في الوضع الطبيعي وعندما تكون المهنية الإعلامية واقعاً معاشاً في العمل الإعلامي؛ فإن الخبر هو عبارة عن مجموعة من المعلومات والحقائق المجردة، والتي تصف الحقيقة كما هي في الواقع، وبشكل كامل، فلا اجتزاء للحقائق، ولا تغيير لسياقاتها، مع خلوها من الآراء الشخصية.
والعمل الإعلامي عموماً كأي عمل أخر تكتنفه بعض الممارسات غير المهنية، وفي مجال العمل الإعلامي فإن من أسوأ تلك الممارسات خضوع الخبر لإيديولوجيات خاصة، ومحاولة تطويعه لصالحها، في خطوة نحو تحقيق مزيد من الدعم والمساندة لتلك الإيديولوجيات.
وإذا انتقلنا إلى المشهد الإعلامي المحلي فسنجد بكل أسف أنه مع فورة الصراعات الفكرية في المنطقة، والتي عاودت الظهور بقوة بعد أحداث 11 سبتمبر، واحتدمت في الفترة التي أعقبت غزو العراق، متزامنة مع موجة التغييرات التي طرأت على العمل الإعلامي عموماً والمحلي منه على وجه الخصوص؛ أصبحنا نلمس فعلاً أن الخبر يعاني من نوع من أنواع الأدلجة – إن صح التعبير-، والتي يتأثر خلالها الخبر بسياسات الصحف وتوجهاتها الفكرية على حساب مصداقية الخبر، فيصاغ الخبر بطريقة تخدم بشكل مباشر أو غير مباشر تلك الأيدلوجيات، في مظهر سافر من مظاهر ضغط الأيدلوجيات على الحقائق، ومحاولة تشويهها، وما أكثر التصريحات والأخبار التي حرفت في بعض صحفنا؛ ففهم منها خلاف الواقع الصحيح، وخلاف ما كان يعنيه المتحدث.
ومن الطريف أنني أثناء كتابة هذا المقال وبالصدفة سمعت أحد الدعاة المعروفين يتحدث في فضائية شهيرة، مبدياً تذمره من طريقة تعامل إحدى الصحف مع حديث سابقٍ له حول حق المرأة في رفض التصوير في بطاقة الجامعة أو البطاقة الشخصية وذلك للحرج الشرعي والاجتماعي المترتب على ذلك، لاسيما مع وجود بديل عن الصورة؛ معمول به في كثير من دول العالم، مع تأكيد هذا الداعية في معرض حديثه على أن أهمية بطاقة المرأة، والحاجة الماسة لها على أكثر من صعيد؛ والتي قد تصل إلى حد الضرورة في بعض الحالات، فنشرت إحدى الصحف عن هذا الداعية أنه معارض لاستخراج بطاقة المرأة، ولا يرى أهميتها!!!
وأدلجة الخبر- كغاية سلبية – يصل إليها البعض من خلال عدة وسائل؛ ومنها::
• اجتزاء المعلومة، فيذكر جزء منها، ويحذف جزء أخر في غاية الأهمية، قد يختلف معه فهم القارئ لذلك الخبر.
• فصل المعلومة عن سياقها الطبيعي، وتوضع في سياق آخر، يخـدم أيدلوجية معينة،
ويؤدي إلى فهم هذه المعلومة على غير وجهها.
• إدخال الرأي الشخصي على الخبر بما يحقق نفس الهدف، ومعلوم أن من أهم الاشتراطات الفنية في الخبر عدم تضمنه للآراء الشخصية.
• التركيز على سلبيات أشخاص أو جهات معينة، تستهدف تلك الأيدلوجية الحد من سلطتها أو تقليل شعبيتهم أو تحقيق نوع الانتصار المرحلي أو الاستراتيجي عليهم.
• الكذب في أصل الخبر أو في أجزائه – وهو أكثر - لتحقيق نفس الغاية.
• التلاعب بالمصطلحات والمفردات بطريقة يتغير معها المعني المقصود.
• إبراز سلوكيات أو شخصيات أو جهات معينة تحمل نفس الأجندة الفكرية المراد الترويج لها، ودعمها، بغض النظر عن مدى حضورها الفعلي على المستوى الشعبي.
وجميع هذه الصور وغيرها تعد في الواقع سلوكاً يفتقد للمهنية الإعلامية، ولا تتوفر فيه أبسط الشروط الفنية اللازمة في الصياغة الخبرية، كما أنه سلوك غير شريف، ينم عن قدر الأنانية، حيث أنه ينطلق من منطلقات فئوية، تراعي مصالحها الخاصة، ولو على مصالح الوطن العامة، كما أنه سلوك لا يحترم الحقيقة، فضلاً عن احترام متلقيها.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن فيه قدراً كبيراً من التلاعب بعقول الأفراد، وتضليلهم، وتشويه الحقيقة في أعينهم.
