جوهر الصراع داخل أمريكا حول العراق
23 رمضان 1428

منذ أن حدث تحول في التوازنات المتحكمة في صناعة القرار داخل مؤسسة الحكم الأمريكية، عقب انتخابات الكونجرس، دخل الصراع في الولايات المتحدة إلى مرحلة كسر العظم بين الديمقراطيين والجمهوريين حول العراق؛ فالديمقراطيون اعتبروا إحرازهم "الغلبة" في الانتخابات تفويض شعبي لهم بانهاء الحرب في العراق، وصاروا يضغطون على الإدارة الجهورية الحالية من أجل سحب القوات حتى وصل الأمر للتهديد بإقالة الرئيس بوش وخلعه، بل إن هناك من سار من النواب الديمقراطيين في إحدى الولايات في الاجراءات العملية لهذا الاتجاه.<BR>والجمهوريون باتوا يستخدمون أصواتهم المانعة لصدور قرار سحب القوات أو وقف التمويل عنها _ في مجلس الشيوخ خاصة _ باعتبار أن قرارات مثل هذه تحتاج إلى أغلبية 60 صوتا بينما الديمقراطيون لا يزيد عدد أصواتهم عن 51 في المجلس.<BR> أما الرئيس الأمريكي فقد اختار المناورة، فشكل لجنه بيكر-هاملتون، كممثلين للحزبين، ليصدرا تقريرا حول خطة التعامل مع المسألة العراقية. <BR>وعلى هامش تلك المعركة وفي القلب منها باتت أجهزة الإعلام في قلب صناعة الحدث، إذ تمايزت المواقف بين هذا الطرف أو ذاك وفقاً لانتماءات محددة معروفة مسبقا بالارتباط بأحد الطرفين (الجمهوري والديموقراطي)، أو وفق التغير في مزاج الرأي العام وفعالياته من خلال المظاهرات وقياسات المواقف التي تظهرها استطلاعات الرأي العام وكذا وفق حالة التضاغط بين عناصر الحكم الإدارية الثابتة من جهة (الجهاز الإدراي والتنفيذي للدولة الأمريكية) وصانع القرار السياسي (الإدارة في البيت الأبيض) من جهة أخرى.<BR>ولما كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بدأت وقائع اختيار المرشحين لها، وفق دورة المجمعات الانتخابية، وجرت الترشيحات الأولية في داخل كلا الحزبين وبدأ جمع التبرعات لخوض الحملات، فإن المعركة حول العراق انتقلت إلى تصعيد يتعلق بقرارات ساكن البيت الأبيض الجديد بعد مغادرة جورج بوش، فيما يتعلق باستمرار أو عدم استمرار احتلال العراق، وفي ذلك يصعد المرشحين الديمقراطين مواقفهم ويزايد كل منهم على الآخر، في شأن موقفه من سحب القوات، حتى إن إحداهم (هيلاري كلينتون) قد أعلنت أنها ستسحب القوات الأمريكية إذا فازت في الانتخابات خلال 60 يوما من تسلمها الرئاسة، وأنها من فور انتخابها ستبدأ التدخل في رسم السياسة الخارجية دون انتظار المدة القانونية بين الانتخابات وتسلم الرئاسة رسمياً.<BR> أما المرشحون الجمهوريين فالغالب على مواقفهم حتى الآن، هو المناورة من أجل كسب الوقت مع قدر من التملص من نتائج احتلال العراق، حيث هم يركزون هجومهم على مواقف الديمقراطيين باعتبارهم شاركوا في قرار الحرب بالتصويت ايجابيا لصالح قرار الغزو، وكذا باعتبار أن مواقفهم المطالبة بسحب القوات تمثل تخليا عن الجنود الأمريكيين المقاتلين في الميدان وتضعف روحهم المعنوية..إلخ.<BR><BR>الأمور تتصاعد والصراع تضاف إلى أوراقه كل يوم أوراق جديدة ، خاصة وأن المقاومة العراقية التي نجحت في نقل المعركة من بغداد إلى واشنطن ، ما تزال على قوتها وقدرتها في التأثير على مواقف الأطراف الأمريكية المختلفة حول التصرف في قضية احتلال العراق.