إن فلسطين المباركة أرض إسلامية خالصة، فهي موطن أبينا إبراهيم، ومولد عيسى، ومستقر موسى، ومسرى محمد، ومجمع الأنبياء والمرسلين – عليهم أفضل الصلاة والتسليم – فقد جمعهم الله تعالى خلف محمد – عليه الصلاة والسلام – ليصلي بهم ليلة الإسراء والمعراج في تلك الرحلة الربانية التي نقلته من مكة إلى القدس ثم إلى السماوات العلى.
وكان لهذه الرحلة، وهذا الجمع المبارك معانٍ عظيمة، ودلالات كثيرة، ومنها: أن الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير، لتربط بين الأماكن المقدسة للرسالات السماوية، ولتعلن وراثة الرسول الخاتم – صلى الله عليه وسلم- لمقدسات الرسل قبله، وارتباط رسالته بها جميعاً، وأنه وأتباعه أولى بتلك الرسالات السماوية القائمة على توحيد الله تعالى، وإخلاص العبودية له من أتباعها الذين حرفوها، وأدخلوا فيها من المحدثات والشركيات ما يتنافى وحقيقتها والمقصود منها.
ومنها: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – هو سيد المرسلين وإمامهم، ودينه هو الدين الخاتم المهيمن على الأديان كلها، والناسخ لما سبقه من الشرائع والمناهج {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
ومن هذه الدلالات أيضاً: أن الأنبياء وإن اختلفت شرائعهم فإن دينهم واحد، ودعوتهم واحدة، فكلهم يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} وكان كل رسول يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، ولهذا أمرنا الله تعالى بالإيمان بجميع الأنبياء ومحبتهم وموالاتهم، كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}.
وإذا كان اليهود يزعمون أنهم أتباع موسى عليه السلام، والنصارى يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام، فنحن أولى بموسى وعيسى منهم لأننا وإياهما على طريق واحد، ودين واحد، أما هؤلاء اليهود والنصارى فقد بدَّلوا وحرفوا وجعلوا موسى وعيسى إلهين من دون الله، ونقضوا العهد والميثاق الذي أخذه عليهم موسى وعيسى أن يتبعوا محمداً عليه الصلاة والسلام: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي – صلى الله عليه وسلم – المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم عن ذلك: فقالوا هذا يوم عظيم نجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه, فقال عليه الصلاة والسلام: "نحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه وأمر الناس بصيامه".
فإذا كان اليهود يزعمون أن لهم حقاً في فلسطين لأنها مهاجر نبيهم موسى، وأنه قد وعدهم بها، فإننا أحق بها لأننا أتباعه على الحقيقة، وأتباع إبراهيم وعيسى ومحمد وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ونحن موحدون دعاة إلى التوحيد كما كان الأنبياء جميعهم كذلك، ولأجل هذا فإن فلسطين المباركة أرض إسلامية خالصة، والمسلمون أحق بها بتوريث الله إياها لهم.
وهذه حقائق ثابتة تدمغ كل الدعاوى الباطلة التي يتمسك بها الصهاينة المحتلون لتبرير احتلالهم لديارنا ومقدساتنا في فلسطين.
ففلسطين المباركة حق لجميع المسلمين، وتحريرها والدفاع عنها ليس واجباً على الفلسطينيين وحدهم، بل هو واجب على كل المسلمين، ولئن حاز إخواننا في فلسطين قصب السبق في الدفاع عن هذه الأرض المباركة، وضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء، والصبر والمصابرة، والجهاد والمرابطة، وتحملوا آلام الحصار والتجويع، وويلات القصف والتدمير، وآهات الملاحقة والتقتيل، ومرارات الترويع والتخويف، فإن واجباً علينا جميعاً أن نسعى لرفع الظلم عن إخواننا، وأن نبذل كل ما نستطيع لنصرتهم ومواساتهم، وكسر شوكة أعدائهم، وإفشال مخططاتهم لتركيع المسلمين والهيمنة على بلادهم.
