1 محرم 1438

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أنا طالبة في المرحلة الجامعيّة في سنتي الثالثة أدرس بكلّية الطبّ البشري، ابنة واحدة لوالديّ ولديّ تسعة إخوة ذكور.. مشكلتي أنّي بدأت أشعر أنّي عصبيّة وحسّاسة وأحيانا أشعر أنّه ليس لديّ مشاعر ودائما أرجع السبب إلى والديّ.. فوالدي يتعامل معنا بالصراخ دائما ويظلم والدتي وإخوتي والصراخ لا ينقطع من المنزل مع أنّ معاملته معي أفضل مقارنة بإخوتي، أمّا أمّي فهي دائما ما تعبّر عن حبّها لي بطريقة خاطئة.. فلا أذكر في حياتي كلّها أنّني حضرت مناسبة في حياتي إلاّ ونمت أبكي في نفس اليوم بسبب مقارنة أمّي بيني وبين باقي الفتيات مع أنّي متأكّدة أنّها فخورة بي، فهي دائما ما تردّد ابنتي طالبة متفوّقة و.. لكنّ ضغطها عليّ بالمقارنة يكاد يجعلني أنفجر.. هذا بالإضافة إلى أنّها في حال وجود إخوتي الذكور تشعرني بتفرقة شديدة في المعاملة بيني وبينهم، فلطالما أخذت الملعقة من يدي لتضعها في أيديهم.. أو أيقظتني من نومي لأعدّ لأحدهم كأس شاي، ودائما تقول لو باستطاعتي لحوّلتك إلى ولد فأنا أحبّ الأولاد أكثر من البنات، وأنا أقدّر أنّ حبّهم قد يكون فطرة ولكنّي أحتاج إلى حنان لم أجده.. لم تضمّني أمّي إليها ولم تحضنّي حتّى عندما كنت طفلة، مع أنّها تمسح على رأس إخوتي الأولاد وتقبّلهم.. مشكلتي أنّ هذا الجفاف العاطفي في المنزل والصراخ الدائم وشعوري بالتفرقة بدأ يؤثّر على شخصيّتي.. رغم تفوّقي الدراسي وإعجاب الزميلات بقوّتي وشخصيّتي "الخارجيّة" إلاّ أنّي أشعر أنّي غير مستقرّة من الداخل، فأقلّ موقف يجعلني أنهار بالبكاء، ولو احتضنني أحدهم أرغب في البكاء، وأحيانا لا أتمالك أعصابي، أو قد أتحسّس من أمور عاديّة.. وأحيانا أفكّر في أنّي لا أستطيع أن أكون زوجة تعطي من مشاعرها في يوم ما.. هل هناك أمور أفعلها لأستعيد ثقتي بنفسي وأزيل التوتّر الذي يعيش في داخلي أم أنّي كبرت على هذا؟ ولكم جزيل الشكر.

أجاب عنها:
سميحة محمود

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
يسرّنا أن نرحّب بك في موقعك المبارك، فأهلا وسهلا، ونسأل الله التوفيق في الردّ على رسالتك.
ابنتي الحبيبة.. في البداية أشدّ على أيدي والديك وأسأل الله لهما العون والصبر والمدد، فتربية عشرة أبناء ليست بالأمر الهيّن، ولكن حقّا من أصعب المهامّ تربية الأبناء خصوصا في زمننا هذا الذي شارك الوالدان عوامل خارجيّة وداخليّة صعّبت عليهما دورهما. ولا شكّ أنّ الجهد والمعاناة والتضحيّات التي يقوم بها والداك قد أثّرت على الجوّ العامّ داخل الأسرة، فكما ذكرت (والدي يتعامل معنا بالصراخ دائما ويظلم والدتي وإخوتي والصراخ لا ينقطع من المنزل)! ووالدتك كان الله في عونها لا تجد وقتا للعواطف وبثّ مشاعر الحبّ، فهي باختصار مطحونة في رعاية الأبناء وتلبية مطالبهم وتفقّد أحوالهم ومتابعة دراستهم وحلّ مشاكلهم. وها هي تجد ثمرة ما زرعت ابنة جميلة متفوّقة على وشك أن تتخرّج من الجامعة وتصبح طبيبة متميّزة لها دور نافع في مجتمعها.
