بينديكت فى واشنطن.. رسالة سلام مسيحية.. أم تحضيرات حرب صهيونية
17 ربيع الثاني 1429
خالد يوسف

حينما شاهدت وقائع استقبال بنديكت السادس عشر بابا الفاتيكان على شاشة التلفاز، قفز إلى رأسى مشهد ريتشارد قلب الأسد ملك الإنجليز وهو يأمر بابا روما فى عصره أن يهبه البركة فورا، أو اللعنة فورا، كانت الكنيسة البابوية فى خدمة الملوك الأقوياء، تصوغ الخطاب الكنسى وفقا لمتطلبات الإمبراطوريات الأوروبية ومشاريعها الإستعمارية، وما تزال.. ولكن ثمة فروق لا يجب أن تهمل..
ـ أن كنيسة اليوم تخدم المشروع الصهيونى العالمى وتطرح مشروعا عالميا للتنصير المتصهين وليس فقط الاستيلاء على ثروات البلاد المستهدفة.
ـ أن الدولة الأقوى فى المنظومة العالمية الاستعمارية فى حالة تراجع وتتعرض لضربات موجعة، إن لم نقل قاصمة في أفغانستان والعراق وأمريكا الجنوبية، وهى فى حاجة ماسة لمدد معنوى لتجميع قوى بنيها بعد أن بددتها الحضارة الغربية بفرديتها وماديتها وإنكارها لكل العوامل المعنوية فى بناء الحضارة.
ـ أن النقيض التقليدى لهذه الحضارة فى العصر الحديث ( المعسكر الشرقى ببلديه الكبيرين روسيا والصين وتوابعهما) قد دخل المنظومة الرأسمالية العالمية ولم يعد يمثل محفزا أو تهديدا ممكنا لتجميع قوى المجتمعات الغربية، وأصبح الخصم المفترض غير محدد الملامح، وكان لابد أن يكون هذا الخصم ( فكرة ) لتحقيق إمكانية المناورة فى الدعاية والحشد ضده.
ـ وأخيرا أن المسيحية اليوم لا تلعب دورا محوريا ( بل والدين عموما ) فى حياة الإنسان الغربى، ولذا كان لابد من الخلط بين الخطر المادى على الحضارة الغربية وخطر دين ( عدو ) حصر فى الإسلام، بعد أن تمكنت الحركة الصهيونية من تقويض دور الأديان الأخرى والعبث بها على مر العصور.

من هو بنيديكت.. "البابا" ؟!

إنه رئيس الكنيسة الكاثوليكية رقم 265 وهو يبلغ من العمر واحد وثمانين عاما حيث ولد لأب شرطى ألمانى فى إبريل 1927، وإسمه الحقيقى جوزيف راتسنجر، وقد ترقى فى السلك الكنسى منذ البداية ففى عام 1951، أصبح كاهنا، ثم أصبح اسقف مدينة ميونيخ في العام 1977، ومن ثم تم اختياره كاردينالاً.وقد شغل العديد من المواقع فى الكنيسة البابوية حيث أمضى قرابة العشرين عاما فى دهاليز الفاتيكان فهو عميد كلية الكرادلة، ورئيس التجمع من أجل "ميثاق الإيمان" 1981، ولذلك فهو يعتبر من المتشددين فيما يخص المذهب الكاثوليكي.
وقد حدثت لراتسينجر تغيرات دراماتيكية منذ جلوسه على الكرسى البابوى، فخلال خدمته في الفاتيكان، عرف راتسينجر بلقب "الكاردينال لا"، أي المعارض، حيث كان يعارض أي تطورات "تحريرية" داخل الفاتيكان والمذهب الكاثوليكي، رغم أنه كان يوصف بأنه "ليبرالي" خلال فترة الستينيات من القرن العشرين، عندما عمل كمستشار لمجلس الفاتيكان الثاني، إلا أنه تحول لاحقاً ليصبح أشبه بشرطي يقوم على حماية الحدود العقائدية للمذهب الكاثوليكي.
وراتسينج، ككل رجال الكنيسة البابوية الطموحين لم يغب عنه أن يلعب أدوارا سياسية فى أوقات محددة وبحسابات دقيقة، فقد تسبب في إثارة خلاف دبلوماسي كبير في العام 1984، عندما أصدر إدانة للشيوعية، ووصف الاتحاد السوفيتي والدول التي كانت تسير في فلكه بأنها "وصمة عار في زماننا"، وهو الوقت الذى كانت أمريكا فيه تعرفه بمسمى مملكة الشر.
ولكن دعوة راتسينج أو "بنيدكت" الجديدة القديمة هى الأكثر أهمية وخطرا، فقد أطلق البابا على العام الماضى "عام تنصير العالم" وهى الدعوة التى تترافق مع الدعوة الأمريكية لتوحيد الثقافة الإنسانية تحت اسم العولمة، وهى فى نفس الوقت دعوة لتوحيد العالم الغربى تحت راية الصليب كما حدث فى الماضى " وهى المرة الوحيدة التى حدث وأن توحدت الجيوش الغربية فيها على مر التاريخ" وإن كانوا يتجمعون وقلوبهم شتى فالحروب الكبيرة "العالمية" التى عرفها العالم ما هى إلا الحروب بين أقطاب العالم الغربى المسيحى الإستعمارى..
وتتوافق هذه الدعوة مع مشروع جورج بوش على ما أسماه بالحرب على الإرهاب والذى أطلق عليها مصطلح " الحرب الصليبية".