ومن رحمة الله بعباده المؤمنين أن جعلهم إخوة متحابين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وهذه صيغة حصر وقصر، والمعنى: أنه لا أخوة صادقة بلا إيمان، ولا إيمان صادق بلا شعور بالأخوة للمؤمنين، وقيام بحقوقهم، فمحبة المؤمنين وموالاتهم دليل على صحة الإيمان، وهي من لوازم محبة الله تعالى، فالمؤمن الصادق يحب الله تعالى ويحب من يحب الله من أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين كما قال ربنا – عز وجل-: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} فأخبر سبحانه أن ولي المؤمن هو الله ورسوله وعباده المؤمنون، وهذا عام في كل مؤمن سواء كان من أهل قرابته أو بلده أو جنسه أو لغته أو مذهبه أو لم يكن.
وقد أكد النبي – صلى الله عليه وسلم- هذه الحقيقة في أحاديث كثيرة، وبين أن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه، وجعل المؤمنين مهما اختلفت أوطانهم، وتباينت أجناسهم ولغاتهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
بل قال عليه الصلاة والسلام: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه. فدل ذلك على أن كمال الإيمان الواجب لا يتم إلا بهذا، وأن يأتي المسلم لأخيه المسلم بمثل ما يحب أن يأتي به إليه.
هكذا أراد الله للمسلمين أن يكونوا: إخوة متآلفين, متعاونين متكاتفين، متواصلين متراحمين.
بل لقد جعل الله حقاً على كل مسلم أن يدعو لإخوانه المسلمين، وعباد الله الصالحين، في كل صلاة يؤديها فريضة كانت أو نافلة، وذلك حين يجلس للتشهد فيقول في أثناء تشهده: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فهو يدعو لكل عبد صالح: سابق أو حاضر أو لاحق في السماء أو في الأرض، من الإنس أو الجن أو الملائكة.
وكم يجيش في النفس من مشاعر الفرح والغبطة، والسرور بهذه النعمة، حين يتذكر المسلم: أنه ما من مصل على وجه الأرض إلا ويدعو له، ولإخوانه المسلمين في صلاته.
وقد مدح الله المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وفي صحيح مسلم عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكَّل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل".
فيا له من فضل عظيم، ما من خير تدعو به لأخيك المسلم إلا كان لك من الخير مثله، مع ما لك من أجر الدعاء، وأجر النصح لأخيك والإحسان إليه بالدعاء له.
ومن أعظم حقوق الأخوة: حق المواساة والنصرة، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه – أي إلى عدوه، وزاد في رواية "ولا يخذله"، أي: لا يترك نصرته في موطن يحتاج فيه إلى النصرة والمواساة، "من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كُربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" متفق عليه.
وقال – عليه الصلاة والسلام: "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً أرأيت إن كان ظالماً، كيف أنصره؟ قال: "تحجُزُه ـ أي تمنعه ـ من الظلم، فإن ذلك نصره" رواه البخاري.
والمواساة للمؤمنين أنواع كثيرة: مواساة بالمال، ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة لهم، ومواساة بالنصيحة والإرشاد، ومواساة بالدعم السياسي والمعنوي، ومواساة بالتعريف بأحوالهم ونصرة قضاياهم، ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجع لهم ومشاركتهم في آلامهم وآمالهم، وكل ميسر لما خلق له، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} فمن صدق مع الله، وجاهد في سبيله مخلصاً له سبحانه وفقه وهداه، ويسر له سبل الخير والبر، وفتح له أبواب الجهاد والنصر، ومن ظل يضرب كفاً بكف، ويكتفي بالتحزن والتلمظ، ويعتذر لقعوده عن النصرة والمواساة بأنه لا يقدر أن يفعل شيئاً فليراجع إيمانه، وليعلم أن في إخلاصه خللاً.
