مسائل في التوبة<font color="#FF0000"><sub>للشيخ محمد الحمد</sub></font>

الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على أزكى البريات، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين،أما بعد:
فإن رمضانَ شهرُ التوبةِ، وموسمَ الرجوع والإنابة،حيث يثوب الغاوون إلى رشدهم، ويُقْصِرُ المتمادون فيه عن غَيِّهم.
وفي هذا الشهر الكريم تكثر الأسئلةُ عن أحكام التوبةِ، وتلحُّ الحاجةُ إلى بيان تلك الأحكام التي يتكرر عنها السؤال.
وإليكم _معاشر الصائمين_ جملةً من المسائل في هذا الباب على سبيل الإيجاز.
فمن تلك المسائل: مسألة التخلص من الحقوق , والتحلل من المظالم؛ فالتوبة تكون من حق الله، وحقِّ العباد، فحقُّ الله_تعالى_ يكفي في التوبة منه أن يترك ما كان يفعله من النواهي، وأن يفعل ما كان يتركه من الأوامر.
ومن حقوق الله ما يجب فيه مع التوبةِ القضاءُ والكفارةُ كما هو مفصّلٌ في مواضعه.
وأما حق غير الله_فَيَحْتَاجُ إلى التحلل من المظالم فيه، وإلى أداء الحقوق إلى مستحقيها، و إلا لم يحصلِ الخلاصُ من ضرر ذلك الذنب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال، أو عرض؛ فليتحلَّلْهُ اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات) أخرجه البخاري.
ولكن من لم يقدر على الإيصال بعد بذله الوُسعَ في ذلك؛ فعفو الله مأمول، فإنه يضمن التبعاتِ، ويبدل السيئاتِ حسناتٍ.
أيها الصائمون: ومما يدخل في الحقوق والمظالم التي يجب التحلل منها _الحقوق المالية، فإن كان لدى التائب مظلمةٌ ماليةٌ لأحد من الناس فليردَّها عليه سواء كانت غصباً، أو تحيُّلاً، أو سرقـة، أو جحداً لأمانة مالية، أو نحو ذلك.
وبعض الناس قد يستحيي من ردِّ تلك المظلمة , خصوصاً إذا كانت سرقة.
والحَلُّ في مثل هذا الحال يسير _بحمد الله_ فإما أن يذهب بنفسه لصاحب الحق، ويخبرَه بما كان من أمره , ويرد عليه ما أخذه منه، أو أن يتحلل منه , وإما أن يهاتفه عبر الهاتف، ويتفق معه على حلّ معين، وإما أن يرسل له المبلغ عبر البريد، أو أن يوسط أحداً من الناس ليقوم بالوساطة في هذا الشأن.
وإن كان لا يعرف صاحبَ تلك المظلمةِ، أو أن يكون قد بحث عنه فلم يجدْه، ولم يعرف أحداً من قرابته، أو أن يكون مع ذلك قد نسي مقدارَ تلك المظلمةِ، أو أن يكون نسي صاحبَ المظلمة _فليقدِّرْ ما أخذ منه، وليتصدقْ به عنه.
وإذا كانت المظلمة من نوع الجراحات في الأبدان_فالتوبةُ منها أن يمكِّن صاحبَ الحق من استيفاء حقِّه إما بالمال، وإما بالقصاص، أو العفو؛ فإن لم يَعْرِفْه، أو لم يتمكنْ من لقائه فلْيدعُ له ولْيتصدقْ عنه إن استطاع.
وإذا كانت المظلمة في الأعراض , كأن تكون بقدح في أحد بغِيبة، أو نميمة، أو قذف، أو وشاية، أو أن تكون بإفساد لذات البين فليتحللْ ممن أساء إليه، ولْيصلح ما أفسد بقدر الإمكان.
فإن كان إذا أخبر مَنْ أساء في حقهم لا يغضبون عليه، ولا يورِثهم ذلك غماً _ صارحهم،وطلب منهم المسامحة بعبارات عامة كأن يقول: إني أخطأت في حقك في الماضي، وأسأت فهمك , فظلمتُك بكلامٍ تَبَيَّن لي فيما بعدُ خطؤه، وإنني تبت الآن فسامحني_فلا بأس فقد يكون المُخبَرُ كريماً يقيل العثرة، ويتجاوز عن الزَّلة.