ومن خلال متابعاتي الإعلامي الشخصية في الآونة الأخيرة، وعبر عدة لقاءات مع مجموعة من المسئولين والعاملين في الوسط الإعلامي من أطياف متعددة وعلى مستويات مختلفة، لاحظت أن هذا الأسلوب غير المهني في التعامل مع الأحداث موجود بكل أسف في بعض صحفنا المحلية بطريقة أو بأخرى وبنسب متفاوتة، وقد أبدى بعضهم تضايقهم من التنامي السلبي لهذه الظاهرة محلياً.
ومن الأمثلة على خضوع الخبر لأجندة فكرية خاصة؛ طريقة تعامل الإعلام مع قضايا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحينما تٌثار شبهة حول وقوع بعض أعضاء الهيئة في خطأ ما، ويكون هذا الخطأ –على سبيل المثال- له تعلق جنائي بشكل مباشر أو غير مباشر – كما في عدد من الأحداث التي وقعت مؤخراً - تجد أن خبر اتهام الهيئة يتصدر العناوين الرئيسية في الصحف، ويُعطى مساحات أكبر من حجمه الطبيعي، وتوجه بعض الصحف مراسليها في موقع الحدث بمتابعة القضية بشكل يومي – كما فاجأني بذلك بعض مسئولي الصحف- ويتم التعامل مع القضية في طور الاشتباه وكأن الخطأ ثابت على أعضاء الهيئة، فإذا صدرت براءتهم من الشبهة الجنائية، تجد اختلافاً واضحاً في التعامل، فلا يُبرز الخبر، ولا يأخذ مساحة مشابهة لخبر الاتهام السابق، ولو أُبرز تجد أن جزئية البراءة بين ثنايا السطور وغير واضحة في عنوان الخبر، بل وأحياناً لا ينشر على الإطلاق، وهنا يطرح السؤال نفسه..لماذا هذا الاختلاف في التعامل؟؟ وما الدافع لذلك؟؟
وفي لقاء مع أحد الأصدقاء العاملين في الوسط الإعلامي في مدينة مجاورة، وأثناء تغطيته لحادثة مشابهة متعلقة بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكر لي: أنه قام بإعداد مادة إعلامية استند فيه إلى وثائق رسمية متعلقة بالقضية، وتعطي دلالات أولية على براءة الهيئة من التهمة الموجهة إليها، وطرح المادة –كما ذكر لي- بمهنية وتجرد، دون إدخال رأيه الشخصي فيها، وعند اطلاع رئيسه على المادة لم يعجبه مضمونها، واتهمه بأنه متعاطف مع الهيئة، ويستبق الأحداث!! فقلت في نفسي مستغرباً: منذ متى يعد الحديث المنطلق من وثائق رسمية تعاطفاً مع الهيئة أو مع غيرها!! وهل يصح أن نصفه بأنه استباق للأحداث!! وهل السبب في ذلك أن توجيه التهم للهيئة الواحدة تلو الأخرى يخدم أجندة فكرية خاصة؟؟ أو لأن تلك الأخبار فيها إثارة للقارئ والمشاهد؟؟ وبالتالي تؤثر إيجاباً على المبيعات؟؟
المشكلة أننا لا نشعر كمتلقين بأن هناك تحفظ ودقة في تلك النوعية من الأخبار، بل إن التهم تُوجه أحياناً في وقائع لم تتضح ملابساتها بعد!! لذلك فإنني أتساءل ويتساءل غيري.. لماذا هذه الازدواجية في المعايير؟؟
هذا الواقع الغريب فعلاً، يؤكد أننا إذا احتكمنا للأهواء والرغبات الشخصية، وأهملنا الأصول المهنية للنشر، وتجاوزنا الأحكام الشرعية، فلا غربة أن نصل لمثل هذا الوضع، بل وأسوأ لا قدر الله!!
وبنظرة استقرائية سريعة سنجد أن من الموضوعات المتأثرة بعملية الأدلجة؛ تصريحات طلبة العلم والدعاة لاسيما في القضايا الحساسة التي يدور حولها الحراك الفكري والثقافي، والموضوعات المتعلقة بالمرأة؛ كحجابها، وعملها، وسفرها بلا محرم المرأة، واختلاطها بالرجال، ونحو ذلك من المسائل ذات البعد الشرعي، إضافة إلى الموضوعات السلبية المتعلقة بالمؤسسات الشرعية.
أمل وتطلع:
أتمنى أن نترك الأخبار تعبر بذاتها عن مدلولاتها دون محاولات تطويع أو قسر لها لصالح إيديولجيات معينة، حتى وإن كانت تلك الأخبار تدعم اتجاهاً معيناً لا نرغب به، فما من خبر إلا ويتضمن تعزيزاً أو معارضةً لهذه الايدولوجيا أو تلك، وواجبنا كإعلاميين؛ هو نقل الحقيقة كما هي للرأي العام، وإن كان لدينا أراء معينة موافقة لمضمون الخبر أو معارضة؛ فلتكن منفصلة عن الخبر.