يقول ابن القيم – رحمه الله-: "وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة، وكلما قوى قويت. وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أعظم الناس مواساة لأصحابه بذلك كله، فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له".
إن الشعور بهذه الإخوة، والقيام بحقوقها منبعه ودافعه هو الإيمان، وكلما كان الإنسان أكثر إيماناً، كان أكثر محبة للمسلمين، ونصحاً لهم، وحدباً عليهم، واهتماماً بشأنهم، وسعياً في مناصرتهم ومواساتهم.
وإذا ضعف الإيمان في النفوس، استحكمت الأنانيات، وعظم حب الذات، وأصبح الإنسان حبيس مصالحه الشخصية، ومنافعه الذاتية العاجلة، لا يرى غير نفسه، ولا يشعر بحق إخوانه عليه، ولا يكترث بما يحل بهم من مصائب ونكبات، كأنه لا تربطه بهم رابطة، ولا تجمع بينه وبينهم صلة، وليس لهم عليه حقوق ولا واجبات، فهو معزول عنهم لا يهتم بشئونهم، ولا يعلم شيئاً عن أحوالهم، بل لا يريد أن يعلم، فضلاً عن أن يتألم لآلامهم، ويشارك في نصرتهم، ودفع الأذى والظلم عنهم.
ولهذا نجد بعض الناس ممن رقّ دينهم، وضعف إيمانهم، يتأفف ويتبرم، حين يُحدَّث عما يحصل للمسلمين في فلسطين أو غيرها، ويقول بلسان حاله وربما مقاله: ما لنا ولهم؟ لسنا مسئولين عنهم، ولسنا مكلفين بهم؟ أكلما حصل شيء للمسلمين هنا أو هناك، جئتم تزعجوننا بأخبارهم وتصيحون بنا لنصرتهم ومواساتهم؟
هكذا يتكلم ضعاف الإيمان، وبمثل هذا يتفوهون، كبرت كلمة تخرج من أفواههم لو كانوا يعقلون. أين أخوة الإيمان؟ أين الأمة الواحدة؟ أين الشعور بالجسد الواحد؟ أين البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا؟
كم يستغيث المستضعفون وهم *** قتلى وأسرى فما يهتزُّ إنسانُ
ما ذا التقاطع في الإسلام بينكمُ *** وأنتمُ يا عباد الله إخوانُ
ألا يعلم هؤلاء المقصرون في حق إخوانهم أن الله ابتلى أولئك بالمصائب ليصبروا ويثبتوا ويجاهدوا، وابتلانا بالنعم لنشكر وننصر، ونعين ونواسي، ونجاهد بأموالنا وألسنتنا ودعواتنا وعقولنا ومشاعرنا؟
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}، {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} فالله تعالى قادر على أن يهلك الظالمين في لحظة، ويأخذهم على حين غرة، ولكنه ابتلى بهم أهل الإيمان ليعلم المجاهد الصابر من القاعد الخامل، والمؤمن الصادق من الدعي المنافق: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
وإن صفو العيش لا يدوم، ومتاعب الحياة وأرزاؤها ليست حكراً على قوم دون قوم، وإن حساب الآخرة لعسير، وخذلان المسلم شيء عظيم خطير. ولله در القائل:
يا راقد الليل مسروراً بأوله *** إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً
ولقد هان المسلمون أفراداً، وهانوا شعوباً، حين ضعفت فيهم أواصر الأخوة، ووهنت فيهم حبال المحبة والمودة، وقصروا في نصرة بعضهم بعضاً، وقعدوا عن القيام بحقوق بعضهم على بعض، فزالت هيبتهم وديست كرامتهم، وطمع فيهم أعداؤهم، وانتهكت حرماتهم، واستلبت خيراتهم، واحتلت ديارهم بلداً إثر بلد، وحالهم يقول: أكلت يوم أكل الثور الأبيض!! وصاروا يعيشون على هامش الحياة لا قيمة لهم ولا وزن، وأصبح دم المسلم أرخص الدماء، وحماه مباحاً لكل دعي ودخيل.
