أضحى (بلعام) زنديقاً ملحداً خبيثاً، وكان قبلُ رجلاً صالحاً مجاب الدعوة، ولأجل لعاعة الدنيا انتكس (بلعام)، وانسلخ من آيات الله(1) كما تنسلخ الحية من جلدها، فلحقه الشيطان وأدركه، فصار من الغاوين الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه. قال - عز وجل -: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: ٥٧١ - ٦٧١].
إن اتِّباع الهوى والرُّكون إلى الدنيا والإخلاد إلى الشهوات سبيل الخذلان(2). ومحبة الدنيا قد تكون مطيّةً لردَّة العالِم عن الإسلام(3).
قال ابن القيّم في بيان هذه الآيات: «وفي تشبيه مَنْ آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه؛ سرٌّ بديع، وهو أن هذا الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتِّباعه هواه؛ إنما كان لشدة لهفه على الدنيا؛ لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة، فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه». إلى أن قال: «وقوله - سبحانه -: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} فأخبر - سبحانه - أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم، فإن هذا كان من العلماء، وإنما هي باتِّباع الحق وإيثاره، وقصد مرضاة الله، فإن هـذا كـان مـن أعلم أهـل زمـانـه، ولم يرفـعه الله بعلمه، ولم ينفعه به، نعوذ بالله من علم لا ينفع»(4).
وأفـراخ (بلعام) على هذا السَّنَن؛ فابن الراوندي - الهالك سنة 298هـ - «معتمَد الملاحدة والزنادقة»(5) - كما سمَّاه ابن الجوزي - يصنِّف كتاباً لليهود ردّاً على الإسلام نظير أربعمائة درهم دفعوها له، فلما قبض المال رام نقضه، حتى أعطوه مائة درهم أخرى فأمسك عن النقض(6)!
وعبد الله بن علي القصيمي (ت 1416هـ) سطَّر مؤلفات في نصرة الإسلام والسنة، ثم انسلخ من ذلك كله، فصار من دعاة الردة والإلحاد، وقد ذكر معاصروه سبب انسلاخه أنه ارتشى من بعض الجهات المحاربة للأديان(7)، لا سيما مع شظف عيشه في السابق وشغفه بالمال في اللاحق(8).
ولا يزال (البلعاميون) الجدد يقتاتون من سفارات مأبونة وجهات موبوءة سواء كان ذلك بالأصالة أو بالوكالة.
وإن زينة الدنيا وبريقها سبب انتكاس، وسبيل ارتكاس. قال - عز وجل -: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل: ٧٠١].
وكذا الولوغ والانغماس في شهوات النساء من ذرائع الرِّدة وطرائقها، ولذا حذّر المصطفى صلى الله عليه وسلم من فتنة المال والنساء بقوله: «إن الدنيا حلوة خضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» أخرجه مسلم.
فهذا صالح «المؤذن» كان معروفاً بالصلاح، ثم تنصَّر وارتدَّ عن الإسلام ومات على ذلك؛ لأجل نظرة فاتكة إلى امرأة نصرانية(9). وعبده بن عبد الرحيم ممن جاهد الصليبيين، ثم انسلخ من الإسلام والسنة والجهاد؛ إذ عشق نصرانية، ومات على دين الصليب سنة 278هـ(10). واستحوذ على ثالثٍ الهيامُ بغلام اسمه (أسلم)، فكان التشريك والكفر آخر كلامه من الدنيا(11)؛ نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر.
وذكر ابن حزم أن (النّظَّام) - من رؤوس المعتزلة - عشق فتى نصرانيـاً، فـوضع له كتاباً في تفضيل التثليث على التوحيد: «فيا غوثاه! عياذك يا ربِّ من تولُّج الشيطان ووقوع الخذلان»(12).
والانكباب على الشبهات والإغراق في الوساوس والشكوك يؤول إلى الردة والانسلاخ عن الإسلام، فالجهم بن صفوان صاحب خصومات، فلقي أناساً من المشركين يقال لهم: «السُّمـنية» فشـككوه في ديـنه، فتحـيَّر الجهم، ولم يدرِ من يعبد أربعـين يـوماً، ثـم أظهر تعطيل الأسماء والصفات(13). ولازم ابنُ الراوندي أهل الإلحاد، فإذا عُـوتب في ذلك قال: إنما أريد أن أعرف مذاهبهم(14)، ثم أظهر زندقته وطعنه في الله - تعالى - والقرآن.
