من خلال متابعتي لتعاطي الصحافة المحلية مع الشأن المحلي لفت انتباهي خبرين متشابهين إلى حدٍ كبير في المضمون، ولكن التناول الصحفي لهما اختلف اختلافاً جذرياً يثير الغرابة والعجب.
الخبر الأول عن مهرب قات فر من إحدى الدوريات الأمنية، وأثناء ملاحقته اصطدم في رتل من السيارات، ونتج عن ذلك وفاة وإصابة ثمانية أشخاص، وقد قامت صحيفة عكاظ في عددها (14899) بنشر الخبر تحت عنوان "مهرب قات يقتحم موقف صبيا بسيارته ويصرع ثلاثة ويصيب خمسة" ومعها بعض الصحف، وتمت صياغة الخبر على أن المتسبب في الحادث هو المهرب الذي فر من الدوريات الأمنية وقاد سيارته بسرعة جنونية أدت إلى وقوع الحادث، انتهى بذلك الخبر ولم أقرأ عن أي متابعة لاحقة له في أياً من صحفنا المحلية، وأذكر أنه نُشر بتلك الطريقة في صحيفتين أو ثلاثة.
الخبر الثاني وهو ما اشتهر بحادث الخليل بالمدينة، وملخصه وقوع حادث مروري لإحدى السيارات في منطقة تدعى بـ "الخليل"، كان صاحبها – هو الآخر- يسير بسرعة جنونية، ونتج عن الحادث وفاة أربعة أشخاص، وقد صرحت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحال أنه لا علاقة لدوريتها بالحادث، وأكد لاحقاً أحد مسئوليها أن أصحاب السيارة كان في وضع مشبوه وعند توجه الدورية لهم لاذوا بالفرار فتم تركهم، فيما ذكر أحد شهود العيان أنه شاهد دورية الهيئة تسير خلف السيارة قبل الحادث، وعلى ذلك فالواقعة تم توصيفها من الجهات المعنية على أنها حادث مروري به شبهة جنائية على دورية الهيئة، اللافت للنظر أن التناول الصحفي لهذه الواقعة كان مختلفاً اختلافاً جذرياً عن الواقعة الأولى، مع أن المضمون الأول أشد تأثيراً من الثاني، ومع ذلك فقد طارت جميع الصحف دون استثناء بالخبر الثاني، واتهم بعضها دورية الهيئة من أول وهلة وقبل بدء التحقيقات بالتسبب في الحادث، كما حظي الخبر بعناوين رئيسية في الصفحات الأولى للصحف المحلية، واستمرت المتابعات الصحفية لتفاصيل الحادث المهمة وغير المهمة، والحقيقية منها والمتوقعة!! وأعيد طرح القضية وكرر بشكل ممل وغير مقبول، دام لأكثر من شهر تقريباً، تجاوز خلاله ما نشرته الصحافة المحلية عن الحادث خمسين خبراً، نالت مساحات كبيرة في النشر، وعناوين كبيرة ورئيسية في الصفحات الأولى، واستطاعت الصحافة من خلال ذلك أن تجعل من هذه الواقعة قضية رأي عام، أشغلت المجتمع بأسره بها، ونتج عن ذلك أن تعالت أصوات من هنا أو هناك للتعليق على الحادث مع أن الصورة لم تكتمل بعد!! وشذ بعضها فاستبق الأحداث، ووجه الاتهام لعضوي الهيئة، وطالب بمحاسبتهما، ونادت أصوات أخرى بالحد من الصلاحيات الممنوحة للهيئة، بينما تجرأ آخرون فطالبوا بالقصاص من الجناة!!! مع أنه لم تثبت إدانة الهيئة في الحادث بعد، والمسئولون يؤكدون أنه بأن الموضوع لا زال في قيد الاشتباه.