أما إن كانوا ممن إذا أخبرهم أحد بما اغتابهم أو قذفهم به حنقوا عليه، وازدادوا غماً، أو أنهم لا يرضون بالعبارات العامة، ولا يقنعون إلا بالتفاصيل التي إذا سمعوها زادوا هماً وكراهية لهذا الشخص_فإنه حينئذ لا يخبرهم، بل يكفي توبته فيما بينه وبين الله، وأن يذكر المُسَاءَ إليه بخير وإحسان؛ فيبدل ذمه بمدحه والاستغفار له فهذا هو المتعين في مثل هذه الحالة؛ لأن الإعلام _والحالة هذه_ مَفْسَدةٌ لا تتضمن مصلحةً؛ إذا الإعلام قد يورث الحربَ، والعداوةَ، والغمَّ، و البغضاء؛ وهذا ضِدُّ مقصود الشارع من تأليف القلوب، والتراحم، والتعاطف.
وإذا كانت مظلَمةُ الأعراضِ متعلقةً بالمحارم ثم تاب منها _فشأنها شأن المسألة الماضية من جهة الاستتار، وتركِ الإعلامِ، فتكون توبةُ الإنسانِ فيما بينه وبين ربه؛ بل إن مصلحة الإخفاء هنا أكبر؛ لأن مصلحة الإعلام لا تكاد تذكر.
فإذا تاب الإنسانُ _على سبيل المثال_ من معاكسة إحدى محارم المسلمين، أو حصل بينهما لقاءٌ، أو خلوةٌ،أو نحو ذلك_فَلْيَسْتَتِرْ بستر الله؛ لأنه إذا أخبر وَلَّيها؛ ليتحلل منه حصل مفسدةٌ أكبرُ، فقد يسعى الوليُّ للتّشفِّي، والانتقام، وقد يـتأذى كثيراً بمجرد علمه، وقد يحصل قتلٌ، وطلاقٌ، وفسادٌ عريضٌ.
أما إذا كان في الإخبار مصلحة، كأن تكون المرأة التي حصل منها ما حصل مستمرةً في غيها, ثم تاب من يعاكسها_فلا بأس بإشعار وليها, أو أحد معارفها العقلاء عبر الرسالة، أو الهاتف، حتى يقف الفساد عند حد.
وإذا كانت المظلمةُ عامةٌ يتضرر منها عموم الناس _فالتوبة في حق من يقـوم بذلك أوجب؛ لأن ضررها متعدٍّ.
وذلك كحال من كان صحفياً يبث سمومه عبر وسائل الإعلام، أو كان ممثلاً يغري بالرذيلة، ويزري بالفضيلة من خلال تمثيله، أو كان أديباً أو كاتباً ينشر الخَنا والزور، أو كان مبتدعاً في دين الله ناشراً لبدعته , أو أياً كان ممن يستخدم مواهبَه وإمكاناتِه لمحاربة الخير ونشر الشر_فالواجب على هؤلاء أن يتوبوا، وتوبتُهم تكون بترك ما يقومون به، وبالندم على ما فات من أمرهم، وإعلان الخطأ إن استطاعوا، واستقبال بقية العمر بالإكثار من الطاعات، والحرصِ على هداية من تسببوا في إغوائهم، وتسخير الموهبة والمكانة لخدمة الدين.
وبالجملة فكلُّ مظلمةٍ يستطيع الإنسانُ أن يتحللَ منها فليفعلْ،وما لم يستطع _ فلا حرج عليه؛ فعفو الله مأمول، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ومن المسائل في باب التوبة: مسألةُ نقضِ التوبة، فالإنسان إذا تاب من ذنب ثم عاد إليه مرة أخرى يكون ناقضاً للتوبة؛ فيلزمه حينئذ أن يجدِّدَ توبتَه.
ولا يرجع إليه _في هذه الحالة_ إثمُ الذنب الذي تاب منه، والعائد إليه إنما هو إثمُ الذنبِ الجديدِ المستأنفِ لا الماضي؛ لأن الماضي قد ارتفع بالتوبة، وصار بمنـزلة ما لم يَعْملْه.
وعلى هذا فلا يجوز للتائب إذا ابتلي بالذنب مرة أخرى أن يدع التوبة؛ بحجة أنه نقض التوبة، بل عليه أن يتوب، وأن يرجع إلى ربه كلما أحدث ذنباً.
اللهم ارزقنا التوبة النصوح؛ التي ترضيك عنا , واجعلنا من عتقائك في هذا الشهر الكريم.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.