حوار مع الشيخ/ مدثر أحمد إسماعيل
17 شعبان 1424

<font color="#800000">منذ عقدين من الزمن وأزمة جنوب السودان مستعر أوارها، تجيء عليها أوقات تكاد أن تخبو، ولكنها سرعان ما تعود فتتأجج، وفي هذه الأيام يترقب السودانيون نتائج اتفاقية تُوصل إليها بعد مفاوضات طويلة، يرى البعض أنها كفيلة بإخماد نار الحرب، ومن ثم استقرار السودان، ويرى آخرون أنها لن تكفل حلاً، بل ربما تزيد الطين بلة والنار ملة. </br>وعلى خلفية هذه الاتفاقية كثرت الآراء وتتابعت المقالات ونطقت (الإيقاد) وتكلم شركاؤها، وتحدث طرفا الحوار، وصرح السياسيون، وحلل الإعلاميون، ولكننا لم نسمع من أهل العلم والدعوة شيئاً إلاّ نزراً قليلاً، وحرصاً من موقع المسلم على معرفة رأي أهل السياسة الشرعية من العلماء والدعاة كان هذا اللقاء مع أحد دعاة السودان البارزين، وهو فضيلة الشيخ/ مدثر أحمد إسماعيل(رئيس مركز الدراسات الإسلامية والبحث العلمي بمجمع الإمام مسلم في السودان).</br></br> </font> </br><font color="#0000FF"> بدءاً نرحب بفضيلة الشيخ، فنقول: السلام عليكم ورحمة الله. </font> </br>وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. </br><font color="#0000FF"> فضيلة الشيخ جاءت اتفاقية نيفاشا في ظل ظروف محلية سودانية وإقليمية لا تخفى، مما حدا بالحكومة السودانية، بل وبعض الأطراف الأخرى إلى أن تصف الاتفاقية بأنها تاريخية، فهل توافقون الحكومة في هذا التعويل الكبير على الاتفاقية أم تتوقعون أنها لا تختلف كثيراً عن غيرها؟ </font> </br>الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:<BR> فأشكر لموقع المسلم اهتمامهم بقضايا الأمة، وأسأل الله _عز وجل_ أن يجعلهم منبر خير على بلاد المسلمين والعباد، فيما يتعلق بهذه الاتفاقية ووصف الحكومية لها بأنها اتفاقية تاريخية قد يكون هذا الوصف صحيحاً باعتبار وخاطئاً باعتبار، قد يكون الوصف صحيحاً باعتبار أنه لم يمر على تاريخ السودان منذ الاستقلال تنازل بهذا الكم وهذا الكيف إلا من قِبل هذه الحكومة، فهي تاريخية باعتبار كمية التنازلات، فلم يعرف السودانيون منذ الاستقلال خضوعاً واستسلاماً للمتمردين واستكانة بهذه الكيفية هذا من الناحية التاريخية، وقد تكون خاطئة بالاعتبار الآخر باعتبار أنها ستحقق مصالح أو تحقق مكاسب، أما التعويل الكبير على هذه الاتفاقية من قبل الحكومة فما أحسب أن الحكومة في قرارة نفسها تعول تعويلاً كبيراً على هذه الاتفاقية؛ لأن الحكومة تعلم أن الفصائل الجنوبية غدّارة وختّالة وخدّاعة، والذي يظهر والعلم عند الله أنهم يظهرون على السطح رضاهم وتعويلهم الكبير مع ما يخفونه في بواطنهم من توقع الخيانة والغدر من قبل الفصائل الجنوبية التي قد تتمرد فصائل تلو فصائل تلو فصائل، وبالتالي فهم ربما ينظرون أنها لن تختلف عن غيرها وسابقاتها، لو تذكرون اتفاقية السلام التي وقعت في القصر الجمهوري عام 98م كان المعول عليها كبيراً فيما يظهر للناس، وقد عبروا عنها بتعبيرات فيها من الأمل أكثر من هذه الاتفاقية، لكن سرعان ما انهارت هذه الاتفاقية، بل إن عدد الذين وقعوا على الاتفاقية اثنا عشر رجلاً وري الثرى منهم عشرة رجال ما بين شماليين وجنوبيين ولم يبق إلا رجلين أو شخصين من الذين وقعوا على الاتفاقية، أحدهما فر وهو رياك مشار، والثاني باق، ولذلك الحكومة قد لا تعول في قرارة نفسها على هذه الاتفاقيات كثيراً، وترى أن الجنوب قدر يواجهها، وأنا أذكر هنا كلمة لأحد القياديين البارزين جمعتني به لحظات في مكان ما، فقال لي: إنه جلس مع بعض القيادات الجنوبية للتفاكر في أمر هذه الاتفاقية وللتفاكر في أمر الجنوب في حد ذاته، فقال هذا المسؤول الجنوبي وهو وحدوي وليس انفصالي وليس من المتمردين ولكن ممن يسعى لمصلحة السودان، قال: عدونا في الجنوب فرداً من أفراد أسرتكم المريض المتخلف، يعني نعد السودان أسرة واحدة وفي هذه الأسرة وُلد وَلَد خديج ناقص بعاهة، معتوه فلا تستطيع هذه الأسرة أن