باكستان: وقع المحظور
24 ذو الحجه 1430
طلعت رميح
إلى أين تسير باكستان، بعد كل ما يجرى فيها الآن ؟. كنت كتبت مقالاً تحليلاً من قبل تحت عنوان "وداعاً مشرف والآتي أسوأ"، تفضل الأحبة في موقع المسلم بنشره، توقعت فيه رحيل مشرف، وأشرت إلى أن الآتي على باكستان، أسوأ مما كان عليه الحال في ظل حكم مشرف. والآن يبدو من الضروري العودة مجدداً لتقديم رؤية مستقبلية أو: إلى أين تسير باكستان، وللأسف إلى الأسوأ أيضاً، حيث المحظور وقع.
وقع المحظور. والمحظور هو انفضاض حالة الإجماع الوطني فى باكستان حول الجيش الذى مثل عماد بناء الدولة الباكستانية، وقوة تحديها في الإقليم أو بالدقة في الصراع التاريخي والوجودي مع الهند، بل كان هو صمام الأمان لبقاء ووحدة الدولة والمجتمع أيضا. لقد كان الجيش الباكستاني في حالة الجيش السوداني ذاتها من زاوية الدور الداخلي، إذ كان المانع لتفكك الدولة والمتدخل دوماً عندما تصل أوضاع الصراع الطائفى العرقى والجهوى إلى حالة تهديد المجتمع والدولة بالتفكك. والجيش الباكستانى " حقيقة" هو أبو المشروع النووى الباكستانى، إذ لم تتشكل نخبة " مدنية" قادرة على بناء مشروع متحدى ووجودى، بسبب كثرة وشدة وتنوع الصراعات داخل المجتمع. وكذا فالجيش الباكستانى هو من تمكن بصفة دائمة من تقديم رؤية مدققة للوضع الدولي والإقليمي، سمحت باستمرار بقاء باكستان وقوتها.
لكن أخطر ما جرى فى السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الباكستاني برويز مشرف - بعد أن بدأ تحالفه مع الولايات المتحدة - هو خروج الجيش الباكستاني عن وضع المتوافق عليه بين الكتل السكانية، إلى وضع الطرف فى الصراع ضد بعض المجموعات والكتل سكانية، وهو ما تصاعد الآن إلى حالة اشتباك مع الجيش وإنهاكه في صراعات داخلية، تؤكد كل المؤشرات أنها قابلة للتوسع باستمرار في المرحلة الراهنة وقادم الأيام، ليس فقط بحكم الدوافع والأحداث الداخلية، بل وفقاً لعمليات دفع خارجية مخططة من قبل الولايات المتحدة والهند –على الأقل - تستهدف أساساً كسر العمود الفقرى لوحدة وبقاء باكستان. ومن ثم فنحن أمام نقلة خطيرة للغاية تتمثل فى تقاطع مصالح دولية وإقليمية مع بعض المجموعات السكانية بل والحكم المدنى الراهن، على أضعاف الجيش!
 
المعركة الراهنة
فى المعركة الجارية فى باكستان، يبدو الأمر صراعا صعباً متداخلاً، بين محاولة " الدولة" فرض هيمنتها وسيطرتها على إقليمها من جهة، وبين عملية جارية تلبية للشروط والطلبات الأمريكية في إضعاف قوة الحركات الداعمة لطالبان أفغانستان، وهذا وذاك يجرى تحت الضغط الهندى الذى تحول إلى هجوم مضاد استراتيجي متعدد الاتجاهات، إذ لم تعد الهند فى حالة دفاعية بسبب احتلالها لإقليم كشمير، بل صارت فى وضع الهجوم على باكستان تحت عناوين تتهمها برعاية الإرهاب وضد الجيش الباكستانى بشكل خاص، بإعادة إحياء حركات انفصالية "قديمة" تحمل السلاح في أقاليم، وبرعاية دور حكومة حامد كرزاى المعادية لباكستان وأفغانستان وجيشها وأجهزة مخابراتها بشكل خاص.
ما يجرى في باكستان هو حالة معقدة متداخلة الأهداف ولا صراعات والقوى، لكنها جميعاً تتحالف الآن – في هذا الصراع - حول إضعاف الجيش الباكستاني وجهاز الدولة، هناك عملية إنهاك وإضعاف الجيش الباكستاني في معارك داخلية، لتقليل فرص عودته للسيطرة على السلطة السياسية، كما هو متكرر في التاريخ الباكستاني، إذ القصد من هذا الإنهاك الداخلي، هو فض الإجماع الوطني الباكستاني حول دور الجيش كمؤسسة وطنية باكستانية، وجعل احتمالات قيام الجيش بالاستيلاء على السلطة، عملية تحول دونها مواقف جماهيرية مضادة، وفى ذلك تلتقى أهداف نخبة الحكم الراهنة، والولايات المتحدة والهند.