<BR>غير أن <font color="#ff0000">السؤال الجوهري هو على ماذا يجرى الصراع في داخل الولايات المتحدة وبالدقة في داخل مؤسسة الحكم؟ هل يجرى الصراع حول عدم عدالة الحرب وحول ضرورة إعمار ما خربته الآلة الحربية العدوانية الأمريكية ، ودفع التعويضات ..إلخ ، أم أن ما يجرى هو صراع حول الميزانيات الأمريكية التي أنفقت في الحرب، وحول تكبد الجيش الأمريكي قتلى وجرحى أعدادهم في تزايد .. إلخ ، ومن ثم ينبغي الانسحاب؟؟! </font><BR>وكذا كيف يمكن تصور المشترك بين هؤلاء المتصارعين ، أو بالدقة كيف ستجري بلورة رؤية مشتركة في التعامل مع الاحتلال الأمريكي للعراق؟<BR><font color="#0000FF">الجرائم الأمريكية</font><BR>إن تصوير حجم الجرائم الأمريكية في العراق، ومقارنتها بما خسرته الولايات المتحدة في الحرب والعدوان، كلاهما ضروري لتحديد وفهم معايير الحكم على الحرب في العراق في داخل الولايات المتحدة.<BR> في العراق، قتلت القوات الأمريكية وحلفاؤها وقوات المرتزقة العاملة في شركات الأمن الأمريكية، وحلفاؤهما من الميليشيات المحلية والإيرانية، ما يصل حتى الآن إلى مليون وربع إنسان عراقي، كما تم تدمير كل البنية الأساسية في العراق من محطات كهرباء ومياه وهاتف ومصانع وطرق، بما تعد خسائرها بالمليارات، كما الاحتلال الأمريكي للعراق تسبب في إنهاء جهاز الدولة العراقي من جيش وشرطة ووزارات ومؤسسات، وطارد الكادر الأساسي فيها حتى القتل، وفي ذلك أولى عنايته في القتل للعلماء والثروة البشرية من كوادر المؤسسات العسكرية والأمنية العراقية.<BR>وفي ظل الاحتلال جرى تفكيك المجتمع العراقي وإثارة الكراهية واشاعة القتل على الهوية (السنية طبعا) بين جنباته، وكذا جرى تهجير عدة ملايين من السكان في داخل العراق ومثلهم إلى خارج العراق.<BR>وفي ظل الاحتلال جرت عمليات سرقة مبرمجة لأموال العراق التي كانت مودعة في الخارج في إطار برنامج النفط مقابل الغذاء، والأموال التي كانت مودعة في البنوك العراقية. كما جرى نهب الثروة البترولية المستخرجة منذ بدء الاحتلال وحتى الآن. وحتى آثار العراق لم تسلم من النهب، إذ جرى نهب كامل لتراث العراق، وبيعه لعصابات متخصصة في البلاد الغربية التي صارت بمتاحفها الآن أجنحة كاملة من الآثار العراقية المنهوبة.<BR>وفي الطرف الآخر، ورغم أنه طرف معتدي لابد أن يتحمل هو نتائج أفعاله دون مقارنته مع الطرف المعتدى عليه؛ فإن الخسائر الأمريكية هي أقل بشكل حاد وإلى درجة لا تذكر مع نظيرتها العراقية.<BR> إذا أخذنا الأرقام الرسمية الأمريكية لحجم الخسائر في صفوف الجيش الأمريكي فهو في حدود الأربعة آلاف جندي، وحتى إذا أخذنا الأرقام غير الرسمية التي تتحدث عن خسائر أمريكية تصل حد الثلاثين ألفا من القتلى وضعفهم من الجرحى؛ فإن المقارنة تظهر كيف أن خسائر العراق هي مضاعفة بالآلاف لما خسرته الولايات المتحدة.