نخلص ـ من خلال استقراء كلام جميل من العلماء المحققين ـ إلى أن ثمة ضوابط ومسائل مهمة ينبغي مراعاتها في موضوع طاعة الأئمة والحكام، منها:
1- أن الطاعة لأصحاب الولايات الشرعية، وهذا أمر بدهي دلت عليه الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}النساء59.
قال الشوكاني: "وأولو الأمر: هم الأئمة والسلاطين والقضاة وكل من كان له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية"(1)
2- لا طاعة لجهلة الحكام إلا فيما يعلم أنه سائغ شرعاً.. يقول القرطبي: "وشرط الأمراء أن يكونوا آمرين بما يقتضيه العلم، وكذلك كان أمراء رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وحينئذ تجب طاعتهم، فلو أمروا بما لا يقتضيه العلم حرمت طاعتهم"(2).
ويقول العز بن عبدالسلام في هذه المسألة: "ولو أمر الإمام أو الحاكم إنساناً بما يعتقد الآمر حله والمأمور تحريمه، فهل له فعله نظراً إلى رأي الآمر، أو يمتنع فعله نظراً إلى رأي المأمور؟ فيه خلاف ـ وهذا مختص فيما لا ينقض حكم الآمر به، فإن كان مما ينقض حكمه به فلا سمع ولا طاعة ـ وكذلك لا طاعة لجهلة الملوك والأمراء إلا فيما يعلم المأمور أنه مأذون في الشرع"(3).
ويقول شيخ الإسلام: "والحاكم فيما تنازع فيه علماء المسلمين أو أجمعوا عليه قوله في ذلك كقول آحاد العلماء إن كان عالماً، وإن كان مقلداً كان بمنزلة العامة المقلدين، والمنصب والولاية لا يجعل من ليس عالماً مجتهداً عالماً"(4).
3- لا طاعة مطلقة إلا للرسل - عليهم السلام -، فليس من مخلوق من أمره حتم بإطلاق إلا الرسل - عليهم السلام -، ومن أمر بطاعة الملوك والحكام مطلقاً فهو ضال..
يقول شيخ الإسلام في هذا المقام: "من نصب إماماً فأوجب طاعته مطلقاً اعتقاداً أو حالاً فقد ضل في ذلك، كأئمة الضلال الرافضة الإمامية، حيث جعلوا في كل وقت إماماً معصوماً تجب طاعته، فإنه لا معصوم بعد الرسول، ولا تجب طاعة أحد بعده في كل شيء"(5).
وقال في السبعينية: "وقد اتفق المسلمون على أنه ليس من المخلوقين من أمره حتم على الإطلاق إلا الرسل الذين قال الله فيهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} النساء64، وأما من دونهم فيطاع إذا أمر بما أمروا به، وأما إذا أمر بخلاف ذلك لم يطع.."(6)
قال الطيبي عند قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}: "أعاد الفعل في قوله: {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته"(7).
4- من المسائل المعلومة أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق - سبحانه وتعالى -، إنما الطاعة في المعروف كما في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة". وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "ليس يا ابن أم عبد طاعة لمن عصى الله، قالها ثلاث مرات" (8).
وكتب عمر الفاروق إلى أهل الكوفة: (من ظلمه أميره فلا أمرة له عليه دوني، فكان الرجل يأتي المغيرة بن شعبة فيقول: إما أن تنصفني من نفسك وإلا فلا إمرة لك علي) (9).
قال الحافظ ابن حجر: "ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية لما قال له: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} فقال له: أليس قد نزعت عنكم ـ يعني الطاعة ـ إذا خالفتم الحق بقوله : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (10).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "اتفق العلماء أن حكم الحاكم العادل إذا خالف نصاً أو إجماعاً لم يعلمه فهو منقوض"(11).
وقال ابن القيم: "فإن قيل: فما هي طاعتهم المختصة بهم، إذ لو كانوا إنما يُطاعون فيما يخبرون به عن الله رسوله كانت الطاعة لله ورسوله لا لهم؟ قيل: وهذا هو الحق، وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال، ولهذا قرنها بطاعة الرسول، ولم يُعد العامل، وأفرد طاعة الرسول، وأعاد العامل، لئلا يتوهم أنه إنما يطاع تبعاً، كما يُطاع أولو الأمر تبعاً، وليس كذلك، بل طاعته واجبة استقلالاً.."(12).
