19 جمادى الأول 1426

السؤال

شاب مستقيم، يرغب توجيهه، ويقول: ماذا أفعل بعد الالتزام؟

أجاب عنها:
جمّاز الجمّاز

الجواب

الحمد لله رب العالمين، وبعد: إن واجبات الشاب المستقيم كثيرة ومتنوعة، ولعل السائل يريد توجيه نصائح تزيده تمسكاً وثباتاً على هذا الدين. لذا سوف نعرض لبيان أمور يجب عليك أخي الكريم الاهتمام بها ومراعاتها، وأخرى الحذر منها وتركها، وهي عبارة عن إرشادات وتحذيرات، تقي الشاب الملتزم الانتكاسة وسلوك طريق الضلال أو الانحراف، وإليك ما تريد: <font color="#0000FF">1 – ملازمة الدعاء بالثبات: </font> إذ الدعاء بالثبات ليس لمن وقع في الزلل، بل هو لمن سار على الجادة المستقيمة، فالرسول _صلى الله عليه وسلم_ وأصحابه كانوا هداة مهتدين، يكثرون من الدعاء بالثبات، فإياك أن تهمل هذا الأمر، حتى تكون بعيداً عن السقوط. والمسلمون جميعاً يسألون الله هدايتهم الصراط المستقيم في صلواتهم كل يوم مرات ومرات "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ" (الفاتحة:6، 7). واحرص أن تدعو بـ "رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" (آل عمران:8). وصحَّ عنه _صلى الله عليه وسلم_ أنه كان يدعو بـ"اللهم مصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك"(1)، وكان أكثر دعائه _صلى الله عليه وسلم_ فيما صحَّ عنه "يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك"(2). فلا تستسلمْ لنداء الشيطان، وتترك الدعاء، بل لازم الدعاء، واحذر أن تتراكم الذنوب على قلبك، فإنها مانعة من الدعاء. <font color="#0000FF">2 – تحمّل ضريبة الالتزام: </font> كيف تريد الالتزام، ولا تُضحِّي بشير من نفسك أو مالك، لتحافظ على دينك، واستقامتك، ادفع أي شيء، ولو كان غالياً، حتى تثبت على التزامك، أنفق الريال والريال، ولا تندم، اترك الحرام، ولو كان ربحه كثيراً، اترك أصدقاء السوء، ولو كانوا أحبّاء لك، أما علمتَ أنّ سلعة الله غالية، وقد أوصى النبي _صلى الله عليه وسلم_ فيما صحَّ عنه أعرابياً فقال: "إنك لن تدع شيئاً لله _عز وجل_ إلا بدّلك الله به ما هو خير لك منه"(3). <font color="#0000FF">3 – تحمّل الأذى في سبيل الله _عز وجل_: </font> إن الفتنة لمن تمسّك بهذا الدين العظيم، سنة إلهية ماضية، طريق الالتزام ليس سهلاً ممهداً، بل يعتريه الأوحال والأشواك والعقبات. هل قرأت حادثة عقبة بن أبي معيط، وإيذاؤه للنبي _صلى الله عليه وسلم_ حينما أخذ بمنكب النبي _صلى الله عليه وسلم_، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر، فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وقال: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم"(4). هل سمعت ما تعرّض له _صلى الله عليه وسلم_ من حرب القطيعة وحبسه هو وأصحابه وعشيرته في الشِّعب لمدة سنتين(5). هل تعرف ما تعرَّضَتْ له عائشة _رضي الله عنها_ من القدح في عرضها واتهامها بالزنا، حتى برأها الله _جل وعلا_ من هذا الإفك العظيم(6)، إن هذا الابتلاء من أشدّ ما يلقاه المستقيم حيث تُشوّه صورته، ويتناقل الناس خبره، ويُشيعه المنافقون. هل سمعت ما تعرّض له بلال _رضي الله عنه_ من تعذيب تحت وهج الشمس في صحراء مكة ورمضائها(7). هل قرأت ما تعرّض له آل ياسر من التعذيب حتى قُتِل ياسر وامرأته سمية _رضي الله عنها_(8). إنها صور عجيبة، تُبيِّن لنا كيف كان الأوائل