<BR> وإذا أخذنا البعد المالي فان الخسائر المالية الأمريكية هي الأخرى لا يمكن مقارنتها بالخسائر المالية العراقية ، بل خسائر العراق هي خسائر من "نوع خاص" ، اذ الاقتصاد العراقي نهب لتغطية كلفة العدوان على العراق نفسه ، إذ الولايات المتحدة استخدمت الأموال العراقية السائله (من الخارج وفي البنوك العراقية) وأموال النفط ، في تمويل عملياتها الحربية بهذا القدر أو ذاك . وهكذا الأمر في كل بنود المقارنه ، إضافة إلى أن ثمة بنود في خسائر العراق لا يوجد مثيل لها لدى الطرف الأمريكي ، كما هو الحال في خسائر العراق من المدنيين والعلماء والكوادرالعسكرية وفي التدمير الشامل للمنشآت العراقية وسرقة الآثار وتهجير السكان..إلخ.<BR>ووفقا لتلك الأوضاع ونتائج الكارثة، وإزاء أن الطرف الأمريكي هو الطرف المعتدي الذي يجب أن يحاسب مرتين لا مره واحدة، فالكاشف للمفاهيم المشتركة للقيادات السياسية الأمريكية والمحدد لطبيعة الصراع الجاري حاليا في داخل الولايات المتحدة، هو أن هذا الصراع لا يجرى حول حجم الجرائم الأمريكية في العراق، وإنما حول تناسب كلفة الحرب الأمريكية (المالية والبشرية) مع ما تحقق من مصالح أمريكية في احتلال العراق، وحول "اليأس" أو عدم "اليأس" من تحقيق أهداف الاحتلال، رغم كل تلك الجرائم أو بالبناء عليها!<BR><BR><font color="#0000FF">المال.. والقتلى الأمريكيون </font><BR><BR>مع الوضع في الاعتبار أن صلاحيات الكونجرس في التأثير على قرارات الرئيس الأمريكي بشأن استمرار الحرب تمكن الكونجرس من وقف الحرب لا وقف التمويل المالي لها فقط؛ فإن جوهر الصراع في الكونجرس ووسط الرأي العام الأمريكي انصب أساساً حول الكلفة المالية للحرب على العراق، وحول القتلى الأمريكيين لا العراقيين! <BR>في داخل الكونجرس وفي الكتابات الاستراتيجية والصحفية وفي مختلف أجهزة الإعلام بل وحتى في أغلب مظاهرات الشوارع، لا تجد إلا لغة واحدة "تقريبا" أوقفوا الحرب التي تكلف الميزانية الأمريكية مليارات الدولارات شهريا ... أوقفوا الحرب لأن عدد القتلى الأمريكين في العراق يتزايد.<BR>وهكذا فلا حديث عن جرائم الجيش الأمريكي في العراق، ولا عن أعداد القتلى والمشردين في العراق ولا حول سرقات المال العراقي، ولا حول التدمير الشامل الذي حل بالعراق! <BR>وفي ذلك فنحن أمام كواشف كبيرة للمجتمع والمفاهيم التي تحكمه، ولرؤى ومواقف النمط الأساسي الغالب على اتخاذ القرارات الأمريكية، كما نحن أمام ضرورة فهم طبيعة الخلاف والاختلاف مهما بلغت ضراوته وشدته، ليس فقط حتى لا ننخدع ونبنى آمالاً كاذبة أو غير صحيحة على نتائج هذا الصراع من خلال آلياته الداخلية فقط، وإنما حتى نرى "العامل الفاعل" في حدوث هذا الصراع وتصعيده، للتركيز عليه في مواجهة الاحتلال والاستراتيجية الأمريكية في المنطقة سواء ظل الجمهوريون في الحكم أو أتى الديمقراطيون.<BR> العامل الفاعل الرئيسي في أحداث هذا الصراع هو تحديداً، اشتعال المقاومة العراقية، وإيقاعها الخسائر في صفوف الأمريكيين ورفعها التكلفة الاقتصادية للاحتلال، وعدم تمكين الأمريكيين من الاستقرار في العراق وتحقيق أهدافهم من احتلاله.<BR> وفي ذلك، نلحظ أن كثيراً من النواب الأمريكيين الديمقراطيين الذين يعارضون الحرب الآن واستمرار الاحتلال، هم أنفسهم من صدقوا على قرار العدوان على العراق. وهم من منحوا تفويضاً للرئيس الأمريكي بوش في شن العدوان ، وكذا الأمر بالنسبة لبعض النواب من الجمهوريين الذين كانوا كذلك قبل أن يغيروا مواقفهم.