وداعًا مشرف..والآتي أسوأ!
27 ربيع الأول 1429
طلعت رميح

مؤخرًا، أُعلن رسميًا عن توديع باكستان حكم البزة العسكرية وطريقة الحكم بالقوة الصلبة. لقد جاء اختيار رئيس الوزراء الباكستاني (المعارض والسجين السابق في عهد مشرف) من خلال البرلمان بعد انتخابات شعبية هُزم فيها حزب الرئيس، كما رئيس الوزراء الجديد، كان أول ما أعلنه هو إنهاء حالة الإقامة الجبرية التي عاش فيها قضاة المحكمة الدستورية الذين وقفوا في صف الحكم بالقانون، وضد الحكم بالبزة العسكرية، أو ضد تغيير "لباس" الرئيس من العسكري إلى المدني مع بقائه وبقاء سلطاته كما هي.
وفي ذلك يبدو أن الرئيس "مشرف" ذاته، لم يعد فقط رئيسًا شرفيًا، وإنما هو بات أقرب إلى مغادرة الكرسي الرئاسي، باعتبار أن القضاة المفرج عنهم من أسر الإقامة الجبرية كانوا رفضوا الاعتراف بدستورية الإجراءات التي اتخذها "مشرف" خلال مرحلة تغيير بزته لا صفته، وأن إطلاق سراحهم يحقق هزيمة مهمة له ولمركزه.
وإذا كنا توقعنا من قبل أن يغادر "مشرف" وأن في ذلك عبرة للجميع في تحليل على ذات الموقع (المسلم)، فإن الإشارة هنا لازمة، بأن "مشرف" كان حاول من خلال إجراءاته في الانتخابات – وقبلها من خلال استعادة "بي نظير بوتو"، و"نواز شريف" من الخارج، وتفعيل دورهما – أن يغير طريقة ممارسة الصراع في باكستان من الصراع العسكري مع الحركات الإسلامية (وفق المظهر القبلي)، في الأطراف إلى صراع "ديمقراطي" في مركز الدولة وحول دورها وطريقة أدائها، وفق النظام الديمقراطي أو العلماني بوصف أدق.
وهنا، فإننا نتوقع أن القادم أسوأ في باكستان، حيث الديموقراطية الجارية، ليست هي تلك الديمقراطية الممكن من خلالها إعادة تأسيس الحكم وفق علاقات ومعادلات وتوازنات تحقق لباكستان الاستقرار والقوة والقدرة على مواجهة التحديات في الجوار وتلك القادمة عبر المحيط، إضافة إلى تلك الجارية في الداخل. نحن هنا في الحالة الباكستانية أمام تقدم للمخطط الأمريكي والغربي في باكستان، ولسنا أمام تحقيق حالة أفضل للحكم ولتطوير قدرة باكستان.
كما هنا يجب النظر في مؤشرات ذات دلالات لاتجاه الديمقراطية "الجديدة". فالبداية لهذه الديمقوقراطية، أو التصريحات التي بدأ بها رئيس الوزراء "الديمقراطي" الجديد، لم تكن فقط فك أسر القضاة المحددة إقامتهم، لكنه أعلن أيضًا عن العمل من أجل تشكيل لجنة من الأمم المتحدة للتحقيق في مصرع "بي نظير بوتو". وفي ذلك لا يبدو الأمر محاولة لإحقاق الحق أو سعيًا نحو معرفة القتلة، بل توجه نحو واحد من أخطر الإجراءات التي يمكن أن يأخذها رئيس وزراء "ديمقراطي"، من زاوية تأثيرها على "استقلال" باكستان، إذ هي إعلان بإدخال "الدور الدولي" ضمن معطيات الصراع الداخلي، وهو ما رأينا تأثيراته بشكل واضح وخطير في لبنان، إضافة إلى ما نشهده في مختلف الصراعات الجارية في المنطقة. والأغلب في تفسير هذا التصريح، هو أن رئيس الوزراء "جاهز" للاستعانة بالدور الخارجي، في صراعه مع الرئيس، ولعلنا قد نشهد أيامًا كتلك التي عاشها الرئيس اللبناني "إميل لحود"، في فترة مقبلة في باكستان، كما يتوقع أن يجري الانطلاق من هذا الفعل باتجاه إضعاف مؤسسة المخابرات الباكستانية "المتهمة" دومًا بمساندة حركة طالبان وبعض الاتجاهات الإسلامية!.

الوحدة بالقوة!

