التعلم الذاتي

تمتاز مساجد العالم الإسلامي بوجود الحلقات العلمية لكبار العلماء وطلبة العلم الشرعي في مختلف العلوم ، وفي الفترة الأخيرة برز توجه الشباب لطلب العلم الشرعي على أيدي أولئك العلماء ، ولا شك أن ذلك هو المنهج الصحيح لطلب العلم الشرعي .
وعلى الرغم من كثرة المتوجهين لطلب العلم ، وكثرة ملازمتهم ومداومتهم للعلماء ، وطول السنين في الطلب ، إلا أن تحصيلهم العلمي دون المستوى المطلوب ، وذلك لأنهم أهملوا مهارات التعلم الذاتي ، معرفةً وأداءً ، فلا بد مع حضور حلقات العلم أن يصاحب ذلك الجهد الذاتي في تثبيت ما تعلمه علي أيدي العلماء .

المهارات والأساليب :

أولاً : مرحلة الاستعداد والتهيؤ لطلب العلم :

1 ) الاستقامة والصلاح :
وتشمل :

1 – إخلاص النية لله تعالى في طلب العلم ، وهذا يتطلب الحذر من شهوتين خفيتين : الأولى : اتخاذ العلم وسيلةً لنيل عرض من أعراض الدنيا ، والثانية : اتخاذ العلم وسيلة لنيل الرئاسات والشرف والأمجاد الشخصية والعلو على الناس .
يقول الشوكاني : " وإن لحسن النية وإخلاص العمل تأثيراً عظيماً في هذا المعنى ، فمن تعكست بعض أموره من طلبة العلم أو أكلف عليه مطالبه ، وتضايقت مقاصده ، فليعلم أنه بذنبه أصيب ، وبعدم إخلاصه عوقب .... " .

2 – اجتناب مفسدات القلوب : وهي كثرة الكلام والطعام والنوم والخلطة .
يقول ابن جماعة : " من رام الفلاح في العلم وتحصيل البغية منه مع كثرة الأكل والشرب والنوم فقد رام مستحيلاً " .
ويقول ابن الجوزي : " قلة الخلطة لا تصلح إلا لاثنين : رجل عابد قد تعلم ويريد الاعتزال ليتفرغ لعبادة ربه على بينة وبصيرة ، وطالب علم يريد العزلة عن الناس ، ليعكف على الكتب ويحفظها ويضبطها " .

3 – اجتناب المعاصي والذنوب صغائرها وكبائرها :
فالوقوع في المعاصي له أثر عقلي ونفسي في إضعاف التعلم .
أما أثره العقلي فظاهر في قوله تعالى : ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) [ البقرة : 282 ] ، فالعقل يظل مشغولاً بالمعاصي طلباً إن كان منقاداً لها ، أو يظل مشتتاً إن كان متردداً فيها .
وأما أثره النفسي : فالمذنب دائماً قلقٌ خائفٌ مشتتُ النفس ، متألم الوجدان ، مكبوت النفس ، ضيق الصدر ، ويستوي في ذلك الواقع في المعاصي والذي يفكر فيها مجرد تفكير ، وهذا يعوقه عن التركيز على العلم ، بل لا يستطيع تثبيت المعلومات في ذهنه ، لأن التعلم لا يتم إلا عند انشراح النفس ، والإقبال عليه بكل تركيز .

4 – العمل بالعلم :
يقول أحد السلف : " كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به " .

2 ) تكييف البيئة الاجتماعية للتعلم :
وتشمل :
1 – الابتعاد عن مواطن المغريات والملهيات التي تضيع الوقت .
2 – عدم مسايرة المجتمع في قلب الحياة إلى لهو وعبث وتسلية ، مثل : كثرة الرحلات والزيارات والمناسبات العائلية ، وغيرها .
3 – تحديد العلاقة بالمجتمع والرفقاء :
أ – اختيار الأصدقاء والأصحاب ممن يميلون لطلب العلم ، ويقضون أوقاتهم في التحصيل والمراجعة والتصنيف .
ب – تقليل الاختلاط بالناس بقدر الضرورة ، مع ضبط مواعيد لزيارة الأقرباء والأصحاب .
ج – الابتعاد بقدر الإمكان عن الحياة اليومية وإعطاء فرصة للعقل للتفكير والتدبر في العلوم .

