تغيير نص الدستور الكينى الخاص بتحديد رئاسة الدولة مرتين متتاليتين فقط، بما يعنى عدم السماح لـ موى بالترشيح للرئاسة مجددا، بينما ضغط الكينى من جانبه بإعلان السلطات الكينية أنها لم تعثر على إية صلة لـ"القاعدة" أو الجماعات الصومالية فى تفجيرات مومباسا، ردا على التصريحات الصهيونية والأمريكية باتهامهما، ومع ذلك فقد استثمر الحادث فى القيام باعتقالات واسعة لم تطل غير المسلمين فى كينيا. <BR><BR>وفى السودان، ألقت الولايات المتحدة الأمريكية بثقلها كاملا خلف دول (الإيجاد)، لمحاصرة الدور العربى والإسلامى الذى تمثل فى المبادرة المصرية الليبية. وشهد عام 2002 توقيع اتفاق وقف إطلاق النار فى جبال النوبة بين الحكومة السودانية والجيش الشعبى لتحرير السودان، والذى كان قد تم التوقيع عليه فى يناير بسويسرا لمدة ستة أشهر، تم تمديدها لمدة أخرى فى ظل عمل اللجنة الدولية المشرفة على التنفيذ. وشهد العام كذلك ولأول مرة لقاء عمر البشير وجون جارانج ، وهو اللقاء الذى استضافته العاصمة "الأوغندية كمبالا" فى يوليو، وذلك فى إطار مباحثات بين الحكومة والحركة استضافتها "كينيا". وقد مارست أمريكا كل أنواع الضغوط والتهديد على الحكومة السودانية أثناء تلك المفاوضات، والتى أسفرت عن اتفاق مبادئ عرف باسم اتفاق ماشاكوس، حيث شهد شهر أكتوبر توقيع الرئيس الأمريكى القانون الذى أقره الكونجرس بفرض عقوبات على السودان إذا ثبت أنها غير جادة فى مفاوضاتها مع حركة التمرد، كما أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية تجميد الأرصدة المالية لاثنتى عشرة شركة سودانية دون إبداء أى تفسير لقرارها، ولم يكن هناك من هدف لهذه الضغوط سوى إخضاع الحكومة السودانية لشرط التصويت على الانفصال بعد مدة زمنية، وهو ما يمثل هدفا استراتيجيا، وحكم ذاتى شبه مستقل يسمح للجنوب بالاحتفاظ بكل مظاهر الدولة بعيدا عن حكومة الخرطوم تدعيما للنزوع الانفصالى.<BR>ومرة أخرى، وللتأكيد على مفهوم صلاحية التكوينات التى نتجت من التقسيم الاستعمارى للدول القومية، للاستخدام من القوى الخارجية .. فقد دعت أمريكا وفدا من تجمع المعارضة السودانية للقيام بزيارة "رسمية" خلال شهر نوفمبر 2002 لبحث أمر الجولة التالية من مفاوضات ماشاكوس بين الحكومة السودانية والمعارضة والتى عقدت فى يناير 2003. وذلك قبل أن تعقد اجتماعا لممثلى الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان فى ديسمبر 2002 للتمهيد لاستئناف مفاوضات السلام.<BR><BR><font color="#0000FF"> الدور الصهيونى فى القرن الأفريقى بين الاستقلال والاستغلال</font><BR><BR>نحرص فى هذه الفقرة على الابتعاد عن المعلومات المتداولة عن التغلغل الصهيونى فى إفريقيا عموما، وفى الشرق والجنوب الإفريقى بالذات، وفى القرن الإفريقى خاصة، فالدراسات فى هذا الباب كثيرة ومتوفرة، وهى قضية أمن استراتيجية بالنسبة للكيان الصهيونى، فهى مسألة تتعلق بعمق استراتيجى يفتقده الكيان فى كل محيطه الجغرافى، من ناحية، وتعطى للبحر الأحمر صفة عربية وإسلامية خالصة من ناحية أخرى.. وقد مارس خلالها العديد من الصراعات والعمليات المخابراتية فى مواجهة المحاولات المصرية لتأمين منابع النيل والعمق الاستراتيجى الإفريقى لمصر.. وحسبنا فى هذه الفقرة توضيح العلاقة بين الأهداف الصهيونية ونظيرتها الأمريكية فى القرن الإفريقى، ومدى ترابطهما، ومدى استقلال أو تبعية النشاط الصهيونى فى القرن الإفريقى للقرار الأمريكى.