وهناك عملية إنهاك الجيش الباكستانى فى معارك داخلية، لإضعاف قدرته على المواجهة الخارجية. فى الوضع الراهن، لا يخوض الجيش معارك على الحدود مع أفغانستان فقط، بل امتد الأمر إلى مهاجمة مقراته الرئيسية، لكن الأخطر هنا ، هو أن معارك على هذا النحو، إنما تستدعي اهتماماً خططياً وتسليحياً مختلفاً عن المواجهة الرئيسية مع الجيش الهندى. وكذا الجيش الباكستانى صار متعرضاً لحالة ضغط على ثلاثة حدود، إذ هو فى معركة على الحدود مع أفغانستان ، لكن ضد مواطنيه، وهو مستنفر على ذات الحدود لحماية القوات الأمريكية هناك، وفى حالة استنفار على الحدود مع الهند، وهنا جاء فتح جبهة الحدود مع إيران لتمثل الضربة الإنهاكية الرابعة، إذ هدد الحرس الثورى القيام بعمليات مطاردة ساخنة لمجموعات جند الله –الإيرانية - داخل الأراضي الباكستانية، وهو أمر لن تقف تداعياته عند حدود دفع الجيش الباكستانى لنشر جانب من قوته على الحدود، ولا حتى على احتمالات المواجهة المباشرة بين الجيشين الباكستانى والإيرانى-اذ هى مستبعدة فى المرحلة الراهنة على الأقل- بل الأشد وطأة هي أن طبيعة المعركة السياسية والأمنية مع إيران، هي معركة داخلية في باكستان، بحكم الانقسام والصراع المذهبي المتأجج في بعض الأقاليم صراحة ،وبحكم أن القيادة السياسية للبلاد هي من صنف مذهبي معين. هنا تحديداً يمكن القول، بأن القادم أشد سوءاً من كل ما شهدناه يجرى فى باكستان من قبل ، حيث هناك من يجلس مترقباً كل تفاعلات الصراع ومتابعاً لها، يتحرك باتجاه تفكيك المشروع النووي الباكستانى، وفرض الحصار الدولى على باكستان، لتتفاعل العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية.
 
ضعف القوى الأصيلة
فى ملامح صورة توازنات القوى الداخلية فى باكستان، يبدو سير الأحداث الجارية هو فى اتجاه واحد، هو اتجاه إضعاف كل القوى الأصلية والأصيلة فى المجتمع. ومن تابع تاريخ نشأة هذا البلد، يعرف جيداً أنه بلد تشكل بالانفصال عن الهند عبر معركة "دينية"، إذ تمكن المسلمون من الخلاص من الحكم الهندى فى معركة استقلال رهيبة تبعتها معارك أخرى، حاولت الهند _ القارة الهندية_ استعادة سيطرتها وسطوتها على باكستان، وهى إذ لم تستطع العودة لاحتلالها فإنها نجحت في آخر حروبها في شق باكستان إلى نصفين، عبر تأسيس دولة بنجلاديش المنفصلة عن باكستان.
ولكل ذلك تشكلت قوة وبناء وعقيدة الجيش الباكستانى على محورين، أولهما أنه جيش دولة انفصلت عن الهند على أساس ديني إسلامي، بما جعل عقيدته القتالية والمفاهيم الحاكمة له والإستراتيجية التي يعتمدها ، تقوم على هذا الأساس. ثانيهما، أنه جيش لا يمكن له أن يهدأ أو يعيش "حالة استرخاء" " ليس فقط على مستوى الاستنفار والاستعداد، بل هو لابد له أن يكون "مشرفاً وقائداً لعملية تطوير السلاح والتقنيات.
لكن أداء هذا الجيش لدوره هذا، لم يكن له أن يجرى منفصلاً عن الدولة والمجتمع، وفى ذلك جرى الأمر على محورين أيضاً، أولهما ، أن الجيش كانت عيناه مفتوحتين دوماً على الحكم وممثليه وسياساته، حتى لا يخرج عن ثوابت الأمن القومى الباكستانى، ولذلك كان الجيش يتدخل بين مرحلة وأخرى للحفاظ على مثل تلك الثوابت وعلى مصالح باكستان العليا، عبر السيطرة على السلطة السياسية، حين تتصاعد الصراعات وتتحول إلى مدد لبقاء ووحدة وقوة باكستان. وثانيهما، أن الجيش كانت عيناه مفتوحتين دوماً على المجتمع وما يجرى فيه، لخصائص المجتمع الباكستانى سواء لانقساماته المذهبية، أو بحكم اختلاف اللغات واللهجات في داخل المجتمع وما يرتبط بها من أوضاع ثقافية، وبالنظر إلى عدم انصهار المجتمع تاريخياً، لاعتبارات كثيرة، منها حداثة تشكيل الدولة بعد انفصالها عن الهند، ولظروف التطور الاقتصادي والاجتماعي بالغة التعقيد، إذ ارتبطت سيطرة "البيوت الإقطاعية" بأفكار مذهبية، كما هو حال عائلة بوتو التي جمعت بين التشيع والإقطاع والسلطة السياسية في البلاد، وتلك هي القراءة للأوضاع الجارية الآن في باكستان.