3 ) تكوين قوة الإرادة :
قال الخطيب البغدادي : " إنما يقطع السفر بلزوم الجادة ، وسير الليل ، فإذا حاد المسافر عن الطريق ، ونام الليل كله فمتى يصل إلى مقصده " .
وقال ابن الجوزي : " تأملت عجباً ، وهو أن كل شيء نفيس خطير ، يطول طريقه ويكثر التعب في تحصيله ، فإن العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر ، والتكرار وهجر اللذات والراحة " .
وقوة الإرادة تحقق التقدم العلمي في أوقات قصيرة ، وتساعد على الاستمرار في طلب العلم وعدم الانقطاع أو الملل ، وتجعل طالب العلم يختلق فرص التعلم ويستثمرها ، ويزيد تركيزه ويتغلب على المعوقات .
ولتقوية الإرادة وسائل عديدة ، منها :
1 – الإيحاء الذاتي بأنك إنسان قادر على التعلم ، ولا تتهم نفسك بالعجز ، وبه تستطيع أن تغير شخصيتك .
2 – قراءة الكتب في العلوم التربوية وعلم النفس التي تبين أسباب قوة وضعف الإرادة .
3 – قراءة تراجم العلماء ، ومعرفة طريقتهم في طلب العلم .
4 – الممارسة المستمرة ، فاعمل كل عمل يساعد على طلب العلم ، واجتنب كل عمل يضعف طلبك للعلم ، وقد لا تستطيع أن تفعل كل ما تريد فعله ، وقد لا تستطيع أن تترك كل ما تريد تركه مرة واحدة ، ولكن ابدأ بالتدريج ، حتى تكثر الأفعال التي تريد تحقيقها ، وتقل الأفعال التي تريد اجتنابها .

4 ) تنمية الذكاء :
ويكون بعدة وسائل ، منها :
1 – كثرة الإطلاع والتوسع في العلم : وقد أجرى العلماء تجارب بين مجموعتين من الطلبة مستواهما في الذكاء واحد ، إلا أن الأولى قطعت مرحلة واحدة من مراحل التعليم ، والثانية قطعت مرحلتين ، فوجدوا أن الثانية أكثر إدراكاً وأسرع فهماً من الأولى " .
2 – الثقة بالنفس : فبعض الناس قد يكون ذكياً ، ولكن قد يكون اعتقاده بنفسه عكس ذلك تماماً ، وهنا يكون أثره سلبياً ، ويكون عائقاً للنمو ، ويكون الأمر عكس ذلك لو أن شخصاً كان كثير الثقة بنفسه ، فإن هذا الاعتقاد يكون عاملاً من عوامل النمو .
3 – جميع الوسائل التي سيأتي ذكرها في المرحلة الثانية .

5 ) اختيار الأوقات والأماكن المناسبة لطلب العلم :
يقول الخطيب البغدادي : " اعلم أن للحفظ ساعات ينبغي لمن أراد التحفظ أن يراعيها ، وللحفظ أماكن ينبغي للمتحفظ أن يلزمها ، فأجود الأوقات للحفظ الأسحار ، ثم بعدها وقت انتصاف النهار ، وبعدها الغُدوات ( أول النهار ) دون العشيات ، وحفظ الليل أصلح من حفظ النهار ، قيل لبعضهم : بم أدركت هذا العلم : قال : بالمصباح والجلوس إلى الصباح ، وقيل لآخر: بم حصلت هذا العلم ؟ قال : بالسفر والسهر والبكور والسحر ، وأجود أماكن الحفظ الغرف ( أي العالية ) دون السفل ( لأن العالية أبعد عن الضجيج ) ، وكل موضع بعيد مما يلهي ، يخلو القلب فيه مما يشغله ، وليس بالمحمود أن يتحفظ الرجل بحضرة النبات والخضرة ، ولا على شطوط الأنهار ، ولا على قوارع الطريق ... فمن راعى ما رسمت له لم يكد يسمع شيئاً إلا سهل عليه حفظه " .
وقال ابن جماعة : " وأجود الأوقات للحفظ الأسحار ، وللبحث الأبكار ، وللكتابة وسط النهار ، وللمطالعة والمذاكرة الليل " .

ثانياً : مرحلة البدء في طلب العلم :
1 ) بذل كامل الجهد اللازم للتعلم :
ويشمل :
1 – معرفة قيمة الوقت وقيمة الجهد ، والتركيز على طلب العلم وتحصيله ومراجعته ، ولذا نجد بعض المتعلمين يحصل الكثير من العلم في مدة قليلة ، وآخرون بالرغم من طول طلبهم للعلم لا يستطيعون أن يحصلوا شيئاً .
2 – التفرغ لطلب العلم ، فيكون الهدف الأساس هو طلب العلم وجعل كل ما عداه غرضاً ثانوياً ، وإذا تعارضت مصلحتان رجح مصلحة العلم على جميع المصالح الأخرى ما أمكن ذلك .

