
لا غير الدم يصلح لأداة تنبيه أخيرة تلمع أمام عيني سادر في غي التزييف والتغييب الذي تمارسه آلة الإعلام المتمنطق بالممانعة والصمود في وجه المشروع الصهيوأمريكي، ولا سواه دليل على فداحة الجرم المقترف باسم هذه الشعارات التي لا تمثل سوى قشرة تغطى بها جرائم موتورين ضد شعوبهم المسلمة الوادعة.
بيد أن الدم ـ على فداحة ثمنه ـ لم يعد كافياً عند من يقدم الحسابات السياسية على الأخلاق، ومن لا يمتلك الإرادة ليفكر في الهواء الطلق ويزن الأمور بمعاييرها الصحيحة، دون رهن المواقف وتجييرها في اتجاه الضيق من الحسابات والتوازنات.
سيدنايا أو سيدتنا أو مريم البتول أو صيدنايا كانت العنوان الأبرز لأحدث جرائم السجون السورية التي أسفرت عن استشهاد العشرات وإصابة مثلهم إثر الاعتداء على كتاب الله ودوس جنود السلطة له بالأقدام وسبهم لرب العالمين ـ بحسب ما ورد في المرصد السوري لحقوق الإنسان، وعززته مصادر المعارضة السورية فيما بعد ـ، وكانت الجريمة قبل أيام شاهداً على أن كل ما تغير حول سوريا لم يبدل من طبيعة نظامها وأسلوب تعاطيه مع شعبه؛ فالطريقة الفاجرة التي اعتمدها السجانون الطائفيون لم تخالف نهجاً مردوا عليه منذ السبعينات، عندما بدأت الطائفة الحاكمة تدير ظهرها لثوابت الشعب السوري وعقيدته الإسلامية وقيمه الأخلاقية، وبدا أن مستنقع المجازر الطائفية ضد النشطاء المسلمين لم يجف بعد، وأن لا حافز على جفافه على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية.
لا أحد، مثلما تبدى، كان معنياً بقول لا لهؤلاء المجرمين الذين دنسوا مقدسات المسلمين على رمية حجر من عاصمة الأمويين وحصن الإسلام، دمشق، لا سوى المعارضة السورية، إسلامية أكانت أو وطنية أو حتى منتفعة، دان المجزرة التي ارتكبت ضد الأبرياء في السجون.. وكانت الحالقة، التي كشفت عن تجيير المواقف لمصالح حزبية ضيقة، ربما لدى البعض سبقت المبادئ والأخلاق والقيم.
إن المصحف قد ديس في قلب العروبة، وفتحت النار على صدور المناضلين المسلمين، ولم نسمع لهم ركزا؛ فلا المظاهرات اشتعلت، ولا البيانات صدرت، ولا المؤتمرات انعقدت، ولا المقالات منهم دبجت.
ما الذي أسكت من دانوا ألف مرة ما جرى في سجون الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر مع أن أكبر ما ينسب من تجاوزات ضدهم في عهده لا يجاوز أقل المجازر في سجون البعث السوري.. أليس من المخجل حقاً أن تكون مجزرة صيدنايا هي أفدح ثمناً في سفك الدماء من "مذبحة ليمان طرة" التي يقول موقع إخوان أون لاين أن عددها يتردد ما بين 21 ـ 22 من الإخوان (بخلاف المصادر الأخرى التي تتحدث عن رقم أقل من ذلك)، ثم لا تجد الإدانة مشابهة كالتي امتدت لعشرات السنين يتردد صداها؟!
إن الفارق كبير بين حوادث وتجاوزات بل وجرائم ارتكبت قبل عشرات السنين لم يجاوز قتلاها العشرات (ندينها قطعاً بكل ألوان الإدانة)، وبين جرائم طائفية بلغ ضحاياها نحو 70 ألف سوري مسلم في أحداث حماة وحلب وسجن تدمر وفرع فلسطين مثلما تؤكد مصادر حقوقية سورية داخلية وخارجية؛ وما زلنا نسمع حتى أيام قلائل توابع زلازلها في صيدنايا وغيرها.. إن الأثر الذي ينطبع في النفوس جراء هذه الازدواجية في التعامل بين مآس وأخرى، وإهانات للمقدسات ونظائرها، يجعل المصداقية في المواقف السياسية للقوى الإسلامية والوطنية تبقى محل نظر، إذ إنه لدى الفقهاء تأخذ المسائل نفس الحكم إذا تماثلت عللها؛ فكيف والصوت خافت بل منعدم في الجرائم الكبرى، عالٍ في الصغرى منها؟!
من حق الجميع أن يسأل عن الدول الغربية التي ربما كان موقفها أكثر خسة منها في حوادث تحصل في بلدان حليفة وصديقة لها, وعن مدى التحالف الوثيق بينها و"دول الممانعة والصمود" التي تجعلها تصمت على جرائم كهذا فيما هي تهدد الآن الرئيس السوداني عمر البشير بالملاحقة الدولية بعد أن صارت محكمة قتلة الحريري في مجاهل النسيان.
من حق الجميع أن يسأل عن المسؤول الحقيقي عن صمت الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مع تقديرنا الكامل لرئيسه وزمرة العلماء الأجلاء فيه، ومن بيده تسخين البيانات وتبريدها ولأي هدف يرنو من ذلك، وأي حسابات تضبط إيقاعاته؟!
من حق الجميع أن يستفسر عن صمت من وعد بإرسال عشرة آلاف مقاتل ـ إن سُمح له بذلك ـ للقتال إلى جوار عناصر "حزب الله" إبان العدوان على لبنان في يوليو ـ أغسطس 2006، أن نسمع منه ما يشعر ذوي الغائبين في ظُلَم السجون، المهددين هم أيضاً بالاعتقال والتنكيل، أن ثمة من يحمل لهم قضية، ويتحدث عن مأساتهم وينافح عنهم في فضاء الإسلام الرحيب الذي لا تحده الحزبية والعصبية الضيقة البائسة.
من حق الناس أن تفهم في أي زاوية وأي "فسطاط" يقع ما حصل في سجن صيدنايا ممن قسموا العالم لـ"فسطاطين"؟ ولمن هؤلاء المساكين في السجون الموحشة المؤبدة دون محاكمة، ولِمَ يستثنى محور "المقاومة" دوماً من خطابات التهديد والوعيد، وتقع أراضيه الشاسعة خارج حسابات "الفسطاطيين"؟!
من حق الناس أن تطالب أيضاً بعض الساسة المقيمين في عاصمة "الصمود" أن يعيدوا حساباتهم من جديد في تلك الإقامة وفواتيرها الباهظة بعد أن صُيّر الأحرار السوريين جثثاً في السجون، وقتل الفلسطينيون في العراق بدم بارد، على أيدي أهل "الصمود والتصدي"..
مَن الذي أخرس الألسنة، ومن الذي وضع الحسابات الظالمة، ومن الذي مرر الجريمة، ومن أغرى بصمته في تكرارها؟! وحتام تصبح القيم رهينة الحسابات الضيقة؟ وبأي منطق من بعد نتحدث عن ازدواجية الآخرين!!