أزمة المشروع الأمريكى.. وأزمة الكنيسة الغربية

زيارة بنيدكت للولايات المتحدة الأمريكية والحفاوة المسرحية التى قوبل بها وخاصة فى المعبد اليهودى الذى زاره فى نيويورك، تأتى فى ظل أزمة طاحنة تلم بالمشروع الصهيونى الأمريكى الهادف للحفاظ على حالة العالم ذو القطب الأوحد المهيمن على شريان الطاقة للدول الكبرى، والمالك للقوة العسكرية الأكثر بطشا، سببها الرئيس هو ما منى به هذا المشروع من هزائم فى أفغانستان والعراق أساسا والمقاومة المتصاعدة للهيمنة الأمريكية على المقدرات الاقتصادية لأمريكا الجنوبية من جانب آخر وهو ما سمح للقوى الدولية الصاعدة المناهضة لحالة القطبية الأحادية باكتساب مساحات أوسع على الساحة العالمية وصعود القوة الاقتصادية لهذه القوى الرئيسية والتكتلات ( الصين وأوربا الموحدة والاتحاد الروسى واليابان) كما سمح للقوى الإقليمية بالثبات فى مواجهة مشروعات التفتيت التى كانت قد وضعت على جدول الأعمال اليومى للمشروع الصهيونى الأمريكى، وهنا وبعد الخواء الوطنى والقومى والروحى الذى تعانى منه الحضارة الغربية تأتى الحاجة الحاجة لتوحيد الغرب تحت راية الحرب الصليبية بعد تعديله صهيونيا، كما تلتقى هذه الحاجة للمشروع الصهيونى الأمريكى بحاجة الكنيسة الغربية إلى العودة للحياة بعد أن أخرجتها الحضارة الغربية من الحياة اليومية ووضعتها فى متحف العاديات.
ولبنديكت إسهامات هامة فى التقريب بين الحركة الصهيونية والكنيسة الكاثوليكية ليس أهمها تبرئة اليهود من دم المسيح كما تقول العقيدة المسيحية، ولكن أهمها هو اعتباره الإسلام عدوا رئيسيا للحضارة الغربية .. بل وللحضارة الإنسانية عموما.. وهو ما يلتقى مع دعوة "المحافظين الجدد" فى الإدارة الأمريكية ويتوافق مع رؤيتها الأوسع لتجييش الإنسان والحضارة الأوروبية والغربية عموما فى صراع بين الحضارات.. وقد ُلخص هذا التلاقى فى دعوة بنديكت لتنصير العالم.
إن سيناريو الزيارة غير المباركة لبنديكت يؤشر إلى أن الحضارة الغربية بكل فصائلها باتت تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتعمل كما يعمل التاجر المفلس حيث تبحث فى دفاترها القديمة عن مدين منسى لمطالبته بما يقيل عثرتها، وليس أدل على الخواء المعنوى والنفسى من صورة العسكريين الذين أتى بهم بوش أمام موقع البرجين المنهارين لتقبيل يد بنديكت لتدشين عقيدة عسكرية جديدة لجيش الأمريكان ليتحول بعد سقوط الاتحاد السوفييتى من جيش الدفاع عن العالم "الحر"، إلى جيش "الرب"، الذى يجب أن يقاتل الخارجين على العقيدة المسيحية حسب الطريقة البنديكتية.

حوار الأديان مدخل إلى التقسيم والصراع !!

