
منذ نعومة أظفاري وأنا أسمع من المحيطين بي أن الاختلاط حرام ، وبعد أن بدأت أعي ورأيت أن هناك مدارس خاصة للأولاد ومثلها للبنات سألت عن سبب تلك التفرقة بينهما فقيل لي : إن الاختلاط حرام ولذلك يجب الفصل بين الأولاد والبنات .. وفي التعليم الجامعي رأيت أن هناك كليات خاصة بالأولاد وأخرى مثلها بالبنات وعرفت أن الفصل بينهما للسبب نفسه فالاختلاط حرام ...
وتلفتُّ حولي في مجتمعي الذي عشت فيه فوجدت أن للنساء أماكن خاصة يعلمن فيها منفصلة عن الرجال تماما فهناك بنوك نسائية ، وهناك أماكن خاصة مخصصة لعمل النساء في بعض الأجهزة الحكومية منفصلة عن الرجال تماما ونفس الشيء موجود عند بعض الشركات الكبرى ، وهكذا يتكرر الشيء نفسه في كل مكان تعمل فيه المرأة ، والسبب هو السبب فالاختلاط حرام ...
ومنذ نعومة أظفاري في مدينة الرياض كنت أذهب إلى السوق المركزي المسمى أنذلك "المقيبرة" فكنت أرى مجموعة من النساء يمارسن البيع في جزء مخصص لهن وسط السوق ويشتري منهن الرجال والنساء في الوقت نفسه ، ثم لما كبرت وجدت هذا النوع من الأسواق موجود في كثير من مدن المملكة ، ولا يزال موجودا إلى اليوم في الدمام والأحساء وأبها وربما غيرها من المدن الكبرى في بلادنا ، فكان هناك سؤال يلحّ عليّ : هل هذا اختلاط أم لا ؟؟ وهل هو جائز أم لا ؟؟
وعندما كبرت أكثر عرفت أن هيئة الأمر بالمعروف تمنع دخول العوائل في مهرجانات الجنادرية بحجة الاختلاط الذي يحصل بين الرجال والنساء ، ثم عرفت أنهم يفعلون الشيء نفسه في حديقة الحيوان في الرياض وللسبب نفسه أيضا ، وقريب من ذلك يحصل في معارض الكتب الدولية ...
هذي الأوضاع التي كنت أراها وكانت تبدو في ناظري غير متجانسة كانت ترسم في ذهني سؤالاً متكرراً : هل ما أراه يسمى اختلاطا أم لا ؟؟ ومن يحدد هذا المفهوم ؟؟ المجتمع أم علماؤه ؟؟
وقبل حوالي أسبوع نشرت بعض الصحف المحلية خبراً على لسان الدكتور غازي القصيبي وزير العمل قال فيه : إن نظام العمل الجديد ألغى النص الخاص بعدم جواز الاختلاط !!
ومفهوم هذا التصريح أن نظام العمل القديم كان "يحرم" الاختلاط بين الرجل والمرأة في العمل وأن النظام الجديد "أباح" هذا الاختلاط ..
والسؤال مرة أخرى : هل "التحريم" أو "الإباحة" من اختصاصات وزارة العمل ؟؟
صحيح أن قرار وزارة العمل هذه "الإباحة" بمقتضيات الشريعة الإسلامية .. أي أن الاختلاط بين الرجل والمرأة مباح في أماكن العمل بحسب الشريعة الإسلامية !! فهل الشريعة الإسلامية تبيح الاختلاط ؟ وإذا كانت الإجابة "بنعم" فكيف يحدد ضوابط الإباحة ؟؟ وإذا كان الإجابة "بلا" فكيف أجازت الوزارة لنفسها أن تتبنى هذا المشروع الذي لا يتفق مع مقتضيات الشريعة الإسلامية ؟؟
قبل حوالي سنة أصدرت الوزارة نفسها قراراً "أباحت" فيه قيام النساء بالبيع في الأماكن المتعلقة بالمستلزمات النسائية وأصدرت قراراً ألزمت فيه أصحاب المحلات بتخصيص أماكن للنساء للقيام بهذا العمل ، ولكن هذا المشروع أجهض في حينه لأنه اعتبر اختلاطا غير مشروع وكانت هيئة الأمر بالمعروف من أكثر الجهات الحكومية اعتراضًا على هذا المشروع بالإضافة إلى فئات مجتمعية أخرى لأن هذا المشروع كان بوابة للاختلاط بحسب ما كانوا يقولونه آنذاك ..