حين يقتل يهودي أو نصراني، أو بوذي وثني، تقوم الدنيا ولا تقعد، وترغى وتزبد، وتبرق وترعد، وتتحرك الهيئات والجمعيات الدولية، والمنظمات الأهلية والحقوقية، وتستنفر وسائل الإعلام، ويعبأ الرأي العالمي لاستنكار ما حدث، وللثأر ممن قتل.
أما إخواننا في فلسطين فلا بواكي لهم، يباد شعب بأكمله، ويشرد عن وطنه، وتنتهب خيراته، وتستباح حرماته، فلا تكاد تسمع منكراً، أو تجد ناصراً، وصار الحال كما قال الشاعر:
قتْلُ امرئ في غابةٍ جريمة لا تغتفر *** وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر
وليس الحال في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى من بلاد المسلمين ببعيد عما يحصل لإخواننا في فلسطين، وهذا كله يحدث أمام سمع العالم وبصره، من غير أن يحرك ساكناً، أو يهب لنجدة المظلوم، وإنقاذ الأبرياء من النساء والرجال، والشيوخ والأطفال، سوى جهود فردية متناثرة، وأصوات عاقلة منصفة، لكنها خافتة لا تكاد تسمع!! فإلى الله نشكو ضعفنا وهواننا على الناس، وإليه نشكو تفرقنا وتسلط بعضنا على بعض.
في سنة ثلاث وعشرين ومئتين هجم ملك الروم على بلاد المسلمين، وأخذ يعمل السيف فيهم قتلاً وإحراقاً وتشريداً، ووقعت امرأة من المسلمين في الأسر، فأخذت تنادي بأعلى صوتها "وامعتصماه" فلما وصل نداؤها إلى الخليفة العباسي المعتصم بالله، هب لنجدتها، وأقسم بالله لا ينام على فراش حتى يؤدب الروم وينتصر لتلك المرأة الأسيرة، فجهز جيشاً عرمرماً, قاده بنفسه، وكان المنجمون يحثونه على الانتظار، لأن الزمن ليس زمن نصر، فلم يعبأ بقولهم، وتقدم بجيشه اللجب حتى كسر شوكة الروم, وردهم على أعقابهم خاسرين، وفتح أكبر حصونهم وهو حصن عمورية، وأقام بها خمسة وعشرين يوماً, ثم رجع منصوراً مظفراً سالما غانماً حتى كادت الإبل تعجز عن حمل الغنائم والأسلاب، فأنشد أبو تمام:
السيف أصدق أنباءً من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعبِ
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به *** نظم من الشعر، أو نثر من الخطب
أين الرواية، بل أين النجوم وما *** صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
إننا لسنا ننتظر من أعدائنا أكثر مما يفعلون بنا، من ظلم وعدوان، وتواطؤ علينا، أو تجاهل لقضايانا، وسكوت عما يفعل بإخواننا في فلسطين أو غيرها، فهم أعداؤنا، لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، ولا يرعون لمسلم عهداً ولا حرمة، وليس أبلغ من قول الله تعالى عنهم: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} وقوله: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} إنهم لن يرضوا عنا مهما تنازلنا لهم، وخضعنا لهيمنتهم، وسكتنا عن ظلمهم وابتزازهم، إنهم لن يرضوا عنا إلا أن نترك ديننا ونتبع ملتهم، وصدق الله إذ يقول: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ}، وكيف يجوز لنا موالاتهم، والركون إليهم، والثقة بهم والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