قبل أن ُنقّيم الدعوة لحوار الأديان التى أطلقها الفاتيكان كعنوان إستراتيجى للعلاقة بين الغرب وكنيسته وبين المسلمين يجب أولا أن نعرف الشروط الموضوعة لهذا الحوار حسب ما ورد على موقع الفاتيكان والذى أوردته الدكتورة زينب عبد العزيز* فى مقالها أفيقوا أيها المسلمون وهى:

ـ ضرورة إعتراف المحاورين المسلمين بأن لمحمد "صلوات الله عليه" عقليتين متناقضتين بين الآيات المكية والمدنية.
ـ أن محمدا "عليه الصلاة والسلام"، قد أُرسل ليعلّم المسيحية لقريش، ثم حاد عن الرسالة إبتداءً من معركة بدر، التى خاضها لأغراضه الشخصية الحربية وبذلك فقد النبوة ولم يعد نبى الله!
ـ أن القرآن الكريم خليط ما بين التنزيل الإلهى وتأليف "وحاشا لله" سيدنا محمد "عليه الصلاة والسلام".
ـ أن المطلوب هو إعادة تفسير القرآن الكريم بصورة رمزية وليست أصولية، وذلك وفقا لوجهة نظر المتصوفة الكاثوليك، و" المفكرون الجدد للإسلام ".
ـ وأن فكرة اعتبار أن الإسلام ديانة منزّلة من عند الله أمر مرفوض من الفاتيكان، بعد أن أنزل المسيحية.
ـ وأن الإسلام لا يمكن أن يكون قد أتى بمبادرة من عند الله، لأن سيدنا إسماعيل ابن جارية، وليس من زواج شرعى! وبالتالى لا يحق له تبوء رسالة دينية "خرست ألسنتهم".. لذلك تم اختلاق الإسلام بمبادرة إنسانية تماما، أى من تأليف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإسلام ديانة حربية.
ـ أن البابا ينتظر من المسلمين: إقامة حرية العقيدة " فى مجمل المناطق ذات الأغلبية المسلمة " – وقد عز عليهم كتابة " فى البلدان الإسلامية "، إضافة إلى تطبيق حقوق الإنسان وفقا لوثيقة الأمم المتحدة!
ـ انتقاد صمت خطاب " كلمة سواء"، على لسان "الأب" ترولّ الجزويتى، بأن الخطاب " لم يشر إلى الخلاف السحيق بين مفهوم الله عند المسلمين والله (الثالوث عند المسيحيين وإبنه الذى تجسد بشرا)، لذلك يطالب بتنفيذ هذه المطالب الآن وفورا ! – لكى لا تتم حتى مناقشة أننا لا نعبد نفس الإله أو أنهم أشركوا به بكل ما نسجوه من عقائد ـ وهو ما يدركونه تماما!!
ـ أن خطاب الـ138 مائع و أخرص أى لا يقول شيئا حول نقاط حقوق الإنسان، والحرية الدينية "أى إباحة التبشير والتنصير علنا"، والمساواة بين الرجل والمرأة، ولا عن فصل الدين عن الدنيا!
ـ أن المسلمين حاليا يقومون بعملية جمود حيال قيم الغرب.
وينتهى المقال بجملة ترويعية، توضح بصريح العبارة ما ينتظر المسلمين إذا ما تخلفوا عن تنفيذ قرارات البابا بنديكت السادس عشر" أنه سوف يتم دك الغرور القومى الحالى للحضارة الإسلامية، إما عن طريق حرب يشنونها بحيث يخسرها المسلمون، أو أن يتم فرض عملية إرتداد جماعية علي المسلمين واقتلاعهم من دينهم"*.
وحتى لا يكون الخطاب غير واضح قلنا فى عنوان هذه الفقرة أن دعوة بنديكت هى دعوة للتقسيم وتأجيج الصراع، أما التقسيم فيأتى تحت عبارات مثل "خطاب الـ138" و"إعادة تفسير القرآن الكريم بصورة رمزية وليست أصولية"، و"المفكرون الجدد للإسلام"، وهى عبارات تشير إلى تلك المجموعة الضالة ممن يحملون أسماء إسلامية أمثال وفد الحوار أو بالأحرى، وضع بروتوكول الحوار المكون من.. عبد الحكيم مراد وينتر A.M. Winter ، من المملكة الامتحدة ؛ وعارف على النايض A.A. EL Nayed ، الليبى الذى يشغل منصب "عميد المعهد الباباوى للدراسات العربية والإسلامية"، وفقا لما هو وارد فى هذا الخبر المعلن من الفاتيكان؛ و سرجيو يحيى بللافيتشينى S.Y. Pallavicini، نائب رئيس "جمعية مسلمى إيطاليا"؛ وإبراهيم كالين I Kalin، وهو تركي ويشغل منصب أستاذ مساعد للدراسات الإسلامية فى " كلية الصليب المقدس" إضافة إلى إدارة مؤسسة سيتا Seta Foundation؛ وسهيل نخّودة مدير "المجلة الإسلامية" Islamica وهو هندى الأصل ويقيم فى الأردن؛ والأمير غازى بن محمد بن طلال، رئيس معهد الفكر الإسلامى فى عمان ومتزعم تلك المبادرة "الإسلامية".
وهذه هى الخطوة الأولى شق صف المسلمين بحيث يصبح الخطاب الموجه لجمهور الغرب عن الإسلام صادر من هؤلاء ومن ليس من هؤلاء هو الرافض للتعمل مع الثقافة الغربية والرافض للديانات الأخرى والهادف لقتل مخالفيه والذى يجب محاربته دفاعا عن المسيحية الغربية والحضارة الغربية..
أما الشق الثانى فهو أنه تجهيز للصراع حيث أنه يضع شروطا يعلم سلفا أنها مرفوضة ومدانة فهو يعرض طعام الحوار على طريقة المثل الشعبى " الصحيح لا تكسر والمكسور لا تأكل وكل ما تريد " وينهى الدعوة بالتوعد بالويل لمن لا يقبل وليمته الملعونة..