يتحمّلون الأذى في سبيل الله _عز وجل_ فأين أنت منهم. وهكذا البطش بأصحاب الأخدود المؤمنين، الذين ذكر الله خبرهم في سورة البروج، فقد تعرّضوا للأذى والموت، حرقاً بأيدي أعدائهم الطغاة الذين أرادوهم أن يرتدوا، ولكنهم تحملوا الأذى في سبيل الله _عز وجل_، كالجبال الشُمّ، مع أنه لا قوة عندهم، ولا نصير لهم، ولا مساند إلا الله _تبارك وتعالى_. فضحُّوا بحياتهم راضين صابرين، من أجل انتصار عقيدتهم(9). وهكذا ما يتعرض له المؤمن من الأذى والمحن والمكائد، كالشائعات والقد، والتنقيص من القدر والاستهزاء والظلم، والتخويف والتهديد، ومحاولة قطع الأرزاق والتسبّب فيها، والسجن والتعذيب. كلها لامتحان إيمانك وتحقيقه، وكشف صدقك من كذبك، فكن راضياً صابراً محتسباً، ثابتاً على تدينك واستقامتك. <font color="#0000FF">4 – لا تتردّد في الهجرة إن خشيت الفتنة: </font> الهجرة: هي الفرار بالدين من المحن والفتن إلى محل يأمن فيه المسلم على نفسه ودينه من الآثام، فمتى أوذيت من قِبل أهلك بسبب التزامك أو تدينك، ولم تستطع الحفاظ على دينك والتزامك، فاترك البيت وتحوّل عنه إلى غيره إذا استطعت ذلك، أو اجتنب أماكن مُخصّصة في البيت، وهكذا إذا أوذيت في مقر دراستك أو وظيفتك، ولم تستطع المقاومة، فغيّر مكان الدراسة أو الوظيفة، وكلٌ بحسبه، ولا يكون ذلك إلا بعد استشارة من يكبرك سناً وفضلاً وعلماً ومراعاة المصلحة والمفسدة. وهذا شيء يسير، و إلا فما بالك لو أدى ذلك إلى أن تُضحي ببلدك وأهلك وتخرج إلى بلد بعيد، كما لو كنت في بلد كفر، ولزم الأمر الانتقال إلى بلد إسلام. <font color="#0000FF">5 – احرص على كبح جماح شهوتك: </font> فالشهوة الحرام، شهوة البطن والفرج والنظر، خطر مُحدق بكل إنسان، وخاصة المستقيم، فإنها غالباً تحول بينه وبين ربه. وبعض المستقيمين غير عابئين بهذا، ولا يقيمون لقضايا الشهوة والنظر بالاً، إلا إذا وقعوا في حمأتها، وبعدها قد لا ترى عابداً إلا وصار فاسقاً، ولا عالماً إلا وصار جاهلاً، ولا داعية إلى الخير، إلا وصار داعية إلى ضلال. كيف لا، والنظر سهم مسموم من سهام إبليس، بل هو أصل عامة الحوادث، وترى ذلك جلياً واضحاً في القنوات الفضائية المحرّمة، والمواقع الإلكترونية الفاسدة. وتذكّر دائماً الأثر الخطير للاستسلام للشهوة والهوى، وأنه أحياناً يؤدي بك إلى الردّة عن هذا الدين، فافهم ذلك جيداً. وليكن شعارك "إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" (يونس: من الآية15). <font color="#0000FF">6 – تعاهد نفسك بتزكيتها وتربيتها: </font> فإيمانك يزيد بالطاعة، وتشتد حاجتك إليه إذا رأيت أنك لست بحاجة إلى التربية والتزكية، بحجة أنها مرحلة وانتهت، وأن الفتنة "النكوص والسقوط" مأمونة، وتزكيتك لنفسك بأن تربيها بالصالحات أقوالاً وأعمالاً، وأعظمها الفرائض، ثم النوافل، على مختلف أنواعها، وعليك الاهتمام بالأمهات، كالصلاة والصوم والصدقة والحج والعمرة، وقراءة القرآن وتعلم العلم، وذكر الله على كل حال، ولا تنسَ نصيبك من قيام الليل. <font color="#0000FF">7 – حاسب نفسك بين كل فينة وأخرى: </font> فإن ترك الالتزام يكون في الغالب تدريجياً من حيث لا تشعر، فالواجب أن تحاسب نفسك عند أول تراجع حتى تأمن الانتكاس، سواء ما يتعلق بالصلاة في المسجد، أو الاهتمام بممارسة العمل الدعوي التربوي، أو ما يتعلق بتعلّم العلم وتعليمه، أو المسارعة