في النظر إلى تجربة "برويز مشرف في الحكم، فإن الأساس الذي اعتمده في التعامل مع مختلف قضايا الحكم، كانت لغة القوة الصلبة والإكراه والاستخدام المفرط لصلاحيات الرئاسة.
وحين حضر الضغط الأمريكي المباشر على الحكم – ما بعد أحداث سبتمبر 2001 – لتحويل باكستان إلى نقطة انطلاق للهجوم على أفغانستان والقاعدة ولتمكين الولايات المتحدة من بناء قاعدة سيطرة استراتيجية في تلك المنطقة، وجد "برويز مشرف" نفسه في موقع المستجيب للإملاءات والقادر على إنفاذ السياسات في الآن ذاته، الأولى لأنه حاكم فرد لا يمكن له التذرع بمعارضة شعبية وجماهيرية – يقيم لها وزنًا في حكمه – للتهرب من الطلبات والضغوط الأمريكية، والثانية لأنه حاكم مطلق، بما سهل له الاستجابة للطلبات الأمريكية والتصرف في مصالح الأمة الباكستانية المسلمة، كما يحدد ويرى هو ومن يحميه أو من يتعاون مع حكمه من الخارج.
وهنا أوقع غرور الفردية في السلطة واستخدام القوة بلا رادع، الرئيس الباكستاني، في شرك دفع ثمنه مؤخرًا بطريقة مهينة ستتطور لاحقًا إلى ما لا يخطر على باله.
كان الشرك متعدد الاتجاهات والمجالات، ودخولاً في حقل ألغام.
فمن ناحية وقع "مشرف" في شرك خداع القوة، حين دخل في مواجهة مع شعبه، بعد أن قبل الانضمام إلى الحلف الأمريكي المحارب للدين والعقيدة، والقوى المدافعة عن دينها ووطنها. كما أوقعه شرك الشعور بغرور القوة في الدخول في معارك مع مواطنيه على الحدود مع أفغانستان، حين تحركت القبائل الباكستانية ضده وضد سياسته في التعاون مع الولايات المتحدة.
ومن ناحية أخرى، أوقع غرور القوة الرئيس "مشرف" في شرك آخر، حين تصور أن استخدامه للقوة ضد أهل أفغانستان وضد القبائل الباكستانية، سيمثل أساسًا لاستقرار تحالفه مع الولايات المتحدة يدفع تلك القوة الغاشمة لزيادة الاعتماد عليه وحمايته، دون إدراك منه بأن كل طلقة يطلقها ضد شعبه، وضد المجاهدين في أفغانستان، إنما يعني أنه يسجل نقطة في سجل ضعفه، ويقدم نقطة ارتكاز أمريكية لتصعيد الضغط عليه، وهو ما انتهى به إلى فقدان كل أوراق القوة لديه، لينتهي الأمر بالولايات المتحدة إلى السعي لاستبداله – بنفس نظرية الفوضى البناءة التي تعتمدها في التعامل مع حلفائها أو أوراقها المحروقة في الحكم – بعد أن أصبح وجوده نقطة ضعف في قوتها وفي استراتيجيتها، أو باعتباره حسب المصطلح الشائع "ورقة محترقة" لا قيمة للاحتفاظ بها.
أدخل "مشرف" نفسه في دائرة تدور أطرافها فاعلة ومبادرة ومهاجمة وهو في داخلها مدافعًا، وكلما تحرك هو داخل الدائرة – تحت ضغط أطرافها – زاد إحكام الحصار حوله يومًا بعد يوم، إلى أن انتهى الأمر به إلى الوضع الراهن.

خطة مشرف

كان "مشرف" في بداية حكمه قد حدد مصدر التهديد لسلطته بأنها الحركات السياسية "القديمة"، ممثلة في حزب "بي نظري بوتو" و"نواز شريف"، وهو في ذلك لم يكن يخشى الحركات الإسلامية بحكم أوضاعها، وربما هو حاول عدم التعرض لها منذ البداية وحتى لا يدخل في مواجهة مع كل قوى المجتمع دفعة واحدة. كان الانقلاب العسكري الذي قام به موجهًاب الدرجة الأولى ضد الأحزاب الحاكمة، التي هي في ذاك الوقت أقرب إلى التغييرات الجهوية والقبلية في صورة أحزاب.
وواقع الحال أن "مشرف" سار بالبلاد شوطًا مهمًا في مجال التسليح النووي وتحقيق مصادر القوة العسكرية في مواجهة الهند. لكن الأوضاع تغيرت بعد أن ظهر أن "مشرف" يحاول في الآن ذاته نقل البلاد نحو نمط من الحياة الاجتماعية والثقافية العلمانية ووفق رؤية وفهم غربي. ثم تكشفت الأوراق والاتجاهات على نحو أوضح ما بعد أحداث سبتمبر 2001 ؛ إذ لم ينحاز الرئيس الباكستاني للمواقف والمصالح الغربية فقط، بل هو دخل في مواجهة مع الحركات والتيارات الإسلامية، بما أنهى عوامل شرعية في الحكم. هنا بدأ "مشرف" يغير من استراتيجيته، محددًا الجماعات التي تحمل السلاح في الأقاليم الأقرب إلى أفغانستان باعتبارها المهدد الاستراتيجي لنظام حكمه، فصار يرسل الجيش إلى أطراف باكستان لتقاتل القبائل والجماعات الإسلامية. وسواء كان ذلك راجعًا إلى طبيعة التوجيه والضغط الأمريكي، أو ناتجًا عن تقديره بأن العمل المسلح في الأطراف يمثل تحديًا عسكريًا لسلطة، فإن انهماكه في الصراع هناك قد وسع رقعة المواجهة الداخلية ضده. أو هو أضعف تركيزه على القوى السياسية "التقليدية" فصارت أقوى مما كانت عليه في السابق؛ بما جعله يرى المخرج من الأزمة في استدعاء قوة تلك الأحزاب لإعادة الصراع إلى النمط القديم السابق على وصوله إلى الحكم، وفق "لعبة" تقوم على إحضار المتصارعين إلى حلبة الصراع ليكون هو الحكم بينهما، أي أن يحضر حزبي "نواز" و"بوتو" المتصارعين مع البعض، ليدير هو هذا الصراع بينهما؛ من خلال بقائه في مركز السلطة – رئيس – ممسكًا بدفة الأمور. وقد نقول أيضًا، أن "مشرف" وتحت الضغط الأمريكي والغربي، لاستعادة دور الأحزاب القديمة قطعًا للطريق على القوى الإسلامية الصاعدة في الشارع الباكستاني، رأى في ذلك فرصة لإعادة تجديد لعبة الحكم ونقل الصراع إلى مركز الدولة من الأطراف، لإعادة تثبيت شرعيته في الحكم.
ولذا أعاد "مشرف"، "بي نظير" وفق اتفاقات محددة، وأعاد "نواز شريف" إلى مركز إبعاده، ولم يعده إلا وفق تراجع من "شريف".
لكن الأمور في مثل هذه الاستراتيجيات "المرتبكة" والمؤسسة على ضغوط من الخارج وعلى تفاعلات متعددة الاتجاهات والقوى في الداخل والتي بعضها جزء من لعبة الخارج، لا يمكن لأحد أن يمسك بها وحده ويديرها لصالحه، ليس فقط لأن عوامل القوة فيها هي عوامل متعددة ومتنوعة ومتغيرة درجة توجه ودور كل منها بين مرحلة وأخرى، ولكن أيضًا لأن تلك الخطوات جاءت كحالة تراجعية من قِبل الرئيس "مشرف" نفسه؛ ولذا قلنا أنه أصبح في داخل دائرة تدور حوله وتديره هو نفسه في دوامتها.
كانت إعادة الأحزاب السياسية التقليدية عامل قوة للدور الأمريكي الداخلي في باكستان على حساب "مشرف"، كما كانت تغيير للأدوات المستخدمة في النمط الجديد من الصراع في باكستان لا يمكن للرئيس الباكستاني من خلاله من استخدام القوة العسكرية الصلبة التي بنى على أساسها أسلوب التعاطي مع تحديات الحكم منذ بدء فترة حكمه، كما نفس الحال فيما يتعلق بصيغة الحزب الحاكم القائم على دعم الدولة له – حزب "مشرف" أو الحزب الموالي له – إذ مثل هذا الحزب لا يمكن له الصمود في مواجهة أحزاب وتيارات ذات طبيعة جهوية وذات فكر معارض صلب.. إلخ.
فقد "مشرف" القدرة على إدارة الصراع الجديد، وبات ينتقل من تراجع إلى آخر.

