البلل إذ يصل الى ذقوننا

في الثمانينات من القرن الماضي، و قبل عصر الفضائيات، عندما كنا لا نزال بريئين في تعاملنا مع وسائل الاعلام، كانت شاشاتنا العربية الصغيرة تعرض مساسلا كوميديا باللغة الانجليزية بعنوان الأصدقاء الثلاثة Three’s Company يتناول حياة ثلاثة أصدقاء، رجل و امرأتين، يعيشون جميعا في نفس المنزل. و في قالب الكوميديا الطريفة و الشخصيات الجذابة نسينا شرعية الفكرة من عدمها .

 و استمرعرض المسلسل سنوات و سنوات بين العرض و إعادة العرض، لم نتساءل خلالها عن الأفكار التي بثها هذا المسلسل في مجتمعاتنا، كان هذا الإطار بعيدا، في مجتمع غربي و قارة أخرى، و نحن فقط مشاهدون نتسلى و نقتل الوقت، و الأمر بعيد عنا و لا يحتاج لكل هذه  "الحنبلية " في تقيمه و التعامل معه

و بمنطق الاستبعاد، و أن هذا يحصل للآخرين فقط، و مجتمعنا آمن من هذه الشرور، تسلل إلينا عمل آخر يمجد نفس الفكرة، المساكنة و الاختلاط  و الشراكة و الزمالة بين الجنسين partnership، و هو مسلسل الأصدقاء Friends الذي ما زالت القنوات و الفضائيات العربية تتنافس في عرضه و إعادة عرضه مرات و مرات بالرغم من انتهاء بثه في أمريكا منذ سنوات.

 و فكرته تقوم على عرض حياة ثلاث شابات و ثلاثة شبان يعيشون سويا، أربعة منهم يرتبطون بعلاقات حب و انجاب بعد سكنهم سويا دون زواج، بينما الاثنان الاخران، امرأة و رجل غريبي الأطوار مع بعض التلميحات أن الرجل له ميول شاذة بعض الشيء

المسلسل قُوبل بحالة من التعلق و الهوس في المجتمع العربي، و أصبحت فكرة الصداقة اللامحدودة بين الجنسين طبيعية و محبذة دون النظر الى شرعيتها و أبعادها في إطارنا العربي الاسلامي، بل جاءت بعض القوانين و المعاهدات الأممية في مجال المرأة و الأسرة و الطفل التي وقعت عليها الدول العربية تعطي الحق للإناث خصوصا في السكن بعيدا عن عائلاتهم و تدعم ذلك بتبريرات تعتبرها إيجابية في إعطاء الاستقلالية للمرأة و تطوير قدرتها بالاعتماد على نفسها، و التطور القادم، كما حصل في الغرب، أن يفقد الأهل أي سلطة على أولادهم بحيث يستطيع الأولاد الاستعانة بالشرطة لو رفض الأهل لهم طلبا بحجة العنف، فلا يبقى دور للأسرة و لا دور للتربية

لقد شعرنا بالأمان طويلا، و خلقنا دوائر حماية واهية، فما دام الأمر لا يحصل في مجتمعنا فلا بأس، و ما دام لا يحصل في بلدنا فلا داعي للقلق، حتى تساقطت دوائر الأمان واحدة تلو الأخرى و أصبحت أسرنا مستهدفة من قبل المؤسسات الدولية و المحلية

لقد أخذنا موقف المتفرج طويلا امام شاشات التلفاز، و " استهبلنا" أنفسنا " فاستهبلنا" الاعلام أكثر، و سكتنا عن الاعتراض فأعطونا زيادة في جرعات الاستهداف و الاختبار.

لا نريد أن نتعامل مع كل ما يعرض في وسائل الاعلام بنظرية المؤامرة، و لكن لا بد من إدراك أن هناك خطة مرسومة و موجهة لبث أفكار غير الترفيه و التسلية و أن اختيار ما يعرض لا يتم بالقرعة أو بالصدفة

 ففي أول المسلسلات التركية مثلا كانت حوادث الزنى تحصل في العائلات البرجوازية التي قد لا يقيدها عادة و لا شرع، و لتفاعلنا مع البطلة نسينا ما ارتكبته من الرذيلة و أصبحنا نريد لقصتها أن تنتهي بنهاية سندريلا السعيدة، و تعيش في " ثبات و نبات و تخلف صبيانا و بناتا " ، و ما بين الجمال و الحبكة و حرب الخير و الشر، نسينا الخطيئة و الشر الأكبر و أصبحت العلاقات الآثمة خارج إطار الزواج أمر نسبي يقيم في إطاره و لا يُجرّم و لا يُنتقد

و في ظل دوائر الأمان فقد ظل الاستبعاد لخطورة هذه الأفكار قائما، فهذا يحصل في المجتمعات المخملية، و نحن مجتمعات عربية محافظة، حتى جاء المسلسل اللاحق الذي تناول الحب و العلاقات، و لكن في إطار القرية و بين البسطاء حيث الفتيات يرتدين غطاء الرأس و السراويل الطويلة، و الرجال يصلون في المسجد، و الخطيئة ذاتها لم تعد خطيئة، بل حبا مباحا و خيارا حرا و على الأسوأ مشكلة يمكن اصلاحها و خرق يمكن رقعه، و اما المسلسل الثالث فأصبح اكثر واقعية، و لم يعد محصورا في وسائل الاعلام و خلف عدسات الكاميرا، بل أصبحنا نشاهده في مجتمعاتنا فكثر اللقطاء و أطفال الشوارع و انتهاك الحرمات و التحرش الجنسي، و تحولت المساكنة و المعاشرة و المشاركة من تجارب فردية في مجتمعات بعيدة الى قوانين وضعية تفتح المجال لأولاد العرب و بناتهم بالتصرف على هواهم دون مراعاة لدين أو أسرة

لقد ظللنا نشعر بالأمان حتى وصل البلل الى ذقوننا فإلى متى سنسكت و نتعامل مع ما يأتينا عبر الشاشة الصغيرة على انه مجرد فن و تسلية؟؟؟