2 ) طرق تحصيل المعلومات :
هناك طريقتان هما : التصاعدية وهي الانتقال من الجزئيات إلى الكليات ، أي إدراك الجزئيات ثم الانتقال إلى الكليات ، فمثلاً : لإدراك قاعدة معينة أو موضوع خاص يبدأ بإدراك الأجزاء الداخلة تحتها واحدة تلو الأخرى ، ثم بعد إدراك جميع هذه الجزئيات ينتقل إلى القاعدة الكلية التي تربط بين هذه الأجزاء ، أو تجمع بين العلاقات الموجودة بين تلك الأجزاء .
والتنازلية : وهي عكس الأولى ، أي الانتقال من القاعدة الكلية إلى الأجزاء المنطوية تحتها ، فمثلاً : لإدراك موضوع أو قاعدة تبدأ بفهم المفهوم الكلي دون الاهتمام بالأجزاء ، ثم بعد ذلك تبدأ بمعرفة الأجزاء واحدة تلو الأخرى .
وليس هناك تفضيل بينهما لدى المربين ، فهذا يرجع للمتعلم وقدراته ، وبعض المربين يفضل الأولى في ميدان الحفظ .
وأما قوانين تحصيل المعلومات فهي :
1 – حفظ الكلمات مع فهم معانيها أسهل من حفظها من غير فهم معانيها .
2 – التكرار الموزع لمعرفة الشيء أو حفظه أجدى من التكرار المتصل .
3 – إذا كان المتن المراد حفظه أو استذكاره طويلاً ، فإن تقسيمه إلى أجزاء منطقية أنفع من حفظه واستذكاره مرة واحدة .
4 – يجب أن يستعيد طالب العلم ما حفظه واستذكره بنفسه ، فإن كان يريد استعادة الأفكار التي مرت به ، فعليه استعادتها دون الرجوع للكتاب ، وإن كان يريد استعادة محفوظات فعليه أن يقوم بتسميع ذاتي .
5 – اتخاذ هيئة معينة للمذاكرة والمراجعة تركز نشاطه وقواه في التحصيل له دور كبير في عملية التحصيل ، وهو أن يجلس مستقيماً متهيئاً مركزاً كل جهده لقراءة الكتاب .

3 ) طرق مقاومة النسيان :
النسيان من أهم المشاكل التي تعترض طريق التحصيل وتحول دون رسوخ المعلومات في الذهن ، وما من أحد إلا ويعاني منه ، وإن تفاوت الناس فيه من حيث الكم والكيف .
وقد بحث علماء سيكولوجية التعلم طرق مقاومته ، ومنها :
1 – استخدام المعلومات المكتسبة باستمرار : قال إبراهيم النخعي : " من سره أن يحفظ الحديث ، فليحدث به ولو أن يحدث به من لا يشتهيه ، فإنه إذا فعل ذلك كان كالكتاب في صدره " .
وكان الزهري يسمع الحديث ، فيأتي إلى جارية له وهي نائمة فيوقظها ويقول : " اسمعي : حدثني فلان كذا وفلان كذا ، فتقول الجارية : ما لي ولهذا الحديث ، فيقول : قد علمت أنك لا تنتفعين به ، ولكني سمعته الآن ، فأردت أن استذكره " .
وقال زياد بن سعد : ذهبنا مع الزهري إلى أرضه بالشغب ، فكان الزهري يجمع الأعاريب ( البدو ) فيحدثهم بالحديث ليحفظه .
ومن أعظم استخدام المعلومات : أن يقوم طالب العلم بإلقاء الدروس والكلمات على عامة الناس ، والدعوة إلى الله تعالى ، والعمل بالعلم .
2 – تكرار الموضوع المدروس في فترات متقاربة حتى يرسخ في الذهن :
ذكر القيرواني في كتابه : طبقات علماء أفريقية وتونس في ترجمة المحدث عباس بن الوليد الفاسي : أن بعض إخوانه وجدوا مكتوباً في آخر بعض كتبه : درست هذا الكتاب ألف مرة .
وقال المحدث الفقيه المالكي محمد بن عبدالله الأبهري : قرأت مختصر ابن عبدالحكم خمسمائة مرة ، وكتاب الأسدية خمساً وسبعين مرة ، والموطأ خمساً وأربعين مرة ، ومختصر البرقي سبعين مرة ، والمبسوط ثلاثين مرة .
وقال ابن بشكوال الأندلسي في ترجمة الحافظ غالب بن عبدالرحمن المحاربي : قرأت بخط بعض أصحابنا أنه سمع غالب المحاربي الإمام يقول : قرأت البخاري سبعمائة مرة .
وقال السخاوي في ترجمة الحافظ برهان الدين الحلبي : أنه قرأ البخاري أكثر من ستين مرة ، ومسلماً نحو العشرين ، سوى قراءته لهما في حال الطلب أو قراءتهما من غيره عليه .
3 – إعطاء فرصة للراحة بعد فترة من المراجعة والحفظ للعلم :
ذكر العالم السيكولوجي ابنجهاوس بعد تجربة أجراها بين مجموعتين من الطلبة ، فكلف المجموعة الأولى بحفظ موضوع معين ، وبعد الحفظ مباشرة ذهبت للنوم أو الراحة دون الاشتغال بشيء آخر ، وذهبت المجموعة الثانية بعد حفظ نفس
الموضوع لدراسة وحفظ معلومات جديدة أو لتقوم بعمل آخر ، وبعد اختبار الفريقين وجد أن المجموعة الأولى لم تنسى ما حفظت ونسيت الثانية .
4 – عدم مذاكرة العلم في حالة الإرهاق والاضطرابات النفسية ، لأن هاتين الحالتين لا تساعدان على رسوخ المعلومات ولا فهمها ، بالإضافة إلى ضخامة الجهد المبذول للفهم والحفظ .
5 – التركيز والفهم الجيد والتمييز بين الأفكار ومعرفة العلاقات بينها ، والاسترجاع الذاتي للمعلومات السابقة .
6 – مراجعة ما تعلمته في صباح اليوم التالي قبل الانشغال بأية معلومات جديدة .
7 – مذاكرة ومراجعة العلم مع طلبة العلم الجادين المتميزين :
قال إبراهيم النخعي : إنه ليطول عليّ الليل حتى ألقى أصحابي فأذاكرهم .
وقال علقمة : تذاكروا الحديث ، فإن حياته ذكره " أي مذاكرته " .
وقال قتيبة بن سعيد : كان وكيع بن الجراح إذا صلى العشاء ينصرف معه أحمد بن حنبل ، فيقف على الباب ، فيتذاكران الحديث ، فما يزالان يتذاكران حتى تأتي الجارية وتقول : قد طلع الكوكب .
8 – العلاج المادي من بعض الأمراض :
فالنقص في بعض الغدد مثل الغدة الدرقية يؤدي إلى كثرة النسيان ، ونقص فيتامين ( ب 1 ) يؤدي إلى نقص الأنسجة في الجسم وبخاصة ضعف الأعصاب ، والذي يؤدي إلى ضعف العقل ، ونقص فيتامين ( ب 12 ) يؤدي إلى فقر الدم .