فلمن الفضل بعد الله فيما وصلت إليه يا قرّة العين؟
- بالطبع - والداك لهما الفضل فيما وصلت إليه من تفوّق وتميّز، فإن كانت أمّك لا تجيد التعبير لك عن فخرها بك وحبّها لك، فتلجأ إلى عقد المقارنات بينك وبين غيرك من الفتيات (مقارنة أمّي بيني وبين باقي الفتيات) فهذا الأسلوب في نظرها وفي قناعتها يحفّزك على مزيد من التفوّق والتقدّم، فهي تتباهى بك وتشعر بالفخر أنّك ابنتها، وأنت تعلمين ذلك (أنّي متأكّدة أنّها فخورة بي) فلماذا إذن تبكين؟! من الممكن أن تتحدّثي مع والدتك بأسلوب رقيق وبعد احتضانها وتقبيل يديها ورأسها، وتخبريها أنّك تتألّمين عندما تقارنك بإحدى الفتيات، قولي لها إنّك تتحرّجين من هذه المقارنات أمام الأخريات، وأخبريها أنّك على ثقة أنّها لا تقصد جرح شعورك أو التقليل من شأنك؛ ولكن قد يظنّ الآخرون أنّها شكوى منها وليست تحفيزا. أعتقد بأسلوبك المهذّب الرشيق مع أمّك ستتفهّم وجهة نظرك وستقبل التغيير، وإن لم يحدث هذا التغيير، فأرجو ألاّ تتأزّمي من تصرّفات أمّك واستقبليها بصدر رحب وتفهّمي أنّ ذلك حرص زائد منها على تفوّقك وتميّزك، فإن فعلت هذا سيكون بإذن الله تعالى ردّها بردا وسلاما عليك، ولا داعي أبدا لأخذ هذا الموضوع بهذه الحساسيّة التي تجعلك تقولين (ضغطها عليّ بالمقارنة يكاد يجعلني أنفجر).
ابنتي الغالية.. مشاعر أمّك تجاهك ستدركينها عندما تصيرين أمّا، فلا يوجد على وجه الأرض حبّ يعادل حبّ الأمّ لأبنائها، فأمّك تحبّ أن تراك سعيدة.. متفوّقة.. ولو على حساب سعادتها، وتحرص على مصلحتك أكثر من حرصها على مصلحتها الشخصيّة، وربّما في بعض الأوقات تقسو أو تفرّق في تعاملها بينك وبين إخوتك دون أن تدري، فاعذريها فهي قد ورثت هذا الإرث من مجتمعها وتربّت عليه، فكثير من الأسر الشرقيّة تميّز بين البنت والولد وتعطي الولد حقوقا وصلاحيّات تسلبها من البنت، وتنفّذ للولد كلّ رغباته في حين ترفض للبنت كلّ رغباتها.. بل إنّ كثيرا من الأسر تمنع بناتها من التعليم أو على أكثر تقدير تكتفي بتعليم البنت القراءة والكتابة فقط ثمّ تلزمها بالمكث في البيت لخدمة إخوتها الذكور. ولكن الأمر يختلف كثيرا في أسرتك، فحرص أبويك على تعليمك ودخولك كلّية الطبّ لهو أبلغ ردّ على أنّهما يحرصان على حقوقك كاملة، أمّا ما ذكرتيه من بعض المواقف (لطالما أخذت الملعقة من يدي لتضعها في أيديهم.. أو أيقظتني من نومي لأعدّ لأحدهم كأس شاي)، فكلّ هذه الأمور من الأمور الصغيرة التي يجب أن تغضّي الطرف عنها، وأنت صاحبة العقل الراشد والنفس الطيّبة المتسامحة، وأنت حين تلبّين مطالب أمّك وتخدمين إخوتك، فأنت بذلك تساعدينها وتعاونينها. حاولي أن تخلصي إحسانك إلى أمّك لوجه الله تعالى، بل بالغي في إرضائها، وأظهري الذلّة وخفض الجناح، واعلمي أنّ من برّك لأمّك الصبر على قسوتها واحترامها وتوقيرها، وعدم تتبّع هفواتها، وتذكّري أنّها كانت خادمة لك ولم تقصّر معك منذ ولادتك ولم تبخل بصحّتها حتّى اشتدّ عودك واستقام شبابك ودخلت كلّية من أعرق الكلّيات وستكونين بإذن الله تعالى طبيبة متفوّقة ومتميّزة.
