
عند نهاية زيارة (المستشارة الألمانية) ميركل إلى "إسرائيل" توجهت إلى مبنى البرلمان (الكنيست) وألقت خطاباً حماسياً كله تأييد لـ"إسرائيل"، بالباطل طبعا، لكنها ألقت هذا الخطاب باللغة الألمانية وهنا ثارت القيامة في "إسرائيل" حيث تقدمت أعداد من السياسيين "الإسرائيليين" لتعترض على إلقاء الخطاب باللغة الألمانية، وتناسوا أن هذا الخطاب كله تأييد لـ"إسرائيل" في احتلالها لفلسطين وفي سياستها العدوانية ضد الدول المحيطة بها وكان من بين هؤلاء الساسة "الإسرائيليين" والمعبّر عن وجهة نظرهم رجل يدعى أريه إلدات نقلت له بعض الفضائيات حديثا يهدد فيه المستشارة ويتوعدها لأنها ألقت خطابها باللغة الألمانية ويقول إننا لا نريد أن نسمع أبدا هذه اللغة أو حتى كلمات أو حروفاً منها في "إسرائيل" لأن هؤلاء الناس، أي الألمان، كانوا يريدون إبادتنا، وهو يشير بذلك إلى ما يزعم من إبادة خلال الحرب العالمية الثانية، وأضاف إلدات أنه يجب على "الإسرائيليين" واليهود مقاطعة الثقافة الألمانية كلها وكل منتجاتها ولكن في نفس الوقت لا بأس عليهم أن يقبلوا باستيراد أو الحصول مجانا على الأسلحة الألمانية المتقدمة وكل وسائل التكنولوجيا والصناعة الحديثة لأنها على حد قوله تقوّينا في "إسرائيل" على أعدائنا.
إن كلام هذا السياسي يثير أكثر من تساؤل:
فهو أولا: يدل على نزعة من الاستعلاء والغرور تملأ "الإسرائيليين" حتى وهم يتلقون بيدهم الحسنات والصدقات من الغرب اللازمة لقيامهم واستمرار دولتهم ولكن هذا لا يمنعهم من أن يقفوا في وجه الغرب، وبالذات دولة متقدمة مثل ألمانيا، موقف الند ويصرّحوا بأنهم ينتقدونها ويرفضون حتى لغتها، ناهيك عن ثقافتها وسائر منتجاتها الفكرية والأدبية والفنية الأخرى، ولو قارنّا هذا الموقف بموقف معظم الحكومات الإسلامية لوجدنا موقف تلك الأخيرة موقفاً مشيناً ومثيراً للاستفزاز والاستغراب والعار فهذه الحكومات لا تجد غضاضة في أن ترمي أنفسها تحت أقدام الغرب وأن تمارس أبشع أنواع التبعية إهانة وإذلالاً رغم أنها لا تتلقى من الغرب مثل ما تتلقاه "إسرائيل" مما هو ضروري لبقائها وقوتها الخارقة كما يزعمون. ولكن يجب التنويه إلى أن هذه الحكومات تمارس التبعية الذليلة للغرب لأنها تتلقى من الغرب ما هو أهم لها مما تحصل عليه "إسرائيل"، فهي تتلقى لأنفسها ضمانات غربية بالبقاء والاستمرارية في الحكم، ولا يهم بعد ذلك مصير شعوبها التي تعاني من الجوع وتقف في طوابير الخبز والسلع الأساسية ولكنها لا تتلقى أي شيء من الغرب. كل هذا لا يهم الحكومات طالما أنها تحظى بالبقاء في كراسي الحكم.
وثانيا، وفي نفس الوقت فإن موقف الساسة "الإسرائيليين" يشير أيضا إلى موقف آخر نسمعه منذ فترة من العلمانيين العرب الذين لايفتؤون يبكّتون ويتهكمون على الإسلاميين الذين يقبلون بالحصول من الغرب على السلع والمنتجات الصناعية والعلمية، لكنهم في نفس الوقت يرفضون كما يقول العلمانيون العرب ثقافة الغرب وفنونه وآدابه ونظرته إلى الحياة وسلوكياته وعاداته.