ثالثاً : مرحلة المراجعة :

1 ) طرق تثبيت المعلومات :

1 – الفهم الجيد : فبدونه لا يمكن تكوين القدرة العلمية الصحيحة .
2 – المراجعة : تعرض في نفسك ما درسته بعد القراءة مباشرة ، وتهتم فيها بثلاثة أمور :
أ – أن تستعرض أهم النقاط أو الأفكار الرئيسة .
ب – أن تلاحظ الترتيب المنطقي بين هذه الأفكار .
ج – أن تراجع على هذين الأساسين ما قرأته بعد الاستيقاظ من النوم في اليوم التالي قبل البدء بمذاكرة جديدة .
وإذا راجعت على هذا النحو ثلاث مرات تجد أن الموضوع أصبح مفهوماً وواضحاً وراسخاً في ذاكرتك ، وتستطيع استرجاعها مرة أخرى في أي وقت شئت .
3 – المناقشة : وهي أن تناقش المعلومات بنفسك أو مع غيرك مناقشة علمية .

2 ) طرق تسهيل الاسترجاع :

1 – إلقاء الكلمات والمحاضرات ، والمناقشة مع العلماء وطلبة العلم .
2 – الاهتمام بموضوع ما أو كتاب ما من عوامل المساعدة على الاسترجاع ، وبقدر اهتمام طالب العلم بالموضوع أو الكتاب يجد السهولة في استرجاعه .
3 – قانون التردد : فبقدر تردد طالب العلم على فكرة معينة يجد السهولة في استرجاعها .
4 – قانون الأولية : أي أن المعلومات التي يكتسبها طالب العلم في بدء مذاكرته كل يوم ، وفي بداية قراءة موضوع جديد ، فهذه المعلومات أكثر ثباتاً من المعلومات اللاحقة بها ما عدا الأخيرة ، وبالتالي فإنها أسهل في الاسترجاع .
5 – قانون الحداثة : أي أن أحدث المعلومات التي اكتسبها طالب العلم في حياته وفي يومه ، فإنها أسهل في الاسترجاع من غيرها .
6 – قانون الشدة : ويقصد بها الخبرات القوية ذات التأثير الشديد على طالب العلم إذا لقي صعوبة في اكتسابها .