هل أخطأ لورنس؟ تغييب الولاء والبراء أصل الداء!!
26 رمضان 1429
د. محمد بن إبراهيم السعيدي

حين تسأل إنجليزيا عن لورنس فلن تسمع منه سوى أكمل عبارات التبجيل والثناء فهو مقاتل إنجليزي خدم التاج البريطاني في بقعة من الأرض لم يكن الكثيرون قادرين على تقديم خدمة للتاج البريطاني فيها، كما أن خدماته صاحبت فترة من الدهر عصيبة على بلاده استطاع فيها الرجل أن يساهم في قلب الموازين لصالح دولته في هذا الإقليم المهم من العالم، وليس أدل على قدراته العظيمة من تحقيقه لأكبر إنجازات بريطانيا في الحرب العالمية الأولى وهي تحطيم سكة الحديد واحتلال الأردن وسوريا والإسهام الكبير في احتلال فلسطين والعراق.

 هكذا سيقول المثقف الإنجليزي عن هذا الرجل ولن يستطيع المنصف أيا كان توجهه أن يقول له كذبت.

 

 وحين نتذكر منجزاتنا التي دمرت في تلك الرحلة المشؤومة من جدة حتى دمشق فإن أكثر ما يؤسفنا أو ينبغي أن يكون أكثر ما نأسف عليه :أن لورنس كان هو البريطاني الوحيد في الجيش الذي شارك في تدميرها أما الباقون فهم من آبائنا وأعمامنا، نعم والألم يعتصرني آباؤنا وأعمامنا فالقبائل التي يذكرها لورنس في كتابه هي قبائلنا والرجال الذين يسميهم أعوانه لا تخفى علينا أسماؤهم ومكانتهم، فكما أن سكة الحديد مُدّتْ بأموال المسلمين فإن المسلمين هم من دمروها, ولم يكن لورنس سوى واحد من بضعة آلاف كلهم أو جلهم انتفعوا يوما ما بهذه السكة، ومع ذلك دمروها وهم يعرفون ما هي ولم أنشئت ومن المستفيد حقا من تدميرها، فلماذا فعلوا ذلك؟ وهل يمكن أن يتكرر المشهد؟ هذان سؤالان خطيران ينبغي أن نفكر في جوابهما كلما وردت على أذهاننا حكاية سكة حديد الحجاز.

 

 إنها حكاية لا تعني لي وقفا إسلاميا ضاع وحسب، بل تعني ضياعا فكريا وانهيارا دينيا وأخلاقيا إسلاميا ينبغي أن يدرس تاريخيا واجتماعيا للتعرف على أسبابه وبواعثه لا لنحصيها في مؤلفاتنا ولكن لكي نقف في وجه تلك الأسباب حتى لا تتكون فينا مرة أخرى وتعود حليمة إلى عادتها القديمة.

 

 على حد علمي لم أسمع عن دراسة عربية لتلك المعضلة الدينية والاجتماعية الخطيرة التي جعلت رجالا من آبائنا ينساقون كال... يقتلون إخوانهم ويحطمون منجزاتهم بأيديهم ويصنعون

 من جثثهم جسورا تمشي عليها قوافل الاحتلال لتقف في القدس حتى يقول الجنرال اللنبي : الآن انتهت الحروب الصليبية، وتنتهي في دمشق حتى يقول الجنرال غورو : ها قد عدنا يا صلاح الدين.

 

 عندما قرأت كتاب أعمدة الحكمة السبعة كان ألمي من أولئك الرجال الأشاوس السائرين لاحتلال دمشق باسم الأعداء ينسيني ألم تحطم الوقف الإسلامي بألغام لورنس، وكنت أقول : إنني أفهم أن يقهر المحتل أرضنا بجيوشه الجرارة وأن يبدو ضعفنا أمام قوته لكنني لا أفهم : أن يسير رجال من العرب الأصلاء الذين عرفهم التاريخ بالإباء والشمم وراء ضابط إنجليزي يخدم بهم مبادئه وأهدافه التي تتعارض كليا مع مبادئهم وأهدافهم، أليسوا هم من قال عنهم المثل : كل العرب ملوك تيجانهم العمائم،أي ملوك هؤلاء الذين يسيرون وراء صعلوك وأي عمائم وأي سراويل؟

 

 إننا اليوم في حاجة ماسة لدراسة جادة لأسباب الضعف المعنوي والانهيار النفسي والتحطم الاجتماعي تلك الأسباب التي تجعل من الإنسان آلة في يد عدوه يحركها كيف شاء.