فيتعيَّن مجانبة مواطن الإلحاد والزندقة، سواء كانت أشخاصاً أو مجلات أو قنوات ومواقع، أو مؤتمرات وندوات، إلا من عزم على نقض نفاقهم وهتك زندقتهم من أهل الكفاءة والرسوخ.
وكــما فـي حـديـث عـمـران بن حصـين - رضـي الله عنـهـما - أن النـبي صلى الله عليه وسلم قـال: «مـن سمع بالدجال فليَنْأَ عنه، فو الله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات»(15).
وما برح (البلعاميون) الجدد في لجج الشكوك يعمهون، وفي أوديـة الحـيرة يقطـنون، فالقصيـمي - قـبل أن يجاهر بالزندقة - يعترف بالشكوك والحيرة التي تقضُّ مضجعه، وتسخن جسمه(16). وصاحب «الثورة العلمية الحديثة» غلبت عليه شقوة الكلام فتفوَّه بالإلحاد والشكوك في حق الله عز وجل. وثالثهم يجعل الشك مسلكاً سديداً، ويتهم الرب - سبحانه - في تدبيره وتقديره(17). وينعق آخرون بالحيرة والتشكيك، محرّضين على اتِّباع سلفهم كلب المعرَّة (أبو العلاء المعري) صاحب الارتياب والمطاعن في دين الله تعالى(18).
وهذا يوجب ضرورة التسليم والانقياد لنصوص الوحيين وعدم معارضتها بذوق أو عقل أو رأي، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلَّم لله تعالى. كما يتعيَّن الرسوخ في العلم الشرعي؛ «فإن الراسـخ في العلم لو وردتْ عليه من الشُّبه بعدد أمواج البـحر ما أزالت يقينه، ولا قدحت فيه شكاً؛ لأنه قد رسخ في العلم؛ فلا تستفزه الشبهات، بل إذا وردتْ عليه ردَّها حرسُ العلم وجيشه مغلولة مغلوبة»(19).
وفساد السريرة، وخراب الباطن يوقعان في الردة وسوء الخاتمة، كما حرَّره عبد الحق الإشبيلي بقوله: «واعلم أن سوء الخاتمة - أعاذنا الله منها - لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، وإنما يكون لمن له فساد في العقيدة، أو إصرار على الكبيرة، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى نزل به الموت قبل التوبة»(20).
وآفات الباطن قد استحوذت على زنادقة العصر؛ فالقصيمي - مثلاً - في غاية الكبر والزهوِّ والاختيال(21)، ولما ألَّف كتابه «البروق النجدية» - وقت إسلامه واشتغاله بالعلم - صدَّره بقصيدة يمدح بها نفسه ويطريها، ولما اطَّلع على هذا الكتاب الشيخ عبد العزيز بن بشر (ت 1359هـ) تفرَّس في مؤلفه الإلحاد والانحراف عن الإسلام(22).
وله أبيات شنيعة يمدح فيها علمه، الذي لو قسم على الآفاق لأغنى عما جاء به الرسل عليهم السلام(23).
والغرور والفخر ونحوهما من عاهات النفوس المعوجَّة لا تكاد تفارق أولاد (بلعام) في مقالاتهم وأطروحاتهم؛ فهم يتشدقون بالمصطلحات المركبة، ويعشقون العبارات الأعجمية، ويتلفعون بالغموض والمغالطات، مما يعكس عن نفوس موبوءة بالكِبْر والعُجْب، والقارئ العادي قد تهوله تلك العبارات الغامضة، والتراكيب الشائكة، وهي في الحقيقة - كما قال ابن تيمية -: «إنما هي من باب القعقعة بالشِّنَان لمن يفزعه ذلك من الصبيان، ومن هو شبيه بالصبيان»(24).