القادم الأسوأ

والآن، وإذ جرت الانتخابات في باكستان وانتهت إلى تشكيل برلمان لا يسيطر عليه الرئيس بعد هزيمة حزبه، ثم جرى انتخاب رئيس وزراء جديد منتخب، كان معارضًا سجينًا في سجون الرئيس، فإن ذلك لم يغير فقط دورة الصراع وأدواته فقط، وكذا لم يفتح الطريق واسعًا للتدخل الأمريكي في الشأن الداخلي، وفق أدوات جديدة عبر الأحزاب العلمانية ذات الرؤية الغربية، وإنما هو أيضًا، فتح الطريق على نحو أعمق لتفعيل الصراع في باكستان نحو التفكك، بما يعيد الأوضاع مرة أخرى إلى ذات الحالة والأوضاع التي دفعت الجيش الباكستاني للتدخل وإنهاء حالات الفوضى والتفكيك الجارية، بقيادة مشرف "سابقًا".
وفي محاولة لتأمل الاتجاهات العامة للأحداث المقبلة، فالأغلب أننا أمام سيناريو "أتاتوركي" – عكس – وفق صيغة تعتمد الأحزاب السياسية العلمانية، في مواجهة جهاز الدولة الباكستاني خاصة الجيش والمخابرات التي تحاول منذ نشأة باكستان وحتى الآن، التمسك بثوابت تأسيس باكستان التي تأسست على فكرة الإسلام والشعب المسلم حين انفصالها أو استقلالها عن الهند.
والقصد هنا، أننا أمام نمط معاكس لدورة الصراع في تركيا. لقد قامت تجربة علمنة تركيا على تأسيس جيش ونظام حكم يقوم على الفكر والممارسات العلمانية، لقمع شعب مسلم. وطوال الفترة منذ الإنهاء الرسمي لصيغة الخلافة الإسلامية خلال العشرينات في مركزها الأخير في تركيا، كانت اتجاهات الحركة هي صراع بين شعب يتطلع إلى حكم بلاده وفق عقيدته وهويته، وبين جيش ونظام يمنع أي تحول بهذا الاتجاه. وفي ذلك كانت تجربة "أربكان" شاهدًا، كما سعى بعض تلامذته وفق صياغات أخرى ورؤى مختلفة إلى ممارسة هذا النمط من الصراع، وها هي الآن مهددة بالوصول إلى ذات النتيجة حيث حزب العدالة والتنمية الذي يسيطر على البرلمان ويشكل الحكومة وكذا رئيس الدولة هو أحد قياداته، معروض أمر حله الآن أمام هيئات قضائية برؤية أنه معارض لأساس قيام النظام والدولة: أي العلمانية.
لكن الحالة في باكستان، سابقًا، كانت تجري وفق نمط آخر. كان نظام الدولة ومؤسساتها هو من يرفض العلمانية، في مواجهة تيارات سياسية في الشارع (خاصة حزب الشعب) تسعى إلى تغيير أسس النظام والدولة؛ ولذا جرت – ضمن أسباب أخرى أهمها الصراع مع الهند – العديد من الانقلابات العسكرية التي كانت تقصي الأحزاب السياسية المنتخبة عن الحكم. حتى وصل "مشرف" إلى الحكم، لتدخل باكستان في مرحلة جديدة رأس الدولة فيها هو من يحاول تغيير أسس النظام ونقله خطوات متدرجة نحو الحكم العلماني، لكن وفق آليات صيغة الحكم العسكري الذي يحافظ في ذات الوقت على عوامل القوة في الصراع مع الخارج خاصة الهند، وهو ما كان أحد ضرورات وبواعث ظهور وتنامي دور الحركة الإسلامية في معارضة الحكم.
ولذا قام "مشرف" بمواجهة الحركة الإسلامية بشكل متنامي، مع قوة التحالف مع الولايات المتحدة، كما كان ذلك هو ما دفع إلى العودة لاستدعاء القوى العلمانية القديمة للحكم من خلال الانتخابات.
وذلك ما يدعونا إلى القول بأن القادم أسوأ في باكستان، فمن ناحية سيجري صراع، ليس فقط لإقصاء الرئيس "مشرف"، وإنما "لترويض" المؤسسة العسكرية، ولتغيير أسس قيام الدولة والمؤسسات الباكستانية (نتوقع هنا عمليات تصفية متصاعدة لعناصر مؤثرة في أجهزة الدولة والمخابرات)، كما سينطلق الصراع متواترًا باتجاه الحركات الإسلامية في الأطراف وفي الشارع الباكستاني، كما سيتصاعد التوجه لتفعيل الحرب على أفغانستان وطالبان، لينفلت العقال في إنفاذ المخططات الأمريكية، بالتوازي مع إضعاف القوى الممانعة للاصطفاف مع الولايات المتحدة في الحرب ضد طالبان والقاعدة.