تعالجه؛ لأن علاجه ميؤوس منه، ولا تستطيع أن تقتله أو تنفيه من هذه الأسرة فوضع الجنوب هكذا مولود متخلف، مولود بعاهة، مولود خديج ناقص وليس هناك ثمة علاج له، ولا تستطيع أسرته نفيه، مع غض النظر عن هذا التشبيه، فربما يكون فعلاً الجنوب فيه من النقص وفيه من القصور وفيه من التخلف ما فيه، لكن هذا في نظري أنه يُعالج، ولذلك بالجملة فهذه الاتفاقية لا تعول الحكومة عليها تعويلاً كبيراً، وهذا شعور داخلي لدى بعض القيادات لكن لا بد أن يظهر خلاف ذلك، فإن الألعوبة السياسية تقتضي إظهار ما لا يبطن. </br> </br><font color="#0000FF"> فضيلة الشيخ -أحسن الله إليكم- طرفا الحوار هما الأكثر حاجة لحسم خلاف طويل، لكن لا بد أن يكون هناك لاعبون أساسيون في هذه الأزمة المعقدة مستفيدون أو متضررون أو لهم مصالح أساسية، يعني هناك أسماء تُذكر، مثل: أمريكا، الإيقاد، مصر، كيف تصفون هؤلاء اللاعبين المؤثرين؟ وما هي أدوارهم؟ </font> </br>أما أمريكا فهي صاحبة مصلحة فليست متضررة بأي وجه من الوجوه، وكلما شب أوار العراك في جنوب السودان كانت مصالح أمريكا أكثر، فأمريكا تنظر إلى السودان نظرة خاصة عقائدية واقتصادية؛ أما نظرة أمريكا العقائدية للسودان بالذات الجمهوريين الذين يتحكم فيهم اليمين المتطرف المسيحي يدينون ويعتقدون أن جنوب السودان بقعة بُشِّروا بها في العهد القديم، فإذا رجعتم إلى ما سُطر في العهد القديم في سفر أشعيا، وفي سفر أرميا، وكذلك في صفنيا جاء ذكر أرض كوش، وأن من هذه الأرض سيخرج منها قوم جرد طوال القامة يقدمون الهدايا إلى رب الجنود عند جبل صهيون، والترجمات التفسيرية للكتاب المقدس ذكرت أن أرض كوش هي أرض السودان والحبشة، وأن القوم الطوال الجُرد هم قبائل معينة في الجنوب، ولعلهم قبائل الدينكا، هذه من الأشياء الخاصة التي قد توجد في بعض أدبيات السياسة الأمريكية، سواء الخفية أو شبه الخفية، وبالتالي فأمريكا تريد أن تعتني بالجنوب، وفصيل المتمردين بالذات وعلى وجه الخصوص جون قرنق حتى تُخرج منهم ذلك القائد للقوم الجُرد الذين يقدمون الهدايا لرب الجنود عند جبل صهيون، لذلك اهتمام أمريكا بالجنوب اهتمام غير عادي.<BR>أما مصلحة أمريكا الاقتصادية تكمن في أن الحرب القادمة في العالم حرب مياه، ومنطقة الجنوب منطقة غنية بالمياه، إذ فيها البحيرات وينساب عبرها النيل الأبيض من بحيرة فكتوريا، ولا بد أن يكون لأمريكا يد على منابع المياه أو منابع النيل، كما أن لها يداً على النفط ازدادت قوتها بعد احتلال العراق، وجون قرنق هو أفضل من يمثل الذراع الأمريكية أو أفضل من يمثل لأمريكا دورها ويكون يداً قوية على هذه المياه هو جون قرنق.<BR>لم؟ أولاً لأن الرجل تربى في محضن أمريكي، وتخصصه زراعي، وأمريكا تدعمه بوضوح وبخفية، هذا الرجل إن زعم الناس أنه وحدوي فهذا الزعم باطل، هو انفصالي من الطراز الأول، يشهد لذلك رسالة الدكتوراه التي حضرها في سد (جونقلي)، وكانت أطروحة في بناء سد في منطقة البحيرات اسمه سد (جونقلي) الهدف منه حبس الماء عبر ذلك السد عن السودان ومن ثم عن مصر، ليكون بعد ذلك الاستحواذ على مياه النيل من قِبل الجنوب إذا انفصل، والذي يحلو لهم أن يسموه دولة (الأماتونج)، فأمريكا هدفها الاستراتيجي الأول هو فصل الجنوب، فإن تعذر ذلك تطمع أمريكا للمرحلة الثانية من الأهداف ألا وهو أن يكون النظام الحاكم في السودان نظاماً أمريكياً بحتاً يتخذ من أمريكا وجهته وقبلته، ويصير منفذاً لسياسات أمريكا، أو يكون نظاماً رأسه نصراني وسيادته للنصارى كما هي الحال في نيجيريا ذات الأغلبية المسلمة.