عندما تحاول أن تقرأ هذا التناول الصحفي للحادث الأول والثاني تجد بوناً شاسعاً، ولا تملك إلا أن تتساءل لماذا هذه الازدواجية في الطرح؟؟ ولماذا الكيل بمكيالين؟؟ لماذا يتم نشر الخبر الأول بتلك الطريقة مع ثبوت مطاردة الدورية الأمنية للمهرب، فينشر مرة واحدة فقط وفي بعض الصحف دون غيرها، بينما يتم تصعيد الخبر الأخر المتعلق بالهيئة لمدة شهر تقريباً مع عدم ثبوت علاقة الهيئة بالحادث، إنما هي تكهنات أو أحكام مسبقة من البعض؛ لا تسندها أدلة كافية؛ وإلا لو كان هناك أدلة لوجهت جهات التحقيق الاتهام للهيئة من أول الأمر، و أحالت ملف القضية للمحكمة لمحاسبة عضوي الهيئة.
هذا الازدواجية هي ما أثارت الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة الشيخ إبراهيم الغيث، وجعلته ينتقد بعض وسائل الإعلام التي وصفها بأنها تكيل في طرحها بمكيالين، معتبرا أنها تتابع الجانب السلبي من عمل الهيئة، بينما تبرز الجانب الإيجابي لجهات أخرى مغفلة جوانبها السلبية ( صحيفة الوطن عدد 2757).
من المؤسف أن المتابع للمشهد الإعلامي المحلي يلحظ بوضوح أن التعاطي الإعلامي مع قضايا الهيئة لاسيما السلبي منها لا يسير بطريقة مهنية، ولا يتم بشكل طبيعي، بل هو أشبه ما يكون بحالة استثنائية، تنحى نحو التصعيد الاعلامي لتلك القضايا، حيث لا تناسب بين حجم التغطيات ونوعيتها وبين حجم الحدث!! حتى وإن لم يثبت الخطأ على الهيئة، وكان من قبيل الاشتباه!! كما حصل في حادثة تبوك الأولى والتي توفي فيها أحد المقبوض عليهم بشكل طبيعي داخل أحد مراكز الهيئة، فقامت الصحف بتصعيد القضية إعلامياً، ولم يتوقف ذلك إلا بعد صدور التقرير الطبي المؤكد أن الوفاة كانت طبيعية، وأثبتت المحكمة براءة أعضاء الهيئة، وغير ذلك من الحوادث المشابهة، هذا النوع من التعاطي الإعلامي يشعر المرء أن هناك من يسعى لإبقاء قضايا الهيئة السلبية حاضرة في أذهان القراء أكبر وقت ممكن، وتحويلها فيما بعد إلى قضايا رأي عام.
السؤال الأهم في الموضوع لماذا يتم التعاطي مع قضايا الهيئة بهذه الطريقة غير المهنية، هل هي محاولة من البعض لتشويه صورة الهيئة لدى المجتمع من خلال استغلال مثل هذه الفرص؟؟ أم هي محاولة لتهييج الرأي العام ضد الهيئة ومحاولة إضعاف التعاطف الشعبي مع قضاياها؟؟ أم هي نتيجة طبيعية لداعيات الصراع الفكري المحتدم في الآونة الأخيرة بين من يسمون بـ "اللبراليين" والثقافة الاسلامية الشعبية الراسخة في البلد؟؟ أم هو سوء تعامل مع التغييرات المحلية الطارئة على هامش الحرية، وسوء تطبيق لمبدأ لحرية التعبير؟؟ لا أدري أي ذلك أقرب لتفسير هذه الظاهرة الغريبة، أم إن المسألة محسوبة تجارياً، كما فاجئني بذلك أحد مسئولي الصحف، حيث أكد لي أن قضايا الهيئة تحظي بمتابعة شعبية مما يسهم في زيادة حجم مبيعات الصحيفة متى ما احتوت على قضايا حساسة للهيئة، ولا مانع لو كان ذلك على حساب مصالح الهيئة، قد يكون أحد تلك الاحتمالات صحيحاً وقد يكون غير ذلك، ولكن من المؤكد أن ذلك الوضع لا يمكن أن نعده على الإطلاق وضعاً طبيعياً.
أحب أن أؤكد أخيراً أن اعتراضي في هذا المقال وآخرين غيري ليس على نقد أخطاء بعض منسوبي الهيئة في وسائل الإعلام، فهذا أمر طبيعي، بل وظاهرة صحية لابد منها، وأول مستفيد منها هو جهاز الهيئة نفسه، إنما الاعتراض على التصعيد الإعلامي لتلك القضايا، والتنازل في خضم ذلك عن الأصول المهنية في النشر، والتي من أبسطها المصداقية والموضوعية.