<BR> كما نلحظ أن الرأي العام الأمريكي الذي كان يؤيد الرئيس الأمريكي في شن العدوان بنسب كبيرة وفق استطلاعات الرأي العام وقياساتها خلال فترة اتخاذ القرار، هو نفسه الرأي العام الذي تغيرت مواقفه نتيجة الخسائر البشرية والاقتصادية الأمريكية.<BR> كما نلحظ، أن الصحف الأمريكية بصفة عامة لم تقف ضد شن الحرب _ إلا قليلاً _ بينما هي الآن من يعلن رفض الحرب، وهنا<font color="#ff0000"> يبدو لافتا أن صحف "الوسط" في أمريكا ، وأهمها لوس أنجليس تايمز، باتت في موقع الهجوم على الحرب وعلى استمرار الاحتلال، بما يشير إلى تحول في مواقف "الوسط" في داخل الولايات المتحدة ضد الحرب، وبما يذكر بما جرى خلال العدوان والاحتلال الأمريكي في فيتنام حيث كان العامل الأساسي في انقلاب الموقف إلى معاداة الحرب، هو عامل تغيير الوسط الأمريكي لتوجهه من دعم الحرب أو الصمت عليها إلى معارضتها</font> بشكل واضح.<BR> هنا بالدقة يمكن القول في المعنى العام أن الموقف داخل الولايات المتحدة تغير من تأييد الحرب (حصل بوش على تأييد نحو 71%من المصوتين في استطلاعات الرأي في شن الحرب) إلى معارضتها، بفعل دور المقاومة العراقية لا بفعل المفاهيم القيمية "الصحيحة" الرافضة للعدوان من حيث المبدأ في داخل الولايات المتحدة، حيث النظام الأمريكي بكل مؤسساته ومفاهيمه يعتمد العدوان والابادة أصلاً في إنفاذ خططه.<BR> كما يمكن القول أيضا بأن جهود ودور المقاومة العراقية جاء بناءاً على ما أحدثته المقاومة الفيتنامية في المجتمع الأمريكي، إذ أيقظت المقاومة العراقية عقدة فيتنام في هذا المجتمع ولدى الجيش الأمريكي، وبما يعني أن "المفاوضات" لا تحل القضية العراقية إلا إذا انتهت "أحلام" احتلال العراق في المجتمع الأمريكي ولدى صانع القرار، تحت ضربات وتأثير المقاومة العراقية.<BR><BR><font color="#0000FF">الحل الوسط ! </font><BR>وهنا يضيف "التوافق " الذي جرى بين الديموقراطيين والجمهوريين في مجلس الشيوخ، حول قرار غير ملزم بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقسام من أجل تهيئة الأجواء لإنهاء الاحتلال، يضيف مؤشراً آخر إلى نمط المفاهيم وخلاصة الصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين، إذ هم أضافوا كارثة أخرى على العراق، حتى وهم يفكرون في الانسحاب منه.<BR>القرار الأخير بتقسيم العراق يعبر عن أن صانع القرار الأمريكي مستعد لأن يدمر "العالم" كله، حتى لا يعلن أنه هزم، حيث الهدف الجوهري من قرار التقسيم هو السير نحو سحب القوات الأمريكية تحت عنوان نهاية المهمة، وتحت زعم بأن مهمة القوات الأمريكية في المرحلة الأخيرة من العمل في العراق، كانت لمنع الاقتتال الطائفي.<BR><font color="#ff0000">من الآن فصاعدا سيجري تفكيك العراق وفق تلك الصيغة وسحب القوات الأمريكية _ إلا بعضها الذي سيذهب إلى كردستان العراق _ بحجة حماية الأكراد! </font><BR>وفي ذلك تظهر مؤسسات القرار في الولايات المتحدة، عارية من كل مبدأ!<BR><br>