حينما يكون الحديث عن حوار بين الأديان؛ فهذا أمر أو يكون بين أهل الأديان؛ فهذا أمر آخر. وعندما ننعت الأديان بالسماوية؛ فهذه قضية، أو نكتفي نقف عند كونها أدياناً فقط؛ فتلك قضية أخرى. وحيث يصدر الجدال من منطلق القوة؛ فهذا محل اعتبار، أو تجسد حالة من الضعف والذلة فهذا شأن آخر.. وبداية؛ فإن عمدة الحديث عن مسألة حوار أهل الأديان ومجادلتهم هي تلك الآية الكريمة الجامعة: " وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْـزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ". ولا ريب أن الحوار مع أهل الأديان والجدال معهم بالحجة لدعوتهم للإسلام هذا من الأمور المشروعة كما قال تعالى: " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ". بل إن مفهوم عالمية الإسلام يلقي مباشرة تبعة إبلاغ الرسالة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين، انطلاقاً من حقيقة الفارق بين أمة الإجابة وأمة الدعوة، فأمة الإجابة هي المؤمنة برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، أما أمة الدعوة؛ فهي تلك المشمولة والمستهدفة بالدعوة من سائر الأديان والممل والنحل؛ فدعوة الكفار من بوذيين وسيخ وهندوس، وأهل الكتاب من يهود ونصارى أمر واجب، وقد أخرج مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ «وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِى أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِىٌّ وَلاَ نَصْرَانِىٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»؛ فالإسلام جاء للعالمين، لأهل الأرض جميعًا، ليس للعرب وحدهم أو للمسلمين فقط، يدل على هذا قوله تبارك وتعالى عن القرآن الكريم "وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ" كما أخبر جل وعلا عن نبيه أنه "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" . وإذا كان الأصل هو وجوب دعوة غير المسلمين سواء أكانوا من ديانات كان أصلها سماوياً فانحرف أم كانوا من عبدة الأوثان وغيرها؛ فإنه لا غرو بالقطع في أن نمارس جدلاً أو حواراً مع أهل الأديان، هذا من حيث المبدأ الذي لا مراء فيه، غير أن ما نشهده بين الحين والآخر من دعوات يلتبس فيه الحق بالباطل في ذلك تدعونا لأن نقف حيال الفاسد منها لنشدد على عدد من المصطلحات والأفكار تمرر من خلال تلك الدعوات، وتجانب الصواب. فمسألة الحوار هي ابتداء مع أهل الأديان، لا مع الأديان ذاتها؛ لأن الأديان لا تتحاور. كما أننا نرى أن نعت الأديان بـ"السماوية" هو وصف غير صحيح بالمرة؛ فحين يسمع المرء مصطلح "الحوار مع أهل الأديان السماوية" ينصرف ذهنه إلى اليهود والنصارى على أنهم هم أصحاب ديانات "سماوية"، وهذا خطأ؛ فهؤلاء ليسوا أهل أديان سماوية ولكن أهل أديان محرفة يقول تعالى: " وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ " ، فهؤلاء الموجودون الآن لا يؤمنون بما أنزل إليهم، فكتبهم محرفة وصارت تحتوي على ألوان من الشرك ما أنزل الله بها من سلطان. صحيح أن أصل ما جاء به موسى لقومه هو التوراة الكتاب السماوي المنزل، وكذا أصل الدعوة التي جاء بها عيسى (عليهما السلام) هو الإنجيل الكتاب السماوي المنزل من عند الله عز وجل، وهذا لا نقاش حوله لدى المسلمين، لكن الموجودين الآن من أتباع هذه الديانات لا يصح أن نطلق عليهم أنهم أهل أديان سماوية بل الصحيح أنهم أهل أديان باطلة لقوله تعالى: " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ "، وعلى هذا لا يوجد سوى دين واحد سماوي حقيقي هو الإسلام. أما ما يطلق عليه الآن "الدين الإبراهيمي"؛ فهو نوع من التدليس والتضليل على الأمة، فهم يقصدون بهذه التسمية الإشارة إلى اليهود والنصارى والمسلمين. مصطلح آخر، هو "التعايش" الذي هو في حقيقته حمّال أوجه، وهو كلمة فضفاضة، هناك من يصيب الحق فيها وهناك من يتوسع في تفسيرها بلا ضوابط فيخطئ. والثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش مع اليهود في المدينة ولكن كانت كلمة الله هي العليا، فحين بدا من اليهود النكث بالعهود وحاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم، أجلى بني النضير وبني قينقاع عن المدينة وأتى بني قريظة، فحاصرهم وحكم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه بأن تسبى ذراريهم ونساؤهم وتقتل مقاتلتهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك الحكم: « لَقَدْ حَكَمَ الْيَوْمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِى حَكَمَ بِهِ مِنْ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ »، ولم يناصر أهل الكتاب ويشفع لهم في الجلاء ـ من غير بني قريظة ـ إلا زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعته لمصالح عامة، ثم أجلاهم ، يقول تعالى: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ"؛ فحكم الله لا يتعدد، أما العالم فيجتهد فإن أصاب فله أجر وإن أخطأ فله أجران، وسعد بن معاذ رضي الله عنه أصاب حكم الله من فوق سبع سماوات كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. وفي غياب مفاهيم شرعية مؤصلة عند المحاورين تضيع مدلولات أصيلة للدين، مثل مفهوم الجهاد، ومفهوم الولاء والبراء، والحب في الله والبغض فيه، وحتى كفر اليهود والنصارى هو عند البعض هذه الأيام محل نظر ما دام لا يقاتل المسلمين، وهذا غير صحيح، والحوار مع الكفار لا يعني التنازل بل يكون في إطار قول الله تبارك وتعالى: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ". وقد جاءني وفد من التلفاز البلغاري (نصارى) ليسألني عن رأيي في "صراع الحضارات" وهل أنا من مؤيديه أم لا، فقلت لهم أن الإسلام دين رحمة، ويعتبر الجهاد وسيلة وليس غاية، ولكن من حيث التأمل والحقيقة والواقع أنكم أنتم الذين منعتمونا من تبليغ رسالة الله واعتديتم علينا عبر اليهود والنصارى وغيرهم فقتالكم واجب لأنكم حلتم بين الناس وبين الهداية، وهذا المعنى حول وسيلة الجهاد لا غايته عند المسلمين يتجسد مثلاً في المثال الإندونيسي، ذلك البلد الإسلامي الأكبر في العالم من حيث تعداد سكانه المسلمين، لم يحتج هذا البلد جهاداً ليدخله الإسلام، بل دخله دون أن تراق قطرة دم واحدة. وهذا الجهاد المعروف كوسيلة لنشر الإسلام وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله إلى حرية العبادة، ينقسم إلى دفع وطلب، فالأول المقصود منه دفع صولة العدو، وهو ما يحاول البعض الآن قصر حديث الجهاد عليه وهذا خطأ؛ فهناك جهاد البدء والطلب الذي تخرج فيه جيوش المسلمين لقتال الكفار بسبب منعهم الدعوة من الوصول لرعيتهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يوصي قائد الجند بأن يعرض على تلك البلاد التي يذهب إليها الإسلام فإن أبوا فالجزية وإلا فالقتال. وأيضاً ثمة قاعدة محكمة تضبط هذا الحوار، فيما يتعلق بطريقة المجادلة ومع من تتم المجادلة، ومن لا يناسبه إلا المجالدة، يقول تعالى: " وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ " و فسره جمع من العلماء على أن المقصود بقوله " إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ " هم الذين تكبروا وطغوا وبغوا هؤلاء لا يجادلون وإنما يجالدون أي بالسيف. وبنظرة سريعة الآن إلى فريق من أهل الكتاب من اليهود الصهاينة الذين يمارسون القتل واستنزاف الثروات، هؤلاء ينطبق عليهم وصف الظلم الذي ورد في الآية أم لا؟! وأمريكا كذلك أهي قد ظلمت أم لا؟!، فهؤلاء لا يجادلون وإنما يجالدون إن توافر ذلك، والضعف الحالي يمنع من المجالدة، لكنه لا يغير أصلاً. ومن هنا نقول عن هؤلاء الذين يتحاورون باسم الإسلام وأهله حيث ويميعون الإسلام ويتنازلون عن ثوابته وقيمه، ألا يعلمون أنه لا يجوز لإنسان أن يبيع ما لا يملك ولو كان عودًا من أراك، وهؤلاء الذين يبيعون دين الإسلام الآن هل هم أوصياء على الدين؟! إن الخطاب السائد اليوم في إعلامنا وصحفنا هو التنازل، التنازل عن الجهاد، التنازل عن عقيدة الولاء والبراء، التنازل عن الحب في الله والبغض في الله، وكلها معان عظيمة يراد إلغاؤها تحت مسمى التعايش والتسامح، مع أن العقيدة الصحيحة توجب على المسلم أن يبغض اليهود والنصارى أكثر من بغضنا للدم الفاسد، نبغض دينهم وعقيدتهم ونبغض أشخاصهم يقول تعالى: " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ". كما أن مسألة حب الكفار وهم على دينهم غير صحيحة، فالمعنى الراجح من تفسير قوله تعالى " إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " بأن المقصود (أحببت هدايته) وليس كما يزعم البعض (أحببته)، لكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب هداية الكفار ولكن لم يحبهم وهم لا زالوا على الكفر.