ولما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عما يأخذه ولاة المسلمين من زكاة، كان من جوابه: "أما ما يأخذه ولاة المسلمين من العُشْر وزكاة الماشية والتجارة، وغير ذلك فإن يسقط ذلك عن صاحبه، إذا كان الإمام عادلاً يصرفه في مصارفه الشرعية، باتفاق العلماء، فإن كان ظالما لا يصرفه في مصارفه الشرعية، فينبغي لصاحبه أن لا يدفع الزكاة إليه، بل يصرفه هو إلى مستحقيها.."(13).
وبيّن شيخ الإسلام ـ في موطن آخر ـ أن أهل السنة لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته في الشرعية، فلا يجوّزون طاعته في معصية الله وإن كان إماما عادلا. (14)
وقال أيضاً: "والإمام العدل تجب طاعته فيما لم يعلم أنه معصية، وغير العدل تجب طاعته فيما علم أنه طاعة كالجهاد"(15).
5- حذر السلف الصالح من تلك الطاعة الفاسدة ـ طاعة المخلوق في معصية الله تعالى ـ في آثار كثيرة:
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه - مرفوعاً: (أعوذ بالله من إمارة الصبيان، قالوا وما إمارة الصبيان؟ قال إن أطعتموهم هلكتم ـ أي في دينكم ـ وإن عصيتموهم أهلكوكم ـ أي في دنياكم بإزهاق النفس أو بذهاب المال أو بهما معاً ـ)(16).
وفي رواية لابن شيبة: (أن أبا هريرة كان يمشي في السوق ويقول: اللهم لا تدركني سنة ستين ولا إمارة الصبيان) قال الحافظ ابن حجر: "وفي هذا إشارة إلى أن أول الأغيلمة كان في سنة ستين، وهو كذلك فإن يزيد بن معاوية استخلف فيها.."(17).
"وسئل عبادة بن الصامت – رضي الله عنه - : أرأيتَ إن أطعت أميري في كل ما يأمرني به؟ قال: يؤخذ بقوائمك فتلقى في النار، وليجيء هذا فينقذك "(18).
وورد أن شداد بن أوس – رضي الله عنه - أنه غطى رأسه فبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال إنما أخاف عليكم من قبل رؤسائكم الذين إذا أمروا بطاعة الله أطيعوا، وإذا أمروا بمعصيته أطيعوا "(19).
"وقال الحسن البصري: سيأتي أمراء يدعون الناس إلى مخالفة السنة فتطيعهم الرعية خوفاً على دنياهم فعندها سلبهم الله الإيمان، وأورثهم الفقر ونزع منهم الصبر، ولم يأجرهم عليه".
وقال الشعبي: إذا أطاع الناس سلطانهم فيما يبتدع لهم أخرج الله من قلوبهم الإيمان وأسكنها الرعب.
وقال يونس بن عبيد: إذا خالف السلطان السنة، وقالت الرعية قد أمرنا بطاعته، أسكن الله قلوبهم الشك وأورثهم التطاعن"(20).
6- ومما يجدر تقريره أيضا ما حرره شيخ الإسلام ابن تيمية من عدم العدول عن نص شرعي معين إلى نص عام في طاعة ولاة الأمور, فإن أكثر الصحابة – رضي الله عنهم - اعتزلوا القتال الواقع بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - لأنه قتال فتنة فلا تجب طاعة الإمام فيه. يقول شيخ الإسلام: "ومن رأى أن هذا القتال مفسدته أكثر من مصلحته علم أنه قتال فتنة، فلا تجب طاعة الإمام فيه، إذ طاعته إنما تجب في ما لم يعلم المأمور أنه معصية بالنص، فمن علم أنه هذا هو قتال الفتنة ـ الذي تركه خير من فعله ـ لم يجب عليه أن يعدل عن نص معين خالص إلى نص عام مطلق في طاعة أولي الأمر، ولا سيما وقد أمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى الله والرسول "(21).
وقد سلك هذا المسلك أئمة كبار كالإمام مالك بن أنس عندما منعه السلطان من الفتيا بأن يمين المكره لا تنعقد فلم يمتنع بدعوى طاعة ولاة الأمور..
يقول ابن القيم: "فهذا مالك ابن أنس توصل أعداؤه إلى ضره بأن قالوا للسلطان إنه يحل عليك أيْمان البيعة بفتواه أن يمين المكره لا تنعقد، وهم يحلفون مكرهين غير طائعين، فمنعه السلطان، فلم يمتنع لما أخذه الله من الميثاق على من آتاه الله علما أن يبينه للمسترشدين "(22).