وإذا كنا أشرنا إلى قدر من التشابه بين وضعية جهاز الدولة الباكستانى على رأسه الجيش، ونظيره السوداني، فإن التشابه هنا ، يتمثل أساساً فى دور الجيش في الحفاظ على استقرار مجتمع غير مستقر. لكن ثمة وجهاً آخر للتشابه، سبقت فيه الدولة الباكستانية نظيرتها السودانية، إذ منذ تشكلت باكستان كدولة والعلاقة واضحة بين دور الجيش ومفاهيمه وبنائه والحركة الإسلامية التي حرصت دوماً على اخراج الجيش من معادلة صراعها ضد الآخرين، كما حرص الجيش على أن تكون علاقتها دوماً متوطدة بالحركات الإسلامية. وفى المقابل فان السودان لم يشهد تبلور هذا النمط من العلاقة بينه والحركة الإسلامية السودانية، إلا بعد ثورة الانقاذ فى عام 1989.
لقد أبرزت الحركة الإسلامية الباكستانية وعياً واضحاً بخصوصية وضع الجيش الباكستاني، دفعها دوما إلى عدم الدخول في مواجهة معه فى المراحل التى يسيطر فيها على الحكم، كما توطدت العلاقة بين الطرفين على نحو كبير خلال عهد الرئيس (العسكرى) ضياء الحق، الذى ترافق وجوده فى السلطة، مع حركة الجهاد في أفغانستان، لعبت فيها الحركة الإسلامية دورا كبيرا، بما عمق من دورها فى المجتمع الباكستانى.
لكن آخر أيام حكم الرئيس برويز مشرف، شهدت انقلابا خطيراً في تلك الدورة، تحت ضغط من الولايات المتحدة، ولرؤية معينة لدى الجنرال برويز مشرف فى الحكم، إذ حول مشرف (وهو عسكري) الجيش إلى أداة مواجهة مع الداخل ومع الحركات الإسلامية بشكل خاص - بدءاً من معركة المسجد الأحمر - وهو ما تصاعد من بعد حتى وصلنا إلى تلك الحالة الخطرة الجارية الآن، إذ تجرى حرب فى الداخل بين الجيش وحركات قبلية وأخرى إسلامية، بما أدخل باكستان الى المحظور.
 
الدولة والمجتمع
هنا يبدو من الضروري التنويه إلى أهمية إدراك الجانب العام في تلك القضية، التي باتت تطرح نفسها الآن بشدة ليس فى باكستان فقط، بل فى مختلف الدول العربية والإسلامية، إذ يبدو ثمة شططاً فى الفهم بشأنها. القضية هى كيف تفرق الحركات السياسية والمعارضة "وحتى المسلحة" بين تغيير النظام السياسي وهدم جهاز الدولة وبشكل خاص مؤسسة الجيش؟.
ولإيضاح الأمر يبدو النموذج العراقى أساسياً فى طرح القضية وفى فهمها، فحين دخلت قوات الاحتلال العاصمة العراقية بغداد، كان قرارها الأول، حل كل مؤسسات الدولة التنفيذية وحل الجيش العراقي وأجهزة الأمن. وقتها تصور البعض، أن فى الأمر ما يمكن وصفه بإنهاء جهاز دولة بوليسي وديكتاتوري وتحكمى، لكن النظرة تغيرت من بعد أن ظهر أن هدف "المستعمر" لم يكن إلا إنهاءً لمؤسسة وطنية، وإزاحة حجر عثرة من أمام الاحتلال، لكي يصل إلى مخططه الأصلى وهو تفكيك المجتمع إلى أبجدياته الأولى، (أي قبائل – أو مكونات عرقية- أو مكونات مذهبية .. إلخ)، لإفقاد المجتمع وحدته في مواجهة الاحتلال، ولتمكين "المستعمر" من البقاء وإنفاذ أهدافه في أضعاف المجتمع للسيطرة عليه وإخضاعه أو إخضاع إرادته، والتحول نحو إحداث التغييرات الفكرية والسياسية والثقافية والمجتمع، وفق ما يقال عنه " إعادة صياغة المجتمع والدولة من جديد".
وفى الحالة السودانية، فإن كل ما يجرى فى جنوب السودان وفى تجربة دارفور وفى الشرق (كسلا والبحر الأحمر) من حركات سياسية مسلحة، كان وما يزال هدفه الحقيقي هو إضعاف وإنهاك جهاز الدولة، لإزالة القوة المانعة والمواجهات لعمليات ومؤامرات الانفصال وتفكيك المجتمع والجغرافيا السياسية بل وحتى الطبيعة.
 والحاصل في باكستان الآن، أن الأمور تتطور باتجاه إنجاح هذا المخطط للأسف، لقد أصبح جيش ودولة باكستان – أى مؤسسات الدولة بكل أشكالها- واقع الآن في مأزق متصاعد المعالم. ضغط من الولايات المتحدة لتغيير المجتمع وتسلل للداخل للتفكيك، ومعارك في داخل الوطن بين أبناء شعبه وضغط من كل الحدود من الهند إلى إيران إلى صنيعة أمريكا في أفغانستان. وكل ذلك هو ما يسير بهذا البلد نحو التفكك عبر إضعاف العمود الفقرى لمؤسسات الدولة أى الجيش.