موقف الساسة "الإسرائيليين" يشير إلى أنه يمكن القبول بمنتجات الغرب الصناعية والتسليحية مع رفض ما يأتي من ناحيته من الأفكار والفنون والآداب لاسيما ما يخالف العقيدة أو السلوك الذاتي والقومي، لكننا في هذا الصدد يجب أن نشير إلى فارق مهم؛ فالإسلاميون عندما يرفضون ثقافة الغرب فإنهم لا يشتطون ولا يذهب بهم التطرف مذهب رفض لغات الغرب أو رفض كل ثقافات الغرب أو رفض كل سلوكيات الغرب حتى، فهم يقبلون على دراسة لغات الغرب وهم يجدون في بعض ثقافات وفنون وآداب الغرب ما يتفق مع الثقافة الإسلامية أو ما يتفق مع المنحى الإنساني العام لهذه الثقافة إنما يرفضون المذاهب والأفكار والسلوكيات التي تصادم العقيدة الإسلامية وتناقض السلوكيات والقيم والتعاليم والآداب الإسلامية.
أما "الإسرائيليون" الذين يذهبون إلى مقاطعة اللغة الألمانية ومقاطعة أي منتج ثقافي أو فكري أو فني أو أدبي ألماني فإنما يفعلون ذلك من منطلق عنصري شاذ مريب يذهب في العداء إلى الشعب الألماني حداً ينفي عنه إنسانيته، إذ يرفض حتى لغة هذا الشعب وكأنهم بذلك لا يعترفون لهذا الشعب بوجود أصلا أو يصرحون بعداوة عرقية عنصرية دفينة له ترفضه تماما.
والغريب أن هذا يحدث في الوقت الذي يقبل فيه هؤلاء "الإسرائيليون" على الأخذ بما تمنحه لهم ألمانيا من الصناعات المتقدمة والأسلحة التي تمكنهم من تنفيذ مخططاتهم العدوانية على ما حولهم من البلاد.
وهناك نقطة أخرى وهي أن الساسة "الإسرائيليين" الآن الذين يريدون رفض كل منتج ثقافي أو فكري أو أدبي ألماني ويصل بهم الشطط إلى حد رفض أن تسمع اللغة الألمانية في "إسرائيل" أو حروف منها أو كلمات منها هم أنفسهم الذين يسعون جاهدين هذه الأيام إلى إقامة ما يسمى بالتطبيع الثقافي مع البلاد العربية ولاسيما مع من تقيم معهم علاقات دبلوماسية مثل مصر مثلا فهم ينشئون في مصر مركزاً يسمونه المركز الأكاديمي "الإسرائيلي" ويوكلون إليه مهمة إجراء التطبيع الثقافي مع المصريين بترجمة المنتجات "الإسرائيلية" من العبرية إلى العربية وبتشجيع التبادل بين الأدباء والفنانين والمفكرين والصحفيين في البلدين والقيام بنشاطات كالمحاضرات ونشر الكتب، فهم من ناحية لا يجدون بأساً في أن يفرضوا، ولو بالقوة، لغتهم وثقافتهم على المصريين رغم العداء التاريخي ورغم رفض الشعب المصري للتطبيع ولكنهم في نفس الوقت يرفضون تماما إجراء أي تطبيع ثقافي مع الألمان رغم أنهم يحصلون من هؤلاء الألمان على منافع جمة مالية واقتصادية وعسكرية ضرورية لبقاء دولتهم واستمراريتهم.
ومن ناحية أخرى يجب أن نذكر مثلا ما تناقلته بعض الصحف في مصر منذ أشهر قليلة من أن "الإسرائيليين" قد تقدموا بطلب إلى الحكومة المصرية لتدريس اللغة العبرية في مدارس مصرية كتوطئة أو كتشجيع على عملية التطبيع ويأتي هذا التطبيع اللغوي إن جاز التعبير أو فرض اللغة العبرية بالقوة رغم صعوبتها وشذوذ جوانبها ليقارن مع رفض اليهود في "إسرائيل" للغة الألمانية رفضا تاما رغم أن أعدادا كبيرة من اليهود "الإسرائيليين" تعود أصولهم إلى ألمانيا، ورغم أن اللغة اليهودية التي يتحدث بها اليهود في أوروبا أو لغة اليدش هي لغة ألمانية الأصل ومع ذلك؛ فإن هؤلاء تذهب بهم العنصرية مذهباً يجعلهم يرفضون أي تطبيع مع اللغة الألمانية المسكينة التي غضبوا عليها وهم يقبلون من ألمانيا كل ما يأتي منها من منتجات تسليحية وتكنولوجية متقدمة.