<BR>أما دول الإيقاد فهي تابعة حقيقة للدول الأوروبية ولأمريكا لا كبير أثر لها. </br>ومصر على النقيض من أمريكا، مصر متضررة مما يحصل في الجنوب؛ لأن مياه النيل لها وضعها في مستقبل مصر، فالنيل تعلمون أنه ينساب إلى مصر عبر السودان، وأي تصرف في مياه النيل سواء عبر فصل الجنوب وبناء سد (جونقلي) أو خلخلة الأمن في جنوب السودان سيؤثر على منسوب المياه، ويؤثر على اقتصاد مصر، ويؤثر على السياسة المصرية بوجه عام، ولذلك مصر متضررة، ولذلك هي تسعى بكل ما أوتيت من حيلة ووسيلة لأن يكون الجنوب متحداً مع الشمال، وتستميت دون أن ينفصل الجنوب، ومصر أمام خيارين أحلاهما مر، إما خيار الانفصال وهذا مُرٌّ لكن أخف منه مرارة أن يكون السودان موحداً وإن حكمه نصراني، المهم أن تكون هناك وحدة ولا يكون للانفصال فيها وجود ولا أثر، حتى وإن كانت الدولة هذه نصرانية. هذا والله _تعالى_ أعلم. </br></br><font color="#0000FF"> إذن ما دلالة غياب أو تغييب الدور العربي (المبادرة المصرية الليبية) وحصر الإشراف في المفاوضات على الإيقاد وشركائها الأوروبيين، وبطبيعة الحال الولايات المتحدة الأمريكية؟ </font></br>أما فيما يتعلق بغياب أو تغييب الدور العربي سيما مبادرة مصر وليبيا، ذلك أن شركاء الإيقاد أو الأوربيين أو الأمريكان لا يريدون أن يكون الحل لإشكال الجنوب عن طريق مصر أو ليبيا، هم أساساً نصبوا من أنفسهم رعاة للسلام، وهم أصحاب الحل والعقد في أركان الأرض الأربعة، ولذلك ما يحلوا لهم وما يطربهم أن يكون حل أي إشكال في بقعة من بقاع الأرض عن طريقهم! </br>الشيء الثاني قضية فصل الجنوب هذه مفروغ منها في المبادرات العربية، فهي من المسلمات لا حوار ولا نقاش حول فصل الجنوب، وتشكل خطوطاً حمراء بالنسبة لمصر على وجه الخصوص، لذلك لم تتضمن بنود مبادرة مصر وليبيا قضية الانفصال، وهذه أيضاً علة من العلل التي كان وراءها تغييب الدور العربي، والله _تعالى_ أعلم. </br></br><font color="#0000FF"> من المعروف أن بين قبائل الجنوب خلافات وجون قرنق في نظر كثير من أبناء الجنوب يمثل قبيلة الدينكا، بل يتهمه البعض بتصفية حتى أعوانه من القبائل الأخرى، فما الضمان إن عاد جون قرنق ألا يتمرد غيره كما هددت بعض القيادات الجنوبية؟ </font></br>أنا أقول: لا ضمان، ولعلي في السؤال الأول أشرت إلى هذا، فالحكومة تعلم في قرارة نفسها تمام العلم أن الفصائل الجنوبية غدارة وخداعة، فأقول: إذا جون قرنق وقبائل الدينكا كلهم وقعوا اتفاقية سلام، فهذا لا يعني أن بقية القبائل على رضا كامل، لكن الأمر فيه تفصيل أكثر من هذا، وهو أن الدينكا كلهم ليسوا بمجمعين على جون قرنق في حد ذاته، وبالتالي العناصر الجنوبية أو الفصائل الجنوبية تحمل بين طياتها عوامل هدمها، وهذه من الأشياء الحساسة التي تعوّل عليها حكومة الشمال كثيراً، تعول على وجود هذا التفكك والتباين القبلي العرقي الداخلي، وتقول: إنهم حتى لو انفصلوا لا يستطيعون إدارة أنفسهم لما بينهم من المنافسة والتباين العرقي والعقائدي. </br></br><font color="#0000FF"> إذن ترون أن الحركة الشعبية لتحرير السودان كما يسمونها لا تستند إلى إجماع جنوبي من بقية الفصائل والتوجهات الجنوبية، هل ترون أن الحكومة كذلك تبني مواقفها على إجماع سوداني؟ </font></br>كما أن الفصائل الجنوبية ليست على قلب رجل واحد فيما يقوم به قرنق وتقوم به حركته، كذلك الفصائل الشمالية ليست على قلب رجل واحد فيما تقوم به حكومة الإنقاذ، وهذا يدل على أنه ليس هناك إجماع سوداني شمالي، وليس هناك إجماع سوداني جنوبي على هذه الاتفاقية، وهذه من المشكلات العويصة التي تواجه هذه الاتفاقية ومستقبلها، ولذلك إرساء دعائم هذه الاتفاقية في المقام الأول سيكون بالسلطة وبالقوة لا بالإقناع ولا بالديمقراطية المزعومة ولا بالعدالة، بغض النظر عن كلمة الديمقراطية، لكن لا يكون إنزال هذه الاتفاقية واقعاً عملياً ملموساً في السودان إلا عبر قوى السلطة الحاكمة المدعومة من قبل مجلس الأمن وما إلى ذلك. </br></br><font color="#0000FF"> وفقاً لذلك -أحسن الله إليكم- هل تتوقعون لهذه الاتفاقية أن تُعمَّر؟ </font></br>العلم عند الله _تعالى_ لكن _كما قلت_ إنّ هذه الاتفاقية ليس عليها إجماع لا من قبل الشماليين ولا من قبل الجنوبيين، وهذا من عوامل هدمها وزوالها، بالإضافة إلى ما يتمتع به -كما قلت- الجنوبيون من كثرة التنقل وعدم الثبات على الموقف، وتميزهم بالختل والغدر والخداع فلا أحسب أنها تعمر طويلاً. </br></br><font color="#0000FF"> لكن -أحسن الله إليكم- يدندن الطرفان حول تنمية الجنوب، وأنها تضمن الوحدة رغم أن الجنوب قد يكون أفضل حالاً من كثير من مناطق السودان فإذا ذهبنا إلى (الأنقسنا) في الغرب بل حتى كثيراً من مدن الجنوب أفضل حالاً من مدن الولايات الشمالية، والأسئلة، هي: أولاً لم يُصور أن الظلم لاحق بالجنوب وحده؟ وهل تتوقعون أن يتكرر ما حصل في الجنوب في مناطق أخرى؟ وإذا حصل الأمن والاستقرار وعاش الجنوبيون نوعاً من الرفاهية، فهل ترون أن ذلك يكفل عدم تمردهم مرة أخرى؟ </font></br>أنا أقول: لا بد من خلفية مهمة عن حقيقة الصراع الجنوبي الشمالي، الصراع الذي في الجنوب ليس صراعاً أصيلاً، بل هو صراع دخيل، الجنوب بقعة أهلها وثنيون، والنصرانية دين دخيل جاء به المستعمر، ثم بنى على هذه النصرانية أحقاداً مفتعلة، وحواجز بين الشماليين والجنوبيين، وبالتالي الذي يدير مفاتيح الصراع هم النصارى والصليبية بوجه عام، وعليه فإن تصوير الظلم الذي لحق بالجنوب ليس تصويراً منبثقاً عن قناعة الجنوبيين، وإنما هو تصوير أقنع به المستعمر، وأقنعت به المنظمات الكنسية والمنظمات المزعومة أنها إنسانية، أقنعت به الجنوبيين فأشربوا أنهم مضطهدون وأنهم مسلوبوا الحقوق وما إلى ذلك، أما القبائل أو المناطق الأخرى؛ مناطق الغرب ومناطق الشمال، فما مورست معها هذه السياسة، ما جاء من يحاول إقناعهم أو من يعمل بينهم ليوهمهم بأنهم قد سُلبوا حقوقهم وظلموا واضطهدوا، وبالتالي هذه القناعة ليست عند من ذكرت في الغرب أو في الشمال أو في الشرق، وإنما موجودة عند الجنوبيين لما ذكرت، إلاّ ما ظهر مؤخراً لدى بعض قبائل الغرب بعد صدور ما الكتاب الأسود.<BR>ولا أتوقع أن يحصل في المناطق الشمالية أو الغربية أو الشرقية ما حصل في الجنوب من التذمر والتظلم؛ لعدم وجود النصارى أو النشاط الفتان الذي تقوم به الكنيسة.<BR>أما الدندنة حول تنمية الجنوب وأنها ستضمن الوحدة فما أحسب أن تنمية الجنوب ستضمن الوحدة إن لم تعضد للانفصال، ولعل هذه سنة كونية غير مطردة "كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى"، فلو عُمر الجنوب ونُمِّي ونهض الجنوبيون بأنفسهم أو نُهض بالجنوبيين وازداد وعيهم ومُكّنت للنصرانية هناك فلا شك أنهم سيستقلون سيادياً وعقائدياً، وسيطالبون بالانفصال أكثر من الوحدة، فتنمية الجنوب هذه لن تسير في الخط الإيجابي إلا إذا كانت التنمية تنمية شرعية حقيقة، بأن ينمى الجنوب شرعياً، لا أقول: ينمى فقط من حيث بناء المرافق العامة، إنما التنمية الشرعية التي نقصدها عبر وسائل السياسة الشرعية، وهي أن ينمى إنسان الجنوب ليُخلق جنوبي يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئاً، مسلم رسالي يسعى لمصلحة العباد والبلاد، وهذه التنمية الشرعية من شأنها أن تحل إشكال الجنوب، ولعل هذا هو الحل الذي يغفل عنه السياسيون في السودان، فهم أهملوا تنمية الإنسان الجنوبي تنمية إسلامية شرعية، وهذا من أكبر الأخطاء التي وقع فيها السودانيون الشماليون عبر حكوماتهم المتتابعة، فهم ما صنعوا من الإنسان الجنوبي مسلماً رسالياً، هل تصدق أنه ليس في السودان عالم جنوبي أو طالب علم جنوبي معتبر أو إمام مسجد أو خطيب مفوه من أبناء الجنوب؟ سواء كان عجمياً أو غير ذلك، ولا غرابة أن يكون من العجم عالم أو إمام، لذلك يجب أن يتنبه الناس إلى مثل هذا الحل، فالتنمية التي في الجنوب إذا أرادوا أن تفضي إلى الوحدة يجب أن تكون تنمية بهذا النوع، وعلى الحكومة التي في الشمال أن تنتبه لهذا، فالحل الأمثل لمثل هذه القضية أن يُصنع من الجنوبيين رساليين مسلمين فتُفجّر طاقات الجنوبيين الكامنة، وهم أناس عندهم طاقات، حقيقة فيهم من الذكاء، وفيهم من الفطنة، وفيهم من القوة في الشخصية ما فيهم، ليسوا كما يصورون أنهم أصحاب ذلة، لا بل عندهم كبرياء وعندهم أنفة