ابنتي المؤمنة.. تشتكين من (الجفاف العاطفي في المنزل والصراخ الدائم).. فكثير من الأمّهات لا يظهرن مشاعرهنّ تجاه الأبناء، ويعود ذلك إلى أسباب منها كثرة الأعباء على الأمّ تجعلها لا وقت لديها للعواطف والمشاعر، فهي في نظرها تعبّر عن حبّها لأبنائها من خلال رعاية الأسرة وخدمة أفرادها والقيام على شؤونهم، وربّما تكون الأمّ قد نشأت في بيئة جافّة تعتبر إظهار العواطف خصوصا للبنت يفسد تربيتها ويجعلها تتمرّد على إخوتها.. ربّما! ولكن لي سؤال عندك: هل تقومين أنت بنشر الحبّ في بيتك من خلال حرصك على إسعاد أفراد أسرتك؟
هل تتفنّنين في إدخال السرور على والديك؟
لماذا دائما نطلب الحبّ ونشتكي من الجفاف العاطفي، ونحن في نفس الوقت لا نبادر بزرع شجرة الحبّ داخل أسرتنا؟
إظهار الحبّ يولّد حبّا، كما الابتسامة تولّد ابتسامة.
جرّبي أن تخبري أمّك أنّك تحبّيها وقولي لها يا نور عيوني أنت أغلى من حياتي. ابتسمي لأبيك عند دخوله البيت وقدّمي له كوب عصير.
تحدّثي مع إخوتك -كلّ على حدة- وشاوريهم في أمورك.
جرّبي أن تلقي عليهم السلام كلّما نظرت إلى وجه أحدهم.
إذا أخطأ أحد في حقّك سامحيه وتعاملي معه برفق ولين، فتسامحك مع الآخرين يشعرك بالأمان والسكينة ويرسل إلى المحيطين طاقة التسامح واللين، فحسن التعامل يولّد الحبّ.
لا تجادلي أحدا في موضوع ليس له طائل، أبدي رأيك بهدوء. أبدي إعجابك بأفراد أسرتك فردا فردا..
امتدحي الإيجابيّات وغضّي الطرف عن السلبيّات..
أحبّي ذاتك وثقي في قدراتك.
اطردي الأفكار السلبيّة واحذري أن تسيطر عليك واستبدليها بأفكار إيجابيّة.
لا تفكّري فيما ينقصك، ولا تقارني نفسك بالآخرين وبما لديهم، بل ركّزي على الوسائل التي تدفعك إلى النجاح.
ابنتي الكريمة.. اعلمي أنّك يوما ما ستصبحين زوجة وأمّا، وعلى الزوجة مسؤوليّة تجاه زوجها وأبنائها، فحقّقي ما كنت تتمنّينه في أسرتك الحاليّة في أسرتك الوليدة، وتجنّبي أخطاء مررت بها، وتخلّقي بالمسامحة والتغافل والعفو والرفق واللين، فالحياة الزوجيّة تحتاج منك إلى ذلك، وتحتاج منك إلى معرفة حقوق الزوج لتقومي عليها، كما تحتاج منك إلى إدخال السرور عليه وعدم إغضابه، والتغافل عن عيوبه، وعدم تتبّع سقطاته، فنحن بشر والنقص يعترينا، وبكلّ منّا عيوب، والكمال لله تعالى وحده، فإذا جلس كل ّمنّا يحفظ عيوب الآخر ويتتبّع هفواته، ويعدّد أخطاءه لاسودّت الحياة، وأظلمت الدنيا، ولكن بالحبّ والتسامح والتذلّل والعفو والصفح مع الرفق واللين تمضي الحياة ويمرّ الوقت، ويسعد الإنسان ويسعد الآخرون.
ابنتي الجميلة.. استعيني بالله في كلّ أمورك وأحسني اتّصالك به، فهو المدبّر لشؤوننا، وهو القادر على بثّ الطمأنينة في نفوسنا.. حافظي على عبادتك وراقبي الله في سرّك وعلانيتك.. وأخلصي نيّتك لله عزّ وجلّ..
وفي الختام.. أسأل الله عزّ وجلّ أن يوفّقك لكلّ خير، ويحفظ والديك ويعينك على برّهما، وأن يزيدك طاعة لأمّك، وبرّا بها وإحسانا إليها، وأن يجعلك من الفائزات المتفوّقات، وأن يمنّ عليك بسلامة الصدر والصبر والحلم والأناة، وأن يمتّعك بالثبات في الدنيا، والتفوّق في الدين، وأن يمنّ عليك بزوج صالح يكون عونًا لك على طاعته ورضاه، ونحن في انتظار جديد أخبارك فطمئنينا..