وزير العمل أعاد المشروع مرة أخرى ولكن بصورة مغايرة تماماً ، فالمشروع السابق كان شبيهاً بالأسواق النسائية الشعبية القديمة ولكن بصورة مطوّرة ولكن المشروع الحالي يتحدث عن اختلاط مشروع بحسب الشريعة الإسلامية !! ومفهوم هذا المشروع أن المرأة قد تكون مع زميلها في غرفة واحدة ، وقد يكون هناك رجلين وامرأة أو العكس في مكان واحد ، فهل هذا يُسمى اختلاطا ؟ وكيف يمكن أن نجعل الشريعة تتقبل هذا النوع من الاختلاط ؟؟
مرة أخرى أعيد طرح السؤال : من يحدد مفهوم الاختلاط ؟ ومن يحدد حكمه الشرعي ؟ هل هي وزارة العمل أم المتفقون أم دار الإفتاء أم أن الأمر متروك لكل مجتهد ؟؟
الفتاوى لم يعد لها قداستها واحترامها التي كنّا نعهدها في شبابنا لأن كلّ من هب ودب أصبح "مفتياَ" وأصبحنا نسمع فتاوى في غاية الغرابة تحركها المصالح أحياناً والجهل أحياناً أخرى ...
فهناك من أفتى أن ذبح الديك في عيد الأضحى يكفي عن سواه ، وهناك من أفتى أن رضاعة الكبار تجعلهم أخواناَ لاسيما في العمل المختلط ، وهناك من أفتى بتجريم من لم يحضر من الرؤساء لمؤتمر قمة سوريا ، وهناك من أفتى بتحريم مقاطعة بضائع العدو الصهيوني أو الأمريكي ، وهناك من أفتى أن لبس العباءة للمرأة ليس من الإسلام ، ومثله كشف الشعر والنحر والساقين ...
وفتاوى أخرى كثيرة تظهر هنا وهناك وكأن الفتوى أصبحت من السهولة بحيث يجيدها كل أحد ...
التمسح بالشريعة الإسلامية عند الرغبة في إصدار فتوى أصبحت سمة في مجتمعنا لأن الناس مرتبطون بالشريعة الإسلامية ويهمهم أن تكون تصرفاتهم بحسب هذه الشريعة ولهذا لا أستغرب إذا سمعنا في المستقبل من يقول : إن كشف المرأة لساقيها يجوز بحسب ضوابط الشريعة الإسلامية ، ومثله شرب الخمر وتعاطي الحشيش وما شابه ذلك وكله – طبعا - بحسب الشريعة الإسلامية !!
هيئة الأمر بالمعروف التي كان لها موقف واضح من الاختلاط بحسب مفهومها يبدو أنها غيرت هذا الموقف ولعلّ موجه التغيير جرفتها هي الأخرى ..
فمدير فرعها في مكة - بحسب "المدينة" - قال : إن تعميم الاختلاط في العمل وزع على جميع الهيئة للعمل على الفور ..
لكن المدير عاد ليعطي تفسيراً "هلامياً" للاختلاط فقال : إن الهيئة إذا لاحظت أي إخلال في تطبيق مفهوم التوسع في الاختلاط فإنها سترفع للجهات المختصة لتصحيح المسار .. !!
وقال أيضاً : إن صور الاختلاط ليست كلها جائزة وليست كلها مذمومة !! كلام ليس له معنى ، فهلّا قال بوضوح ما هو الاختلاط المحمود وما هو الاختلاط المذموم ؟ وهل جميع موظفيه يعرفون الفرق بينهما ؟؟
على أية حال أتمنى أن نعطي الشريعة الإسلامية احترامها ، وأن لا نقحمها في كل شي رغبة في تمريره تحت مظلتها ..
وأتمنى أن يكون في بلادنا جهة واحدة تحدد الضوابط الشرعية لكل ما هو حرام أو حلال حتى نقضي على فوضى الفتاوى التي تضر أكثر مما تنفع