إلى الخيرات، أو الجرأة على فعل بعض الحرام، أو ترك الواجب، وخاصة في وجهك ولباسك، وعلى مرأى من الناس. فالمحاسبة أمر هام لتثبيت الإيمان، وتركها وإغفالها مؤذن بنهاية مأساوية. <font color="#0000FF">8 – لا تأمن أن تنتكس أو تُفتَن: </font> فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقبلهما كيف يشاء، واحذر أن تُعجب بعملك أو تثق بنفسك وتأمن من سوء الخاتمة، وهذا من أعظم الفقه. إذ الواجب أن تثق بالله _تبارك وتعالى_، ثم بنفسك ثقة معتدلة، لا إفراط فيها ولا تفريط، صحَّ عنه _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: "لن يُنْجي أحداً منكم عملُه، قالوا ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، سدّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، واستعينوا بشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا"(10). <font color="#0000FF">9 – لا تربط التزامك باهتمام الناس بك: </font> وليكن التزامك خالصاً لله _تبارك وتعالى_، ولا تربطه بفلان ولا علان، ومن كان له فضل عليك، خذ زينه واترك شينه، ولتكن علاقتك به بقصد واعتدال وتوازن، واحذر أن تتعلق به تعلقاً يدفعك إلى العمل أو يصدك عنه، فأحياناً قدوتك هذا قد ينشغل عنك، أو يزلّ، أو ينتكس، والنتيجة: ترك الالتزام. <font color="#0000FF">10 – اعمل بعلمك: </font> لأن الربط بين العلم والعمل تقوية للإيمان، وحرز _بإذن الله_ من الشيطان، إن الملتزم الذي تعلم بعض العلم، إذا لم يستفد من علمه ولم يعمل به، فسيصاب بالفتور غالباً، وهذا أدعى لرفض علمه وعدم القبول، بسبب تركه العمل به، ومرحلة الفتور، مرحلة خطيرة، قد تؤدي إلى الانتكاس في النهاية. واعلم أن العلم إذا لم يتحوّل إلى واقع عملي، فإنه على صاحبه شر ووبال، ولذا استعاذ الرسول _صلى الله عليه وسلم_ فيما صحّ عنه فقال: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع"(11). وأشير عليك بقراءة (اقتضاء العلم العمل) للبغدادي، و(حلية طالب العلم) لبكر أبو زيد، وشرحها لابن عثيمين. <font color="#0000FF">11 – انتبه، لا تتّبع الرخص وتتساهل: </font> فإن ذلك بوابة تولج في الغالب صاحبها في مواطن الردى، فكم من صاحب عبادة، قاده تساهله إلى أعظم الكبائر، وكم من صاحب علم، قاده تساهله إلى أن يكون من جملة العوام المقصرين. فاحذر أن تتساهل، فتشاهد الصور المحرمة، أو تعيش أو تعمل في مواطن الاختلاط المحرم، احذر أن تتّبع رخص العلماء في الفتاوى والمسائل، فتأخذ منها ما يناسبك، وتُحدِّث نفسك دائماً، وتقول: هو عالم، قال التيمي: "لو أخذت برخصة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله" ا.هـ(12). وإياك أن تحقر الصغائر، وتنغمس في المكروهات، فإنها أول العَطَب. <font color="#0000FF">12 – لا تترك الدعوة إلى الله _جل وعلا_: </font> قديماً كنتَ شعلة من النشاط، تهدي لهذا شريطاً، ولذاك كتاباً، تنصح هذا، وتأمر ذاك، غيّرت بيوتاً بأسرها، ومجتمعات بغالبها، كنت مثالاً حياً في الالتزام، ورمزاً عالياً في الدعوة أو التربية أو التعليم! وفجأة تترك العمل! لماذا؟ هل تتيح الفرصة لغيرك؟ إذن اعمل عملاً آخر، اسلك مجالاً دعوياً آخر. هل عندك من الحسنات ما يكفي؟ اتق الله، ما هذه الجرأة. هل تكتفي بما عملته في غابر الأيام؟ سبحان الله، هل ضمنت القبول عند الله _تبارك وتعالى_؟ هل مللتَ العمل وتستبدله بالأنس والسهر على السَمَر؟ عجباً، فما هذا بعمل الصادقين. إن الداعية أو المربي الملتزم الحقيقي، لا يَكَلّ ولا يَملّ، بل يجتهد بكل ما أوتي من قوة، وكلما تقدم به العمر، زادت خبرته، فوظّفها لصالح الدعوة إلى الله _عز وجل_ يحرص على تنمية إبداعاته ومواهبه، يطرد الفتور بكل ما يستطيع، شعاره "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر:99)، وأعظم العبادة، الدعوة إلى هذا الدين. <font color="#0000FF">13 – تخيّر ما يلائمك ويناسبك: </font> فلا تصحب إلا من تتوافق معه في الاهتمام والإبداع، في العلم أو التربية أو الدعوة أو الاحتساب، واحرص أن تكون سنّه مثل سنك، أو قريباً من ذلك، لا تقرأ ولا تسمع إلا ما تفهم، وتستطيع استيعابه ومعرفته، إياك ومطالعة الغرائب والعجائب، أو الكتب المشحونة بالأقاويل والخلافات، أو موضوعها مخالفات وردود وتعنيف وسباب وشتام. استشر، تصاحب من، استشر، ماذا تقرأ، استشر ماذا تفعل لأي غرض، واعلم أنه ما ندم من استشار، ولا خاب من استخار، فإن ذلك كله سبيل الخلاص من الانتكاس. <font color="#0000FF">14 – تكيّف مع أوضاع الصالحين: </font> من الصعوبة أحياناً على الملتزم أن يجد المجتمع الذي يلائمه، ويعيش فيه دون مصاعب، ولهذا لا بد من تحمّل هذه المصاعب، للحفاظ على دينه، والإنسان بين أمْرَيْن أمَرَّين، إما وحدة لا يطيقها مع ما يكتنفه من الوساوس والشكوك، أو الانخراط في ذلك المجتمع، وإن اختلف معهم في وجهات النظر والطباع، مع ما يلقاه منهم من أذى ومشقة. فعليك أن تجالس الصالحين الأخيار، وتتكيّف مع أوضاعهم، وتصبر على أذاهم، قال _صلى الله عليه وسلم_ فيما صحّ عنه: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"(13). <font color="#0000FF">15 – العزلة والخلطة بالمعروف: </font> فكثير من الذين تركوا الالتزام، سببه العزلة الدائمة وحدها، أو الخلطة الدائمة وحدها، واللائق بك الجمع بينهما، إذ لا يمكن التفريق بينهما، ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر، فنفسك أيها المستقيم، تحتاج أن تنعزل أحياناً للعبادة، أو تجنباً لمجالس اللهو والغفلة والباطل، أو للابتعاد عن المعاصي التي تعرض بسبب المخالطة، أو للخلاص من الفتن والتعرّض لأخطارها، وهكذا نفسك تحتاج أن تخالط أحياناً للتعلم والتعليم، أو للتأدب والتأديب، أو لأداء الحقوق المفروضة والمسنونة بين المسلمين، أو لترويح النفس. وكن على حذر دائماً من تلبيس إبليس. <font color="#0000FF">16 – املأ الفراغ: </font> فالفراغ الحسي الذي تعانيه، وكثيراً ما كان وبالاً على الملتزم المستقيم، يجب أن تقضيه في أمر نافع يعود عليك بالخير والبركة، حيث تكتسب الخبرات والمعارف، وإذا كنت جاداً في استقامتك، حريصاً على تزكية نفسك، فلا تدع وقتاً إلا شغلته، ولا فراغاً إلا ملأته؛ لأن نفسك إذا لم تشغلها بطاعة، شغلتك بمعصية، أوجد مكتبة في منزلك أو منزل أهلك، ليستفيد منها أهلك وأولادك وإخوانك، اقرأ في الكتب والمجلات النافعة، والدوريات المتخصصة، احضر المحاضرات والدروس في المساجد أو المجامع العلمية، اهتم بسماع الشريط النافع، اخدم والديك وأهلك وذويك، اقضِ حوائجهم، اكتسب بيدك، واعمل عملاً وظيفياً أو تجارياً لتعيش منه، لا تجلس وتقول: ماذا أفعل، لم أجد عملاً، لا أحب القراءة ولا السماع، لا أحب المشاركة في العمل، فإنه أول طريق الضياع. ولا تنسَ نصيبك من اللهو المباح والمتعة البريئة، وإجمام النفس بالسير والحكايات. <font color="#0000FF">17 – تحمّل أخطاءك: </font> فبعض الملتزمين المستقيمين قد يرتكب خطأ في مجمع علمي أو تربوي أو دعوي، فيعاقبه أستاذه أو مربيه، لمصلحته، كما لو حُرِم من رحلة أو لعب أو مشاركة أو جائزة أو هُجِر، فيصادف أن بعضهم لا يتحمّل العقوبة، وما تجره من ويلات نفسية أو غرامة مالية، أو تعب بدني، فينتكس بسبب ذلك، فليحذر المربي من مغبّة عقوبته. وواجبك إذا أخطأت أن تتحمل خطأك، وإياك وترك الالتزام والاستقامة بسبب هذه المشكلة، عليك أن تكون عاقلاً في قراراتك، وألا تأخذك العزة بالإثم، ثق بأساتذتك، ومن يقوم على تربيتك، وافهم أنهم ما فعلوا بك ذلك إلا من حبهم لك، وحرصهم على تربيتك وتوجيهك، ورغبتهم لك في الخير، وإذا قُدِّر أنك لم تُخطئ، فكن ذا صدر رحب واسع، وأحسن الظن بأخيك المربّي واحتسب ما أصابك، وعُدّه بلاء وفتنة، وأسأل الله التثبيت. <font color="#0000FF">18 - إذا واجهتك مشكلة، فاسأل المختص: </font> ولو أنك سألت غير المختص، وخاصة إذا كان هو أستاذك أو مربيك، وليس عنده علم، فغالباً يجيبك إجابة خاطئة، تتضرّر منها، وبعدها بمدة ستعلم خطأه، وكيف لم ينصح لك بحيث يوجّهك إلى المختص، وهذا كله مما يتسبب في ردة فعل عنيفة لديك أيها الملتزم، قد تؤدي إلى انتكاسك، وزيادة على ذلك، السب والقدح في ذلك المربي، فواجب المربين جميعاً ربط الشباب الناشئة بالعلم والعلماء، وألا يتحرّجوا أن يقولوا: لا نعلم، وليعلم الدعاة جميعاً أنهم يتبادلون الأدوار، فهذا يعلم، وهذا يربّي، وهذا يأمر وينهى، وهذا يدعو، وهذا يعظ، وهذا يساعد المحتاجين. <font color="#0000FF">19 – لا تستحِ من الناس: </font> فلو قُدِّر أنك تركت الالتزام، أو صاحبت أناساً ليسوا بمستقيمين، أو ظهر عليك علامات تدل أنك استبدلت الذي هو خير بالذي هو أدنى، فاحذر أن يُلبِّس عليك إبليس أمرك، ويوسوس إليك أنك منافق أو متذبذب، كلها أوهام وأحابيل شيطانية، اتركها، واستحِ من ربك حق الحياء، ولا تجعل حياءك من الناس سبباً في تركك لطريق الالتزام، فالله أحق أن يُستحيا منه. <font color="#0000FF">20 – لا تستعجل النتائج: </font> فبعض الملتزمين المستقيمين يقول: إذا كان هذا هو الطريق الذي ارتضاه الله لعباده، فلا بد أن يكون النصر حليفنا دائماً، فلماذا تأخر؟ ولماذا طال أمد الدعوة والتربية والتعليم؟ ولماذا كثيراً ما نُؤذى؟ ولماذا كثيراً ما نُبتلى؟ ولماذا لا يهتدي الناس؟ ولماذا يُضيّق علينا في تطبيق أحكام ديننا؟ ولماذا.. ولماذا..؟ وينتهي به المطاف إلى أن يترك طريق الالتزام، وكان الواجب عليه أن يلجأ إلى الله _تبارك وتعالى_، ويلوم نفسه، ويوقن أن العاقبة للمتقين، وأن التمكين في نهاية المطاف لأهل الإيمان، وأنه لا بد من تضحيات وجهد وعمل وصبر ومصابرة. فليبشر وليؤمّل ولا يستبطئ النصر، وإنّ غداً لناظره قريب. <font color="#0000FF">21 – لا تُحمّل نفسك ما لا تطيق: </font> لأن الإنسان بطبعه له طاقات محدّدة، والإنسان مكلف بما يستطيعه، فاحذر أن تحمّل نفسك شيئاً من العبادات من صلاة أو صيام أو قيام أو تعلّم أو تلاوة أو دعوة، ما لا طاقة لك به، إذ المتشدّد الغالي بفعله أو قوله يخالف سنة النبي _صلى الله عليه وسلم_، فلا يُعان على ذلك، ونفسه تملّ فتترك العمل، وقد يؤدّي به ذلك إلى ترك الاستقامة، فالاعتدال