ولسنا ننكر وجود منصفين ومتعاطفين من اليهود والنصارى وغيرهم، وأنهم لا يرضون بما يفعله الصهاينة وحلفاؤهم من ظلم عظيم، وعدوان صارخ على أهلنا في فلسطين، ولكن وجود أمثال هؤلاء المنصفين المتعاطفين مع كثرتهم لا ينفي حقيقة مهمة لا يجوز نسيانها أو التغافل عنها في ظل هذا الصراع المكشوف، والحرب الشرسة التي يشنها علينا أعداؤنا، وهو أن تلك الدول التي تعلن الحرب علينا نحن المسلمين، وتسعى بكل الوسائل لتحقيق أطماعها، وفرض هيمنتها لا يمكن أن يردعها عن ظلمها وعدوانها إلا تمسكنا بعقيدتنا وهويتنا الإسلامية، وأخذنا بأسباب القوة، وتوحيد صفوفنا، وأن يكون لدينا ثقة بالنصر، وإرادة قوية تكون عصية على الخنوع والركوع، أبية على الذل والانكسار، وأن نحذر من الركون لهؤلاء الأعداء والثقة بهم، وأن نعلم أنهم وإن أظهروا شيئاً من التعاطف والتأييد أحياناً فإنما يفعلون ذلك خداعاً وتمويهاً، وذراً للرماد في العيون، وامتصاصاً لحمية المسلمين وغضبتهم لإخوانهم المستضعفين، وحتى يكون لهم يد في صناعة الأحداث وتوجيهها بما يخدم مصالحهم ويحقق أهدافهم.
ومن وسائلهم الخبيثة في هذه الحرب الظالمة: قلب الحقائق، وتشويه الواقع، فيجعلون الغاصب المعتدي مظلوماً مقهوراً، وعلى استخدام السلاح مكرهاً مجبوراً، وأما الضحية المظلوم فهو مستفز ظلوم، وإذا استغاث أو صاح بقاتله أو حاول الدفاع عن نفسه فهو إرهابي مجرم، ولهذا نجدهم ينحون باللائمة على أطفال الحجارة وشباب الانتفاضة، ويغضون الطرف عن اليهود المغتصبين المدججين بأنواع الأسلحة الفتاكة في البر والبحر والجو، من طائرات وبارجات ومدافع ودبابات، ويسكتون عن قتل الأطفال والشيوخ والنساء، وهدم البيوت على رؤوس الأبرياء، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فأخذوا يبررون للمجرم إجرامه، ويلتمسون له المعاذير، ويمنعون حتى من إدانته والإنكار عليه.
هكذا يفعل أعداء الإسلام والمسلمين بأهلنا في فلسطين، وفي مناطق أخرى من بلاد المسلمين!! والشيء من معدنه لا يستغرب، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: ماذا فعلنا نحن المسلمين لإخواننا هناك؟ وهل ندرك أن الحرب عليهم هي حرب على الإسلام والمسلمين؟ وأن مدافعتهم لأولئك الأعداء حماية لبيضة الإسلام ودفاع عن بلاد المسلمين؟ وأنهم ـ لا سمح الله ـ لو هزموا أمام أولئك الأعداء فسينقضون على بقية البلاد يقضمونها بلداً إثر بلد، حتى يعيدوا تقسيم خريطة المنطقة من جديد، ويضمنوا بتفتيتها تركيعها، واستمرار تبعيتها وخضوعها لهم؟ أليس هذا هو ما صرح به زعماؤهم أكثر من مرة؟ وكشفته مخططاتهم السرية والعلنية!! فهي حرب مكشوفة، ومخططات مفضوحة، فهل نتفرج على إخواننا وهم يهانون ويذبحون، وننتظر دورنا في الإهانة والذبح!!
لا يصح أن نلقي بالمسؤولية على الحكام والعلماء وحدهم، وإن كانت مسؤوليتهم أكبر من غيرهم، كل منا يجب أن يساهم في النصرة والمدافعة، فهو واجب شرعي على المسلمين جميعاً، كل بحسب موقعه ومكانته، وعلى قدر استطاعته وقدرته.