لكن في الباطل _وللأسف الشديد_، لذلك أقول وباختصار شديد: يجب أن تكون هناك استراتيجية للحكومة الشمالية في أن تفعِّل دور الإسلام وسط الجنوبيين فتستقطب من الجنوبيين المثقفين النابغين النابهين طلاب الجامعات، وتودعهم في محاضن تربوية تخرج منهم رساليين قياديين تربوا على السياسة الشرعية، تربوا على الإسلام، ليتولوا إدارة الصراع هناك في الجنوب، وينموا الجنوب تنمية تؤدي إلى ما يصبو إليه الناس، ويكون هناك ثمة سلام حقيقي، لماذا، لماذا يسبقنا النصارى ويسبقنا الصليبيون إلى الجنوب، ويأخذون من أبناء الجنوب كماً فيخرجونهم بعد سنين بسيطة قساوسة وكرادنة ومطارنة؟ لماذا لا يسبق إلى ذلك المسلمون رغم إن في الجنوب جامعات تتبع للحكومة وتعد من الجامعات الشرعية، مثلاً جامعة القرآن الكريم في ثلاث ولايات من ولايات الجنوب ما دورها؟ كم داعية أخرجت؟ جامعة القرآن الكريم في الجنوب؟ كم إمام مسجد أخرجت؟ ما أحسب أن هناك في هيئة علماء السودان الرسمية عالم جنوبي أو ممثل مسلم جنوبي ما أحسب أن في مسجد من مساجد العاصمة كلها إمام أو خطيب جنوبي يشار إليه ويصدر عن رأيه لماذا؟ هذه من الإشكالات العظيمة.<BR>فالتنمية التي يدندن حولها السودانيون إذا أرادوها تنمية إيجابية تحل الإشكال عليهم أن يسيروا في هذا الخط، والله _تعالى_ أعلم.<BR><BR><font color="#0000FF"> فضيلة الشيخ يرى المراقبون أن هناك تغيراً في نفسية الأطراف المتحاورة وتنازلات متبادلة، بل إن بعضهم بدأ يستخدم عبارات مجاملة في الحوار غير معهودة بين الأطراف، فبم تفسرون هذا؟ </font><BR>هذا ينم عن جهل كل طرف بالآخر، فكل واحد يتوقع من الثاني غدراً أو ختلاً أو أن يقلب عليه ظهر المجن، لذلك تتغير النفسيات وتأتي التنازلات وتستخدم العبارات غير المعهودة بينهم كما عبر في السؤال، وهذا مرده إلى عدم الثقة بين الأطراف.<BR><BR><font color="#0000FF"> من المعروف أن جون قرنق قد أعلن تمرده قبل ما يُعرف بقوانين سبتمبر (قوانين الشريعة) بستة أشهر، كما أن الشريعة لم تُحكّم في السودان طوال الديمقراطية الأخيرة، فلِم الإصرار على علمانية العاصمة، والدندنة حول الشريعة، والحرص على وجود بند في الاتفاقية ينص على هذا مع أن دستور 98م أشار إلى مصادر أخرى للتشريع، والنظام الفيدرالي المطبق حالياً في السودان يكفل للجنوب الاحتكام لغير الإسلام، ولماذا مع هذا يصر بعض المراقبين على أن من أسباب عدم التوصل إلى اتفاق هو نهج حكومة الإنقاذ الإسلامي؟ </font><BR>بادئ ذي بدء أنا أذكر عبارات كانت في (أبوجا واحد) و(أبوجا اثنان)، وهي محاولات ومباحثات السلام التي بدأت بها حكومة الإنقاذ مع حركة التمرد، في (أبوجا واحد) و(أبوجا اثنان) كان هناك نص على تجميد الشريعة الإسلامية، وهذا ما كان يحلم به أحد، ومع ذلك استمر النزاع واستمر التطاحن ولم يصل الطرفان إلى نقاط اتفاق، وعليه فإن مناط الصراع ليس هو كما يقولون توجه حكومة الإنقاذ الإسلامي، وإنما هو في الحقيقة السودان نفسه، هل يكون موحداً أو ينفصل الجنوب؟ فهدف جون قرنق الاستراتيجي هو فصل الجنوب، ولذلك تمرد ليفصل الجنوب، وكما جاء في السؤال تمرد قبل إعلان الشريعة، واستمر تمرده بعد الديمقراطية بعد إلغاء الشريعة، واستمر تمرده إلى يومنا هذا، وفي هذه الاتفاقية، اتفاقية السلام يقال: إنهم وصلوا إلى حل؛ لأن ما وصلوا إليه يحمل بين طياته العوامل التي تفضي إلى تحقيق هدف جون قرنق الأساسي، ألا وهو: فصل الجنوب عن الشمال أو أن تكون له السيادة على الجنوب وعلى الشمال، إذن هذان هدفان، إما فصل الجنوب عبر الاستفتاء، وإما أن تكون السيادة لقرنق وللجنوبيين على الشمال وعلى الجنوب، ولم يكن -في الحقيقة- يوماً ما تحكيم الشريعة سبباً وراء التمرد، وهذا يدلك على أن الحرب التي يقودها جون قرنق هي حرب مدعومة من الخارج دعماً صليبياً، وترتكز على منطلق عقائدي رصين.