وفي رواية: "أن أبا جعفر المنصور نهى مالكا عن الحديث (ليس على مستكره طلاق) ثم دسّ إليه من يسأله، فحدّثه به على رؤوس الناس فضربه بالسياط "(23).
ولعل ما حرره شيخ الإسلام يكشف عن سبب إصرار بعض علماء السلف على الوعظ والاحتساب مع منعهم من قبل حكام زمانهم، كالبربهاري وأصحابه الذين كانوا يباشرون تغيير المنكرات بالإتلاف، ويعاقبون أصحابها بالضرب والتعزيز. (24)
وكذا عدم طاعة الحسن بن الصباح للمأمون في منعه من الوعظ واستمرار ابن سمعون في الوعظ مع منع الخليفة له وغيرهم(25).
ومما يستدل به في هذا المقام ما جاء في قصة سرية عبدالله بن حذافة – رضي الله عنه - عندما أمر أصحابه بأن يوقدون نارا ويدخلوها.. فلما بلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: "لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف"(26).
قال ابن القيم ـ بعد إيراده لتلك الحادثة ـ: "فإن قيل: فلو دخلوها طاعة لله ورسوله في ظنهم فكانوا متأولين مخطئين فكيف يخلدون فيها؟ قيل: لما كان إلقاء نفوسهم في النار معصية يكونون بها قاتلي أنفسهم، فهّموا بالمبادرة إليها من غير اجتهاد منهم: هل هو طاعة وقربة أو معصية؟ كانوا مُقْدِمين على ما هو محرم عليهم ولا تسوغ طاعة ولي الأمر فيه، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق..
وإن كانوا مطيعين لولي الأمر فلم تدفعهم طاعتهم لولي الأمر معصيتهم لله ورسوله، لأنهم قد علموا أن من قتل نفسه فهو مستحق للوعيد..
فإذا كان هذا حكم من عذّب نفسه طاعةً لولي الأمر، فكيف من عذّب مسلماً لا يجوز تعذيبه طاعةً لولي الأمر؟ وأيضاً فإذا كان الصحابة المذكورين لو دخلوها لما خرجوا منها مع قصدهم طاعة الله ورسوله بذلك الدخول، فكيف بمن حمله على ما لا يجوز من الطاعةِ الرغبةُ والرهبةُ الدنيوية؟ "(27).
وقال الخطابي: "هذا يدل على أن طاعة الولاة لا تجب إلا في المعروف، كالخروج في البعث إذا أمر به الولاة والنفوذ لهم في الأمور التي هي الطاعات ومصالح المسلمين، فأما ما كان منها معصية كقتل النفس المحرمة وما أشبهه فلا طاعة لهم في ذلك"(28).
ولما ساق الإمام البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}الآية. نزل في عبدالله بن حذافة إذ بعثه النبي – صلى الله عليه وسلم - في سرية.
قال الحافظ ابن حجر: "وسببه أن الذين همّوا أن يطيعوه وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة، والذين امتنعوا عارضه عندهم الفرار من النار، فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع وهو الرد إلى الله وإلى رسوله (29).
_______________
(1) فتح القدير 1/481
(2) المفهم 4/35 وانظر طرح التثريب 8/82
(3) قواعد الأحكام ص 604
(4) الفتاوى 27/296
(5) الفتاوى 19/69
(6) ص495 تحقيق الدويش، وانظر منهاج السنة 3/490، 503
(7) فتح الباري 13/112
(8) أخرجه أحمد 5/301 وصححه الألباني في الصحيحية 2/139
(9) أخرجه الخلال في السنة 1/118
(10) فتح الباري 13/111
(11) مجموع الفتاوى 31/39
(12) إعلام الموقعين 2/240
(13) مجموع الفتاوى 25/81 وانظر المستدرك 3/160
(14) انظر منهاج السنة 3/387ـ390
(15) مجمع الفتاوى 29/196
(16) خرجه ابن أبي شيبة كما في الفتح 13/10
(17) الفتح 13/10
(18) الاستذكار: 14/37
(19) البيان والتحصيل لابن رشد 16/362
(20) الإبانة الصغرى لابن بطة ص155
(21) مجموع الفتاوى 4/443
(22) إعلام الموقعين 4/115
(23) سير أعلام النبلاء 8/80
(24) انظر الكامل لابن الأثير، حوادث سنة 323هـ
(25) انظر طبقات الحنابلة 1/134، 2/158
(26) أخرجه الشيخان
(27) زاد المعاد 3/369، 370 = باختصار
(28) عون المعبود 7/289
(29) فتح الباري 8/254