إننا نستطيع الكثير الكثير، وواجب علينا مواساة إخواننا وإعانتهم بكل ما نقدر عليه من عون مادي ومعنوي، وذلك بالتعرف على أخبارهم، ومعايشة آلامهم، والتضامن معهم، وشرح قضيتهم، والمطالبة بحقوقهم، ودفع الظلم والضرر عنهم عبر وسائل الإعلام المختلفة، وعبر المؤتمرات والمنظمات التي تعنى بحقوق الإنسان.
ومن نصرتهم: الإلحاح بالدعاء لهم والدعاء على أعدائهم، فإن الدعاء سلاح المؤمن، وعدته في الشدة والرخاء:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه *** وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكن *** لها أمد وللأمد انقضاءُ
وقد ظل النبي – صلى الله عليه وسلم- يقنت شهراً في الصلوات المكتوبة يدعو على أحياء من العرب قتلوا بعض أصحابه عليه الصلاة والسلام.
ولا يخفى على أحد حاجتهم الماسة إلى الدعم المادي، لتأمين الغذاء والكساء والدواء والمأوى، ومعالجة الجرحى والمرضى، وكفالة الأيتام والأرامل والمشردين، والجهاد بالمال مقدم في آيات كثيرة من كتاب الله على الجهاد بالنفس، فلا تبخلوا على أنفسكم وإخوانكم، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}، {هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}.
وأضم صوتي بهذه المناسبة إلى صوت الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بمطالبة منظمة المؤتمر الإسلامي التي تمثل الدول الإسلامية "بالعمل على فتح فرع للمنظمة في غزة بحيث ترصد منه وإليه كل شئون الدعم المالي والعيني باسم المنظمة، للخروج مما يسمونه زورا وبهتانا (تمويل الإرهاب)، وتفعيل دور هذا الفرع ليكون عين المنظمة على ما يجري من أحداث هناك, وتخصيص حملات إغاثة شهرية باسم المنظمة، وبغطاء من منظمة الأمم المتحدة، في حال صعوبة فتح المعابر الحدودية لغزة المحاصرة... ومن المؤسف أن تكون دولنا الإسلامية والعربية جزءا من هذا الحصار، فتقوم هي بنفسها بمنع التحويلات الإغاثية وغلق الحدود والمعابر بحجة الاتفاقات الدولية والقوائم الإرهابية الأمريكية!! وكأن المجازر اليهودية في الداخل هي غاية الالتزام والانصياع للشرعية الدولية والمقتضيات الإنسانية!! وكأن الذين يموتون هناك من جراء هذا الحصار مخلوقات قادمة من المريخ لا تمت لنا ولا للبشرية بصلة!!
كما نطالب الدول الإسلامية التي تتشكل منها هذه المنظمة ببذل جهدها في فتح الباب واسعا بلا عوائق أمام جميع الأعمال الإغاثية والمؤسسات الخيرية من كل بلد وجنس دون قيود لتقوم بدورها الإنساني في إغاثة المنكوبين وأن يشمل تسهيل الحركة المالية والتحويل بين الحسابات من غزة وإليها، ونهيب بالمنظمة وأعضائها من الدول الإسلامية أن توفر الغطاء السياسي والعملي لمثل هذه التحركات والتمويلات، وأن تعمل على كف حملات المنع والتضييق والمراقبة المعوقة، وأن يتم ذلك سريعا دون إبطاء ودون انتظار لإذن أحد... وليس من المنتظر في مثل هذه الأحداث الدامية أن تقتصر المنظمة على الشجب والتنديد والإدانة والاستنكار وغير ذلك من وسائل أثبتت سبعون عامًا من معاناة فلسطين أنها وحدها لا تغني فتيلا، بل الواجب والمأمول أن يكون لمنظمة بهذا الحجم تمثل العالم الإسلامي كله موقف عملي ينعكس على أرض الواقع ، ويحس بأثره المباشر إخواننا في قلب غزة المحاصرة". {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.