<BR>ولابد من الإقرار فى هذا الصدد أن الوعى الصهيونى بالأهمية الاستراتيجية للقرن الإفريقى سبقت كثيرا الاهتمام الأمريكى المؤثر به، وأن الخبرة الصهيونية فى المجال الإفريقى تفوق نظيرتها الأمريكية، وأن النفوذ الصهيونى فى الدول الإفريقية ـ وإن كان مرتبطا بدول خاضعة للنفوذ الأوروبى القديم ـ إلا أنه يتمتع باستقلالية وقوة حقيقيتين فى هذه البلاد، ويعد حجم التبادل التجارى بين الكيان الصهيونى والقارة الإفريقية مؤشرا هاما لتوضيح قوة النفوذ الصهيونى، الذى يكاد يحتكر مثلا تجارة الماس الإفريقى.<BR>ويمكن القول أن النفوذ الصهيونى السابق للاهتمام الأمريكى بالقرن الإفريقى، يعطى للكيان الصهيونى مكانة مفروضة فى المخططات الأمريكية لهذه المنطقة، ويمثل فى ذات الوقت ورقة ضغط معتبرة على الشريك الأوروبى، وهو وضع يسمح للمخطط الصهيونى أن يتمتع فى إدائه بدرجة عالية من الاستقلالية، كما يسمح له باستغلال هذه الوضعية المتميزة للكيان فى الخطة الأمريكية، لممارسة الضغوط على الحليف الأمريكى فى غير موضع.<BR><BR><font color="#0000FF"> والخلاصة</font><BR>ونخلص من العرض السابق إلى عدد من الاستنتاجات حول مستقبل الصراع فى القرن الإفريقى والسياسة الأمريكية فيه:<BR>1 ـ أن الصراع فى القرن الإفريقى له أسبابه التى زرعها المستعمرون منذ زمن طويل، وأن استخدام هذه الأسباب فى اشعال المنطقة كلما احتاجت المصالح الاستعمارية ذلك، هو أمر وارد دائما.<BR>2 ـ أن حالة الغياب والتقصير العربى والإسلامى عن أحداث القرن الإفريقى (رغم بعض المحاولات الفردية من بعض الدول)، تمثل خلالا استراتيجيا ، ليس فقط على مستوى الدول القومية القائمة، ولكن والأهم على مستوى التوازنات الاستراتيجية للأمة.<BR>3 ـ أن تناقضا بين التوجهات الأمريكية فى القرن وبين حلفائها الأوروبيين قد أصبح أكثر بعدا عن ذى قبل (وإن كانت هناك أقطابا أخرى عائدة أو صاعدة ـ روسيا والصين) بدأت فى مناوأة الانفراد الأمريكى بالمنطقة.<BR>4 ـ أن البعد الدينى للصراع والذى دفع بالبعض من الدول العربية إلى التصدى لبعض المواقف الأمريكية الفجة يتزايد، وقد تجلى هذا فى الحرب الأثيوبية الأخيرة على الصومال، وما تبعها من محاولات تنصير، وما حملته هذه الحملة من معانى التجاوز على ثوابت التوافق بين دول المنطقة وأمريكا.<BR>5 ـ أن السياسة الأمريكية .. وإن أخضعت الشركاء الأوروبيين .. إلا أنها تكتسب المزيد من المناهضين فى كل ساعة، وقد تعجل النتائج المأساوية للعدوان على العراق وأفغانستان بجهود هؤلاء المناهضين، ما يؤدى بالمخطط الأمريكى إلى عزلة قاتلة.<BR>6 ـ أن الحالة فى القرن الإفريقى هى نتاج توازنات قوى عالمية قد انتهت، وأن حالة السيولة السياسية على الساحة العالمية هى ظرف موات لمعالجة آثار وأمراض الفترة الاستعمارية، فى حالة توحد موقف عربى وإسلامى للدفاع عن مصالح الأمة والعقيدة، متجاوزا الأهداف المحدودة للأقاليم الوطنية.<BR>7 ـ أن ما يحدث فى القرن الإفريقى يمثل حلقة فى الحصار الذى تهدف أمريكا إلى إحكامه على العالمين العربى والإسلامى، تحت لافتة "مكافحة الإرهاب"، وهى حلقة مفصلية من حلقات الحصار إذا لم يتم تداركها والتصدى لها، فقد تؤدى إلى خلل عميق وبعيد المدى فى موازين القوى، على الأقل من حيث الأبعاد الاستراتيجية لجبهة العالمين العربى والإسلامى.<BR>وأخيرا فإن ما هو مطروح اليوم على ساحة القرن الأفريقى، والتركيز الأمريكى الشديد على هذه الساحة، إنما يمثل مؤشرا معتبرا على حقيقة أن إفريقيا هى المرشحة بقوة، لأن تكون ملعب الصراع القادم المفتوح بين الأقطاب الصاعدة فى عالم متعدد الأقطاب قادم ... لا محالة . <BR><br>