 هل هو الظلم الاجتماعي الذي يحكى أنه كان سائدا في المجتمعات الإسلامية إبان الحكم العثماني؟

 

 لا شك في أن الظلم حري أن يكون سببا، فهو يُفْقِدُ المظلومَ تلك الملكة الفطرية التي بها يميز الإنسان بين عدوه وصديقه وبين ما يضره وما ينفعه، لكن هل كان أولئك الذين ساروا مع لورنس مظلومين حقا أم أنهم كانوا يعيشون بيئتهم التي اختاروها وألفوها منذ آلاف السنين وليس ما بهم من فقر وتعرب من صنع أحد بهم بقدر ما هو سجيتهم التي طالما تغنوا بها في أهازيجهم وحكاياتهم.

 

 هل هو الجهل الذي كان سائدا بينهم حيث لم يكن عدد القراء منهم يتجاوز أصابع اليد الواحدة؟

 الجهل أيضا خليق أن يدمر به الإنسان نفسه ويأتي ما يضره بزعم أنه ينفعه، لكن قادة تلك الحركة ومنظريها والمتبوعين فيها كانوا من المثقفين المعروفين والسياسيين المعدودين والعسكريين المتألقين، كما أن الجهل بحروف الهجاء عند العرب لم يكن يعني الجهل بالمروءة ومعاني الرجولة والوفاء وكانت تلك الحركة على النقيض التام من تلك المعاني.

 

 إنني أزعم من خلال قراءتي لكتاب لورنس وغيره من الكتب التي تتحدث وصفيا عن تلك الفترة أن ما تقدم من أسباب ليست بالبعيدة ولكنها ليست بالوحيدة أيضا, بل ليست هي الأسباب الفعلية المحركة لمثل تلك المشاعر المجنونة التي ينتج عنها حركات يائسة قاتلة تطفئ المروءة والعزة في من نفوس طالما اتسمت بها.

 أنا لا أستبعد أن يكون الأثر الأكبر والسبب الأعظم لمثل ذلك الانسياق البهيمي وراء لورنس وادعاءاته هو غياب عقيدة الولاء والبراء من القلوب في ذلك العصر، تلك العقيدة التي كانت وحدها هي سبب مقاومة المصريين للعدل الاجتماعي والقضائي المزعوم الذي جاء به نابليون بونابرت في مقابل خيار الظلم والقسوة التي كانت طابعا للحكم الإقطاعي الذي كان طابع التسلط العثماني المملوكي على مصرفي ذلك الأوان.

 عقيدة الولاء والبراء التي كانت سببا لفشل جميع حركات الاستقلال عن الدولة العثمانية تحت رعاية غربية طيلة قرنين من الزمان.

 وهي العقيدة التي حاربتها الدعاية الغربية منذ الحملة الفرنسية على الجزائر على يد علماء ومفكرين مسلمين تحت شعارات قومية ووطنية وصوفية وليبرالية وعلمانية، واستطاعوا في ظل تغييبها أن يصلوا إلى أعظم مما كانوا يطمحون إليه من ولاء يجعل من المسلم بندقية في يد عدوه يصوبها حيث شاء.

 

 وهي العقيدة التي عاد الغرب من جديد للسعي إلى تغييبها بعد أن بعثها الله تعالى في النفوس على يد الملك المصلح المجدد عبد العزيز بن عبد الرحمن الذي رد على المبعوث البريطاني وليم شكسبير حينما طلب منه في تلك الفترة ذاتها إعلان الحرب ضد ألمانيا : إن الدولة العثمانية حليف لألمانيا ومهما كان بيني وبين الدولة العثمانية من خصومة فلا يمكن أن أعلن الحرب عليها لأنها مازالت دولة الخلافة الإسلامية.

 

 عاد الغرب إلى تغييبها الآن وبالطرق نفسها التي استخدمها قبل أكثر من مائة سنة..

 نعم : إن الفهم الخاطئ لعقيدة الولاء والبراء يتسبب في العزلة والانطواء عن المجتمعات ويغذي الكراهية والأحقاد، لكن ذلك ليس حكرا على هذه العقيدة بل إن كل فكرة مهما كان نبلها إذا أسيء فهمها أو استخدامها انقلبت نتائجها إلى عكس ما يرجى منها، ولذلك فلا يصح الاحتجاج بالأخطاء التي نتجت عن التطرف في فهم هذا المعتقد الفطري لنعمل على إلغائه بالكلية، لنصل بعد غيابه إلى مرحلة الاستحمار التي أنقذنا الله منها بهذه العقيدة الربانية المباركة.

 

فهل سر هذه المحاولات الجادة لتغييب هذه العقيدة هو الإعداد لمرحلة لورنسات جدد ظهرت طلائعهم في عدد من البلدان العربية والإسلامية.