
في وسعنا أن نتفهم موقف الحكومة اللبنانية حينما تجادل أنه في غير وسعها تقبل احتمال أن يتعرض أفراد من جيشها النظامي إلى الهجوم و القتل بل و الذبح أيضا على حسب ما أفادت به التقارير من قبل مجموعة ذات انتماءات 'ضبابية' و أيديولوجية أظهرت خطورتها في أكثر من مرة إذ إن الجيش اللبناني رغم أي معطى إضافي، هو آخر معاقل الوحدة الوطنية في هذا البلد العربي المنهك و الذي تتجاذبه ضغوط دولية و إقليمية عسيرة على العد. لقد لقيت ردة فعل الجيش في البداية قبولا بل و دعما غير مفاجئ حتى من قبل الفصائل الفلسطينية المتواجدة هناك لأن هذه الأخيرة ببساطة، لا ترغب لحد الساعة على الأقل، أن تتدخل في الخلافات المستعرة بين الأفرقاء اللبنانيين على أكثر من صعيد.<BR>إلا أن ما لا يمكننا تفهمه من ناحية ثانية، هو هذا السعير البركاني ضد مخيم يضم بين جدرانه البائسة على حسب ما تناقلت صور الفضائيات، أكثر من 45 ألف لاجئ تقطعت بهم السبل منذ أكثر من نصف قرن، هربوا من قمع الدولة العبرية و رضوا بعيشة ضنك في أرض ضيقة. هذا بالضبط ما لا يمكننا تفهمه و لا إيجاد تفسير معقول له فذات الصور التي نراها على التلفزيونات و بشكل مباشر مصحوبة بشهادات و تحليلات من داخل المخيم نفسه، تجعل الأمر الذي بدأ واضحا يتوجه نحو وضع مبهم خصوصا مع استصحابنا لهذه المعلومات التي تتحدث عن وجود طرف ثالث يعمل على إطلاق نيران 'ثالثة' تصوب من خارج المخيم نحو داخله و أحيانا، خارجه صوب أفراد الجيش بشكل هدفه الأكيد، هو حفظ حد غير قابل للخفض من المواجهة معطيا بالتالي، لضباط القوات المسلحة اللبنانية كل الحق في استعمال المدفعية و القذائف الصاروخية التي يبدو و أن عدد الضحايا جراءها حينما تنقشع سحب الدخان، سوف يكون فضيحة أخلاقية و عسكرية في أحسن الظروف.<BR>الواقع أن ما يجري حاليا لا يمكن أن يعتبر قتالا فعليا ضد "فتح الإسلام" لأنه بكل وضوح لا يعدو أن يكون قتلا ممنهجا للفلسطينيين هناك فلا يمكن للجيش اللبناني أن يمحي "العار" الذي لحقه صبيحة الأحد الأخير من خلال قصف المخيم بهذا الشكل الأعمى لأنه إذا ما كانت الحكومة ترى أن هذه الجماعة قد استولت على المخيم وجعلت الفلسطينيين هناك رهائن بين أيديها، فإن هذا لا يمنحها الحق في التعامل بالمثل وإسقاط الكل هناك محل تهمة فتحولهم بذلك، إلى رهينة أيضا بين مطرقة المسلحين وسندان مدفعية جيشها وإنني وأنا أكتب هذه الأسطر، بصدد سماع شهادة مباشرة على الجزيرة من شخص من داخل المخيم يقسم أن القذائف المدفعية تسقط على الأبرياء دونما تمييز ودون أي ضبط يفترض أن التقاليد والأعراف العسكرية تلزم به كل الجيوش النظامية في العالم وإلا فلا فرق هنا بين المحاصَرين و محاصِريهم.<BR>لو سألت أي خبير في العمليات العسكرية من هذا النوع لقال لك أنها عملية سهلة ميسورة وفي الوسع إنهاؤها في ساعات قليلة مهما كانت تحصينات المطلوبين ودرجة تدريبهم إذ يكفي أن يكون لدى الجيش المتدخل فرقة نخبة خاصة تسعى إلى الاقتحام وتغطيها فرقة خلفية بنيران أسلحة خفيفة تضمن لها التقدم وتمكنها بذلك من تحديد نقاط محاصرة ضيقة فيصير أمر القبض على المسلحين بعد ذلك ممكنا وغير مكلف لا في الأرواح ولا حتى في الإمكانات و النيران. ولكن هذه الطريقة التي تفرضها الضوابط الأمنية، يبدو أن الذين يقودون العملية العسكرية غير راغبين في نهجها لأنهم يفضلون القصف و لا شيء غير ذلك بشكل يطرح على أي متابع ألف ألف سؤال !! <BR>صحيح أن للفلسطينيين في لبنان تاريخا داميا لم تمحه الأيام والسنوات بعد ولا يختلف اثنان أن ما لحق بهم هناك علمهم كيفية الوقوف على مسافة متساوية من الكل ولكنه يبدو واضحا أيضا، أنه قد تقرر إقحامهم في 'المعمعة' من خلال فصيل مجهول وقريب العهد بالنشاط والتأسيس ثم ها هو يظهر جليا الآن أن زعماء الفصائل هناك وبعد أن أجمعوا بداية الأمر على دعم الجيش النظامي وتبرير ردة فعله، صاروا يرفعون حدة الخطاب ويهددون بشكل بيّن، أنهم لن يبقوا مكتوفي الأيدي إلى ما لا نهاية فلقد امتدت ردة الفعل وصارت فعلا آخرا قد ينتج ردود فعل مقابلة ومتوقعة بدليل أن أحدهم قالها صراحة: "إن الفلسطينيين في نهر البارد ليسوا يتامى حتى تستباح دماؤهم إلى هذا الحد الجنوني" ولا بد من التذكير هنا أن الحرب الأهلية الأولى في لبنان اندلعت بعد أن تعرضت حافلة فلسطينية لكمين مسلح!!<BR>على الصعيد الإنساني، قد يكون وصفنا للوضع هناك بالكارثي هو أقل عبارة نوظفها فنداءات الاستغاثة تتصاعد و تتزايد بشكل لا يمكن لأحد معها أن يبقى جامدا غير مكترث ولا شك أن الفلسطينيين في باقي المخيمات مؤمنون حاليا أن هذه النيران قد تستهدفهم في أية لحظة وعند أول خطب بدليل أن زعيم اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط قالها صراحة قبل لحظات: "لا بد من نزع سلاح المخيمات" من غير أن يلحظ أنه لا يقدم ضمانا في مقابل هذا المطلب "الكبير" لأن دولته ببساطة لا تملك مقومات حماية مواطنيها و رعاياها فضلا عن ضيوفها.<BR>لا يستلزم الأمر منا أخيرا، عظيم نباهة حتى نستنتج أن الأمر هو جزء من مخطط كبير هدفه إشعال لبنان برمته بعد أن فشلت لحد الساعة كل المحاولات الأخرى و التي كانت آخرها الحرب "الإسرائيلية" صيف العام الماضي وبما أن الأفرقاء هناك لا يبدون في الوقت الحالي استعدادا للدخول في حكومة تجمع شملهم وتجعل منهم 'جبهة وطنية' متحدة تفوت على الخارج من 'الأصدقاء والأشقاء' على السواء، مخططاتهم و نزواتهم فإننا لن نكون متشائمين كثيرا حينما نجزم أن هذا البلد العربي الجميل، مقبل على حرب أهلية جديدة يستغلها الكل وعبر الريموت كونترول، لتصفية حسابات وعثرات العشرين سنة الأخيرة على الأقل.<BR><br>