محاولة يائسة

فى هذا الإطار يمكن فهم أهمية زيارة بنديكت السادس عشر لأمريكا ( أو العلاقة بين البابا والإمبراطور )، حيث أرعب الغرب شغف أعداد متزايدة كل يوم بالإسلام ودخول أعداد تتزايد كل يوم فى طريقه القويم .. ويجب التنبيه هنا أن هذه الالة المرتعبة لا تأتى خوفا على المسيحية، ولكنها تعبير عن الهلع من أن تهدم الحضارة المادية عموما، بما يقف خلفها من مصالح لبضع مئات من أصحاب الشركات العملاقة العابرة للجنسية التى تسخر كل الإمكانات التى وهبها الله للبشر لمنافعها وتحولت إلى آلة عملاقة لتخريب الكون للحفاظ على هذه المصالح الضيقة.
إن زيارة البابا لمقر الإمبراطورية هو بداية مرحلة جديدة فى الصراع يجتمع فيها أباطرة الإدارة الأمريكية المرتبكين من ضربات الإخفاق، بالكنيسة المهجورة الباحثة عن دور بعد طول وقوف فى متحف التاريخ الأوروبى، وهى فى ذات الوقت إعلان لإنتصار الفكرة الصهيونية على العقيدتين اليهودية والمسيحية بعد ما نالهما على يد أحبار ورهبان..

أرقام وبيانات لها دلالتها نوردها على سبيل المثال:

"يستعين البابا بجيوش مجيّشة فعلا من المنصرين، فبخلاف عشرات المنظمات المعروفة ومنها أوبس داى، وسانت إيجيديو، وجنود الرب، والأطفال المنصرون الخ.. أن عدد المنصرين المتفرغين( 5,151,000 ) وعدد المجلات التنصيرية (33700 )، وعدد محطات الإذاعة والتليفزيون التنصيرية( 3770 ) محطة ستصل عام 2025 إلى( 10000 )، وقد تم رصد ميزانية للتنصير حتى عام 2025 بمبلغ (870 مليار دولار) و(7 ملايين منصر) و(10000 ) محطة إذاعة وتليفزيون. إضافة إلى استعانة البابا بكافة المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والعلمية والفنية والرياضية وغيرها لفرض المسيحية على العالم قبل حلول عام 2010، وهو التاريخ الذى كان قد حدده مجلس الكنائس العالمى حينما أسند إلى الولايات المتحدة مهمة إقتلاع الإسلام بعد أن فشل مخطط البابا يوحنا بولس الثانى فى تحقيق ذلك، عشية الألف الثالثة، حتى تبدأ الألفية الجديدة وقد تم تنصير العالم!!"*

هذه المرحلة ولا شك تجمع بين شتات قوات الأعداء حتى وإن كانت قلوبهم شتى.. ولكنها في نفس الوقت تستدعى يقظة ورؤية استراتيجية على الجانب الإسلامى.. فهل نراهما يتبديان فى المنظومة الإسلامية دولا وأفرادا وجماعات مدنية فى المرحلة المقبلة.
ـــــــــــــــــ
• مقال الدكتورة زينب عبد العزيز أستاذة الحضارة الفرنسية المنشور بموقع الشعب 9/2/2008 م.
• المصدر السابق.