والتوسط والاقتصاد، أمر مطلوب، لا إفراط ولا تفريط، واعلم أن الاقتصاد في الأعمال، أصل عند السلف، فافهم ذلك جيداً. <font color="#0000FF">22 – تحمّل الضغوط الاجتماعية: </font> وأولها البيئة التي تعيش فيها، إقامة أو زيارة أو نزهة، احذر أن تؤثّر فيك أو تخدعك، فتقع في المعاصي، ثم الأهل، فأحياناً يُبتلى الملتزم بأسرة تصدّه عن تدينه ومحافظته على استقامته، أو تصدّه عن سلوكه سبيل الاحتساب، أمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، أو دعوة الناس وتعليمهم، فاثبت على مبدئك، ولا تستسلم، ثم الزواج، فالزواج حيناً نعمة، وحيناً أخرى نقمة، فإذا لم يكن أحدهما صالحاً، فواجب أن يتحمّل أحدهما فسق الآخر أو تساهله، ولا يرضخ ولا ينساق وراءه إلى الحرام، بل يسعى إلى الإصلاح والتغيير. وهذه الضغوط كثيراً ما تؤدي إلى انتكاس كثير من المستقيمين، إذ تجعلهم في شخصيات مزدوجة، تؤدي أدواراً معينة في أماكن معينة، فهو في بلده أو بين أهله أو مع زوجته، التقي النقي الصالح المصلح أو دون ذلك، وفي غير بلده أو بين زملائه الفاسق الفاجر، صاحب الشهوة والرذيلة، أو أحسن حالاً من ذلك. وهذه حقيقة، نماذج لا يُحتذى بها، بل هي فصام نكد، غالباً ما تكون نهايتها مؤسفة، انتكاسة وفضائح. <font color="#0000FF">23 – إياك والغرور وحب الصدارة: </font> فالملتزم متى كان متميزاً في عمله أو نشاطه، قد يصيبه الغرور إلى حدّ احتقار واستصغار كل ما يصدر من الآخرين، أو تسفيه الآراء، وبيان ضعفها وشططها، بل والقدح في أصحابها، وهذا مبدأ خراب النفس. وهكذا متى بلغ الملتزم مبلغاً معيناً، أو تدرّج في عمل، قد تتطلّع نفسه إلى حب الرئاسة والصدارة، حتى تصبح مخالطة لديه، وترى عمله ودعوته صارت تنحصر في تحصيل هذه المحمدة التي لا يُرجى نفعها، وحين لا يتحقق الهدف المنشود، تراه يبحث عنها في مكان آخر، ليتحقق مراده، ويحظى بمطلبه، ولو كان المجال مجال فسق وفجور، وهذه هي الطامة التي تقصم الظهر، الانتكاسة بعينها، فاحرص على علاج نفسك إذا رأيت فيها الغرور وحب الشهرة والرئاسة قبل أن يتفاقم الأمر، فالأمر خطير جدّ خطير. <font color="#0000FF">24 – احذر فتنة المال: </font> فكم من مستقيم باع دينه بحفنة من المال، بسبب قول أو فعل، وكم من آخر ضحّى بدينه خوفاً على منصبه، وخشية على رزقه، كما هو حال البعض في الوظائف والتجارات، إياك أن ترتكب الحرام، طمعاً في المال، فإنه طريق الهاوية، واعلم أن الأموال والوظائف والمناصب فانية، وأن الآخرة باقية، ولا تكن ممن قال الله عنهم: "أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ" (الأحقاف: من الآية20). وإن استطعت أن تجمع بين العبادة والتجارة فذاك، وإلا فلا، قال أبو الدرداء _رضي الله عنه_: "كنتُ تاجراً قبل المبعث، فلما جاء الإسلام جمعتُ التجارة والعبادة، فلم يجتمعا، فتركتُ التجارة، ولزمتُ العبادة"(14). <font color="#0000FF">25 – احذر أن تسيء الظن بزملائك: </font> فإذا كان لك ارتباط وثيق بصحبةٍ ما، فلا تحكم عليهم بناء على الشكوك والظنون، ثم تتخذ القرارات، بناء على هذه التصورات، فغالباً نهايتها نهاية مأساوية، ثمرتها ترك الصحبة والالتزام معاً، تجنّب كثيراً من الظنون، حتى ولو أصابك ضرر ما، أو تسبّب موقف أو حدثٌ في جرح مشاعرك، تثبّت من الأمر ولا تستعجل، ولهذا قال الله _تعالى_: "إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" (الحجرات: من الآية12)، عليك أن تحسن الظن بزملائك، وأن تلتمس العذر لهم، مهما كلفك الأمر، قال عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_: "لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً"(15). قال بعض السلف: "التمس لأخيك سبعين عذراً، فإن لم تجد، فقل: لعله له عذراً لا أعرفه". وإذا كان شيئاً لا يطاق، فافعل ما تشاء، لكن احذر الحرام، وترك الالتزام. <font color="#0000FF">26 – إياك وحسد غيرك: </font> فإنّ الحسد آفة خطيرة، إذا سكن القلب فقد تودّع منه، والحاسد إذا تمكن في حسده، فإنه لا يريد لغيره بروزاً ولا تميزاً، بل يتطور الأمر ببعضهم إلى حياكة المؤامرات، والتصرّف في أرزاق الناس، وما علم المسكين أنها ليس بيده، ولا بيد البشرية جمعاء، قال _تعالى_: "أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ" (الزخرف: من الآية32). والحاسد قلبه مريض، ومن كان قلبه مريضاً، فيبعد أن يثبت على استقامته والتزامه. <font color="#0000FF">27 – لا تستنكف من المتابعة والسؤال عنك: </font> فوالداك أو أحد إخوتك أو مربوك أو صاحبك، مطالب بمتابعتك؛ لأن الله قد استرعاه إياك، فعندما يلاحظ عليك ملاحظة سيئة، أو تقصيراً ظاهراً في تدينك وحرصك على الطاعة، فسوف يبادر إلى مناصحتك وتوجيهك، قبل استفحال المشكلة، حرصاً منه على إنقاذك من مغبة فعلك، وهذا هو الواجب، فإياك أن تمتعض أو تستاء من متابعته وسؤاله عنك، واعلم أن اتساع صدرك وقبولك النقد، عامل رئيس على الثبات، وكلما ضقتَ ذرعاً بالنعم، غير معترف بالخطأ، مبرراً أقوالك وأفعالك، كلما كنتَ أقرب للانتكاس، فافهم ذلك جيداً. <font color="#0000FF">أخي الكريم: </font> هذه بعض النصائح والتوجيهات، تحميك _بإذن الله تبارك وتعالى_ من الانتكاسة بعد الهداية، عُضّ عليها بالنواجذ، واهتم بها، فإن فيها خيراً كثيراً. أسأل الله _تبارك وتعالى_ لك التوفيق والسداد، وأن يبصّرنا وإياك طريق الهداية، وأن يهيئ لك من أمرك رشداً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين. _______________ (1) صحيح مسلم رقم (2654) القَدَر. (2) سنن الترمذي رقم (3522) الدعوات، صحيح سنن الترمذي، للألباني ج3 ص171 رقم (2792). (3) مسند أحمد رقم (23074) ط الرسالة ج 38 ص170، صحّحه المحقِّق. (4) صحيح البخاري رقم (3856) مناقب الأنصار. (5) السيرة النبوية، لابن هشام ج2 ص 5-8، السيرة النبوية، للصلابي ج1 ص218. (6) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ج4 ص514-522، سير أعلام النبلاء، للذهبي ج2 ص153. (7) السيرة النبوية، لابن هشام ج1 ص344، السيرة النبوية، للصلابي ج1 ص180. (8) السيرة النبوية، لابن هشام ج1 ص346، السيرة النبويةن للصلابي ج1 ص184. (9) انظر تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ج1 ص427-433، حقيقة الانتصار، لناصر العمر ص44-55. (10) صحيح البخاري رقم (6463) الرقاق، صحيح مسلم رقم (2816) صفات المنافقين. (11) سنن النسائي رقم (5472) الاستعاذة، صحيح النسائي، للألباني ج3 ص1112 رقم (5053). (12) جامع بيان العلم، لابن عبد البر ج2 ص927 رقم (1766). (13) سنن ابن ماجه رقم (4032) الفتن، الصحيحة، للألباني ج2 ص652 رقم (939). (14) طبقات ابن سعد ج7 ص 391. (15) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ج5 ص654 "سورة الحجرات".