<BR><BR><font color="#0000FF"> كما تفضلتم جون قرنق بتدينه النصراني، وبعلاقته بالدولة الصهيونية -وقد سبق أن زارها- كيف ترون مصير مسلمي الجنوب -وأظن أن عددهم مُقدّر- وكذلك المنظمات الإسلامية العاملة هناك إن حصل انفصال؟ </font><BR>أود أن أنبه هنا إلى أمر مهم، وهو: أن نسبة الوثنيين في الجنوب أكثر من النصارى ، ونسبة المسلمين في الجنوب أكثر من النصارى أيضاً، والنصرانية ما أخذت قوتها إلا من الدعم الخارجي، وعليه فإن تعداد المسلمين في الجنوب أكثر من تعداد النصارى فيها، أما عن مستقبلهم فإذا ظل المسلمون يلاقون من الإهمال، وأعني بالمسلمين مسلمي الجنوب يلاقون الإهمال والتجاهل ولا توجه إليهم جهود تنموية تنهض بوعيهم ليتحملوا واجبهم، وليعوا دورهم وينهضوا بالإسلام في الجنوب، فإن مصيرهم لن يكون بعيداً عما لاقاه المضطهدون والمستضعفون من المسلمين في أوروبا الشرقية، في يوغسلافيا، في البوسنة، في الهرسك، في كوسوفا، في ألبانيا، لذلك لا بد أن يتنبه الناس لهذه القضية، ولا بد أن يتدارك الناس الموقف ويبدأ المسلمون في الجنوب بتجميع صفهم وعلى المسلمين في الشمال أن يمدوا يد العون لإخوانهم وتكون هناك خطط وبرامج استراتيجية تهدف إلى تمليك المسلمين في الجنوب من الوسائل ما يقويهم ويعينهم ويثبت أقدامهم في مواجهة الحقد الصليبي المفتعل في الجنوب من قبل القلة النصرانية.<BR><BR><font color="#0000FF"> فضيلة الشيخ ما يسمونه بسياسة المناطق المقفولة كان لها آثار اجتماعية وثقافية ساهمت في زرع الأحقاد بين الشماليين والجنوبيين، فهل يضمن الحل السياسي -بفرض نجاحه- الاستقرار والتعايش أم لا بد من عمل اجتماعي يقارب بين الطرفين وما التصور المقترح يعني لذلك؟ </font><BR>لعلي أشرت في غضون الإجابات السابقة إلى شيء من هذا، الآثار الاجتماعية والثقافية التي ساهمت في زرع الأحقاد بين الشماليين والجنوبيين الحل السياسي لها إذا لم يكن سياسياً شرعياً لا يضمن ولا يكفل الاستقرار والتعايش، ولذلك فلا بد من عمل شرعي يقارب بين الطرفين، والتصور لذلك هو أن تكون الدعوة الإسلامية مفعّلة وسط الجنوبيين ووسط هذه المجتمعات المتنافرة اجتماعياً والمتباينة ثقافياً، وأنسب تصور -والله تعالى أعلم- هو أن يتولى إدارة هذا العمل من أبناء الجنوب من أُعدوا وهيّئوا لهذا الدور؛ لأن الله _تعالى_ قال: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ"، فعلى المسلمين في العالم أجمع ولا أقول في السودان فحسب، أقول: على المسلمين في العالم أجمع أن يساهموا في حل هذا الإشكال الذي في جنوب السودان، فتكون هناك ثورة للدعوة إلى الإسلام، لماذا يهتم المسلمون ببعض المناطق في شرق أوروبا وفي جمهوريات الاتحاد السوفييتي وبعض مناطق الهند والسند، ويهملون قضية جنوب السودان! بل هناك بعض العمل الإسلامي في أفريقيا، سواء في جنوب أفريقيا أو في غرب أفريقيا، ويجب أن يكون أيضاً لجنوب السودان حظ من هذا، لماذا لا توجد المكاتب الدعوية والهيئات الخيرية، سواء من الدول العربية أو من دول الخليج؟ لماذا لا يكون لها وجود تربوي نوعي في جنوب السودان ليخرجوا من أبناء جنوب السودان دعاة إلى الله وحمال مسؤولية ورساليين وقياديين شرعيين؟ هؤلاء هم الذين يحلون إشكال هذا التباين الاجتماعي، وهذا التباين الثقافي، وربما يساهمون إسهاماً كبيراً في حل مشكلة الجنوب والدعوة الآن مفتوحة، وأنا أقول وبكل صراحة: التقينا ببعض المسؤولين وعرضنا لهم هذا التصور، وطرحنا لهم خطة أنه لا بد أن يُخترق الجنوب دعوياً، وأن يكون في الجنوب ثورة دعوية يتولاها أبناء الجنوب، فقالت الحكومة: نحن معكم قلباً وقالباً، نجند لكم كل الإمكانات التي نستطيعها، نعطيكم ما تشاؤون، أخرجوا لنا من مسلمي الجنوب رساليين يقودون الجنوبيين إلى الإسلام، ويتولون إدارة الصراع هناك.<BR>فهذا الأمر ميسور ولكن ما أحسب أن من الناس من طرق هذا الباب، فيا ليت الناس يتنبهون لهذا، ثم أقول: هذه الاتفاقية إذا فُرض نجاحها ربما لا تؤثر أثراً كبيراً في إزالة الفوارق الاجتماعية والثقافية لا سيما أن الحل السياسي المجرد عن الضوابط الشرعية يزيد الطين بلة، نحن نسمع الآن بعض السياسيين الذين ليست عندهم قاعدة شرعية ينطلقون منها يقولون مثلاً: لا بد من إزالة الفوارق الاجتماعية ويحصل تزاوج بين أبناء الجنوب وأبناء الشمال!