وأخــيراً: فـإن سـلفــنا الصــالح - في القـرون الثــلاثـة الأولى فما بعدها - ما فتئوا يجاهدون هؤلاء الزنادقة، ويهتكون أسرارهم، ويكشفون نفاقهم وتلوُّنهم، ويحذّرون الأمة منهم، ويبيِّنون حكم الله فيهم، من جهة ردَّتهم وانسلاخهم عن الملَّة، وإقامة الحجة عليهم، وإمضاء حد الردة على أعناقهم، فلا أقل من تحرير الفتاوى في حكم الله فيهم، وتجلية نفاقهم.
وإن كنا نحذر من مسلك التعجّل والعاطفة المندفعة تجاه هؤلاء الزنادقة، والتي قد تفضي إلى ما لا تحمد عقباه من مفاسد راجحة؛ فإننا نحذر من الإيغال فيما يسمى بـ «ضبط النفس» الذي قد يفضي إلى خمود الغيرة الإيمانية، وبرودة الدين في القلب؛ فعلماء الإسلام لم يكن رسوخهم في العلم، وتحلِّيهم بالحكمة و «ضبط النفس» مانعاً من ظهور غيرة إيمانية متوقدة؛ فهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول عن أحد القدرية النفاة: «أدخل يدي في رأسه ثم أدقُّ عنقه»(25).
وهـا هو السبكي يـقول فـي أحـد الزنـادقـة السـابِّين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «وليس لي قدرة أن أنتقم بيدي من هذا السابِّ الملعون، والله يعلم أن قلبي كارهٌ منكِر، ولكن لا يكفي الإنكار بالقلب ها هنا، فأجاهد بما أقدر عليه من اللسان والقلم، وأسأل الله عدم المؤاخذة بما تقصر يدي عنه، وأن ينجِّيني كما أنجى الذين ينهون عن السوء، إنه عفوٌّ غفور»(26).
وهذا ابن عابدين - رحمه الله - يقول عن شقيٍّ استطال على خاتم المرسلين: «وإن كان لا يشفي صدري منه إلا إحراقه وقتله بالحُسام»(27).
________________
(1) انظر: تفسير ابن كثير: 2/254، والبداية: 1/322.
(2) انظر: تفسير السعدي، ص 351.
(3) انظر: تاريخ ابن غنام: 2/413.
(4) التفسير القيم، ص 281، 283.
(5) المنتظم، لابن الجوزي: 13/108.
(6) انظر: ابن الراوندي في المراجع العربية الحديثة، للأعسم: 1/72، 93.
(7) انظر: بيان الهدى من الضلال في الردّ على صاحب الأغلال: 1/5.
(8) انظر: دراسة عن القصيمي، لصلاح الدين المنجد.
(9) انظر: ذم الهوى، لابن الجوزي، ص 409.
(10) انظر: البداية، لابن كثير: 11/64.
(11) انظر: العاقبة، لعبد الحق الإشبيلي، ص 180.
(12) انظر: طوق الحمامة (ضمن رسائل ابن حزم): 1/278.
(13) انظر: الردّ على الزنادقة، للإمام أحمد (ضمن عقائد السلف)، ص 65 - 66.
(14) انظر: المنتظم، لابن الجوزي: 13/108.
(15) أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه، وصححه الألباني في الجامع الصغير.
(16) انظر: الردّ القويم على ملحد القصيم، لعبد الله ابن يابس، ص 11.
(17) انظر: موقع إيلاف: 22/7/2007م، والوسطية: 28/12/2002م.
(18) انظر: جريدة الرياض 18/9/2003م، 12/8/2004م.
(19) مفتاح دار السعادة، لابن القيم: 1/140.
(20) العاقبة ص 180. وانظر: الجواب الكافي، لابن القيم، ص 226.
(21) انظر: بيان الهدى، للسويّح: 1/5، 47، 142.
(22) انظر: الرد القويم، لابن يابس، ص 12. وروضة السنين، للقاضي: 1/280 - 281.
(23) انظر: الرد القويم، لابن يابس، ص 12. وروضة السنين، للقاضي: 1/280 - 281.
(24) الدرء: 4/183.
(25) أخرجه اللالكائي في أصول السنة: 4/712.
(26) السيف المسلول على من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، ص 113 - 114.
(27) رسائل ابن عابدين: 1/293.