<BR>لا بأس يحصل تزاوج بين أبناء الجنوب وأبناء الشمال، لكن قبل التزاوج هذا أين موقع الدين؟ بعض هؤلاء لا يعتبرون الفوارق الدينية العقائدية، ممكن نصراني من الجنوب يتزوج بمسلمة شمالية! وقد حدث إبان اتفاقية السلام _وللأسف الشديد _ حصل هذا تزوجت شمالية من نصراني جنوبي صيدلي، وهذا من الطوام العظيمة، وهذا يثير حفيظة كثير من المسلمين الذين يتمسكون بدينهم، وعليه فإنني أقول: يجب أن تتدخل السياسة الشرعية، ويكون لها أثرها ودورها الفعال الواضح، ولا فرق عند ذلك بين عربي ولا عجمي ولا أحمر ولا أصفر، إلا بالتقوى، والله _تعالى_ أعلم.<BR><BR><font color="#0000FF"> فضيلة الشيخ علماء ودعاة السودان والجماعات الإسلامية بعامة، ما هو موقفها من الصراع السياسي والعسكري الطويل في السودان ومن الاتفاقية الأخيرة، ألا يمكن أن يختلف دورهم عما هو عليه واقع العمل الإسلامي في بقية الدول الإسلامية، ويكون لهم دور مختلف على الأقل في الواقع السوداني؟ </font><BR>الأمل معقود على علماء ودعاة الإسلام وعلى الجماعات الإسلامية بعامة، والله إن مفاتيح الحل بأيديهم، إنهم إذا اتقوا الله _عز وجل_ واجتمعوا فقط، واتحدوا على أن يفجروا ثورة دعوية في الجنوب، ويركزوا على الإنسان الجنوبي لينموا به بعيداً عن الخلافات والنزاعات التي بينهم، فإنهم سيبلون بلاء حسناً، ووالله لو اجتمع علماء ودعاة السودان والجماعات الإسلامية على وضع برنامج تربوي هادف بنّاء يقطفون منه ثمرة،هي: الداعية الجنوبي، العالم الجنوبي، الحافظ الجنوبي، الإمام الجنوبي، ثم بعد ذلك نقلوا ثورة المساجد إلى الجنوب، وثورة المحاضرات وثورة الندوات وثورة النشاط الشرعي إلى الجنوب يكونون بذلك قد أدوا دوراً فعالاً، وأسهموا مساهمة فعالة يثبتها الله _تعالى_ لهم في الدنيا والآخرة.<BR><BR><font color="#0000FF"> بهذه المناسبة فضيلة الشيخ أين ترون موقع الدكتور حسن الترابي وحزبه من هذه الاتفاقية، وهل تتوقعون عودتهم إلى الساحة السياسية بعد إبرام هذه الاتفاقية؟ وهل ترون أن اعتقالهم أصبح مبرراً بعد أن وقعت الدولة نفسها على هذا الاتفاق مع جون قرنق؟ </font><BR>أما فيما يتعلق بموقف حسن الترابي فلا بد من خلفية بسيطة قبل أن نتكلم عن موقفه، حسن الترابي لما أتى إلى سدة الحكم مكر وبدأ يطرح نظريات في السياسة والحكم والشرع، فمكر به الله _عز وجل_ مكراً مقابلاً؛ لأنه أراد من هذه النظريات إذابة الإسلام في قوالب غربية، أضرب لكم مثلاً الرجل عنده غلو في الاعتماد والاعتداد بالعقل هو ينزع إلى المدرسة العقلانية، لكنه من الغلاة في هذه المدرسة، يقول في كتابه (رسالة الدين والفن) يقول ما نصه: "ولا بد من استكمال الدين بعد نقصان بأن نجعل الفن شعبة من شعاب إيماننا وتوحيدنا رقصاً وغناءً وتمثيلاً"، ويقول أيضاً في كتابه (تجديد أصول الفقه): "إن صور الأحكام التي كانت تمثل الحق قبل ألف عام لم تعد تمثله اليوم".<BR>أنا لست بصدد تجريح الرجل، ولكن قلت عن الرجل حاول أن يمكر مكراً فالله _عز وجل_ قابله بمكره وأخزاه وأذله، وهو يقبع الآن في المعتقلات الإجبارية وبعض المعتقلات الرسمية يتنقل بينها من معتقل إلى معتقل، أما عودته إلى الساحة السياسية بالسودان فأحسب أن الأمل ضعيف جد ضعيف وإن عاد فسيكون له دور مهمش، فقد كبر وقواه العقلية والبدنية لا تؤهله لذلك، أما أبناؤه ومن أصروا إلا أن يستمروا على نهجه، فهم ضعاف من حيث قدراتهم العقلية، ونفسهم السياسي، أما اعتقالهم فما أحسبه غدا سائغاً بعد أن وقعت الدولة نفسها هذا الاتفاق مع جون قرنق.<BR><BR><BR><BR><font color="#0000FF"> فضيلة الشيخ _أحسن الله إليكم_ سؤال ختامي نختم به هذا اللقاء، كيف ترون مستقبل السودان في ظل هذه الاتفاقية، وكذلك في ظل التهديدات والمخاطر المتعددة التي تحيط به؟ </font><BR>الله المستعان، المتوقع حقيقة أن مستقبل السودان فيه نوع من الغموض، وهذا الغموض الذي يكتنف مستقبل السودان سببه أن هذه المخاطر كل واحدة منها احتمالية وقوعها كبيرة جداً، فمثلاً الاتفاقية الأخيرة هذه فيها بعض البنود التي تنص على أن يتحد جيش الحركة الشعبية لتحرير السودان الذي يقوده جون قرنق مع جيش الشمال، ويكون الجيشان جيشاً واحدا،ً وهذه لها خطورتها العظيمة، فلو أن المؤسسة العسكرية الشمالية دُمجت بالمتمردين مع وجود التباين الذي بينهم والعراك القديم الذي بينهم، فهذا يعني إما أن يغلب أحدهما على الآخر، وإما أن يبدأ بينهم الاحتراب والاقتتال داخل العاصمة بعد أن كانوا خارجها، وإذا حصل الاقتتال والاحتراب داخل العاصمة فهذا يعني وقوع الحرب الأهلية داخل الولايات الشمالية، ويتكرر بعد ذلك سيناريو الصومال، وهذه سانحة تجعل أمريكا تتدخل بقوة بحجة حفظ السلام، فهذه واحدة من المسالك الخطرة المحتمل ترتبها على هذه الاتفاقية، ناهيك عما يمكن أن يحصل جراء دخول جيش الحركة الشعبية إلى المؤسسة العسكرية في الشمال مع وجود قوة مساندة تحيط بالعاصمة المثلثة إحاطة السوار بالمعصم، ففي السنوات الماضية خطط الجنوبيون بالتنسيق مع الكنائس العالمية إلى مشروع يُسمى بأزنجة الشمال، وهو أن يقوم الجنوبيون بالنزوح إلى مناطق الشمال والسكنى في أطرافها، حتى إنك إذا جئت العاصمة المثلثة الخرطوم تجد أنها محاطة بسياج زنجي أو سياج جنوبي، يسكنون في المساكن العشوائية، وبعضهم يمتلك من الأسلحة والذخائر ما الله _تعالى_ به عليم، وقد حصلت بعض المداهمات من قبل قوات الأمن السودانية لبعض الأحياء، وصادرت الكثير من الأسلحة، هذا النزوح ليس في العاصمة وحدها، بل في معظم الشمال والشرق، بل ووسط البلاد في مناطق الجزيرة وغيرها، هذه واحدة من الإشكالات المحتمل ترتبها.<BR>الإشكال الثاني في الاتفاقية بتعلق بما نُص عليه من أنه ستكون هناك مرحلة استفتاء بعد مرحلة محددة، حول فصل الجنوب أو وحدته، ولا شك أن الرضا بالاستفتاء والتعويل عليه من الخطورة بمكان، فالحكومة الشمالية الآن ربما أبدت حسن النوايا وحسن المعاملة مع القيادات الجنوبية بظن منها أنهم سيغيرون اتجاههم وتفكيرهم حتى تكون رغبتهم في الوحدة أكثر من الانفصال، ولكن هذا أمل ضعيف فشراء ولاء الضعاف من قياديي الجنوب ببعض المال أو ببعض الثروة قد يكون مستبعداً، لذلك أقول: مستقبل السودان في ظل هذه الاتفاقية مستقبل فيه غموض لاسيما وأن الدور الأمريكي واضح ظاهر فيها، وأخطر ما في المرحلة القادمة أن ينقلب ظهر المجن على السودان، وتكون السيادة بآلية أمريكية علمها الناس أم لم يعلموها، فتكون السيادة للقلة من النصارى دون الغالبية من المسلمين، وما تجربة نيجيريا منا ببعيدة، فنيجريا نسبة المسلمين فيها 60% والنصارى والوثنيين 40% ورغم ذلك جاء (أباسانقو) النصراني ليكون صاحب السيادة وصاحب السلطة في نيجيريا عبر انتخابات كان فيها مراقبون دوليون، وهم يريدون أن تكون تلك التجربة في السودان، إن لم يتحقق الانفصال، وربما تكون تجربة ناجحة في ظن الأمريكيين، لا سيما إذا كفل للشماليين تطبيق الشريعة في الجنوب مع كثرتهم عبر الكونفدرالية، فإذا طبق الشمال الشريعة بالوصف الذي يريده رغم وجود السيادة النصرانية في رأس الدولة فهذا لا بأس به، والآن نيجيريا حاكمها (أبوسانقو) النصراني لكن في ولاية (صكتو) وولاية (زنفرا) وفي بعض أطراف كانون تطبق الشريعة بحذافيرها، لكن لا يخفى أن هذا الحل من الخطورة بمكان وإن كانت الحكومة الشمالية تدرك طبيعة هذا الحل وأقدمت عليه، فقد زجت بنفسها في مهالك عظيمة، والله _تعالى_ أعلم.<BR>نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يعصم أهل السودان وكل بلاد المسلمين من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرد كيد المعتدين على الإيمان والدين، والحمد لله رب العالمين.<BR><BR><BR><BR><br>